المحاضرة 5: مدرسة براغ 2

(نظرية الفونيم عند تروبتسكوي)

تمهيد:

      تروبتسكوي عالم لساني روسي ولد سنة 1890 بموسكو وتوفي سنة 1938 بفيينا أحبّ الدراسات اللغوية منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره ، وكان طالبا في قسم اللغة الهندو أوروبية في الجامعة التي كان يديرها والده، أصبح في سنة 1916 عضوا في هيئة التدريس، انتقل إلى فيينا سنة 1922 حيث درس فقه اللغة السلافية، وأصبح عضوا في "مدرسة براغ"، ويعد تروبتسكوي مؤسس علم الفونولوجيا، ففي مؤتمر اللسانيات العالمي الأول الذي عقد بمدينة (لاهاي) سنة 1928، تقدم بالاشتراك مع جاكوبسون وكارسفسكي ببرنامج واضح للدراسة الفونولوجية، نشأت حوله مدرسة براغ اللسانية، وأصدر سنة 1939 كتابه" مبادئ الفونولوجيا "الذي ترجم إلى الفرنسية سنة 1949، تندرج أفكاره في إطار المفهوم الوظيفي الذي نادت به مدرسة براغ، والذي ينظر للغة على أنها نظم وظيفية قائمة على وسائط تعبيرية، مستعملة بهدف إقرار غاية معينة وهي التاصل.

أ- وظيفية اللغة وأهمية الجانب الصوتي عند تروبيسكوي:

    اهتمّ هذا الباحث بالتأكيد على القيمة الوظيفية للغة من خلال دراساته الصوتية التي انطلقت من مبدأ أنّ ( قيمة هذه المؤسسة الاجتماعية كما أقرّها دي سوسير تكمن في أصغر وحداتها البنائية ألا وهي الصوت، على اعتبار أنّه يمثّل البذرة أو الخلية الأولى التي يتكون منها جسد اللغة ، لذلك فالصوت هو كالخلية الإنسانية تحمل كلّ الطاقات التي تمنح الحياة لهذا الكيان)

1- التفريق بين علمي الفونيتيك والفونولوجيا:

     فرق "تروبتسكوي "بين علم الأصوات وعلم وظائف الأصوات أو الفونولوجيا :

- علم الفونيتيك:

    وهو علم الأصوات، عرّفه أحد العلماء بقوله: " هو مجموع الدراسات التي تعالج أصوات اللغة من حيث النطق بها، ومن حيث طبيعتها الفيزيائية"، أي دراسته بمعزل عن الاستعمال اللغوي، وهذا ما وضّحه عبد القادر عبد الجليل: " يدرس علم الأصوات الصوت الإنساني عامة باعتباره مادة حية ذات تأثير سمعي ، إنّ هذه الدراسة لا تشتمل النظر في الوظيفة الصوتية ولا القوانين التي تتحكم فيها، وإنما تنصبّ دراساته على طبيعة الانتاج الصوتي وكيفية انتقاله واستقباله"

- علم الفونولوجيا:

    وهو علم الأصوات الوظيفي، وهو علم يبحث في الأصوات اللغوية من حيث خصائصها الوظيفية في الخطاب، فموضوعه هو الأصوات اللغوية في تأليفها وتركيبها أثناء الأداء الفعلي للكلام، ويعرّفه تروبتسكوي بقوله: " الفونولوجيا أو علم الأصوات الوظيفي يدرس الصوت الإنساني في تركيب الكلام ودوره في البنية الصرفية واللغوية والدلالية في أيّ لغة معينة"

2- تعريف الفونيم:

     الفونيم هو القاسم المشترك بين علمي الفونيتيك والفونولوجيا، لأنّه الوحدة الأساسية التي يقوم عليها كلا العلمين ، لذلك قبل تعريفه تجدر الإشارة إلى أنّه يدرس بشكلين مختلفين انطلاقا من ثنائية سوسير (اللغة والكلام)، فقد درس الفونيم في الفونيتيك كوحدة من اللغة بوصفها نظاما مشتركا ثابتا، ودرس في الفونولوجيا كوحدة من الكلام بوصفه ممارسة فردية ذاتية متغيرة.

     وهو مصطلح أجنبيphonème)) ويقابله في العربية مصطلحات كثيرة منها: صوتيم، وصوت، وصوت مجرد،  وصواته، وفونيمية، ولافظ. إلا أن استخدامه على شكله المعرب )فونيم) هو الأكثر شيوعا عند علماء اللغة العرب.

التعريف التجريدي للفونيم :

    هو صورة عقلية للصوت أو فكرة صوتية أو صوت مجرد الوجود أثناء النشاط الكلامي. وهو صوت مثالي أو نموذجي في ذهن ناطق اللغة ويحاول أن ينطق به في سياقات النطق المختلفة .

التعريف الشكلي للفونيم:

    هو أصغر وحدة صوتية غير قابلة للقسمة إلى وحدات أصغر، بخلاف المقطع الذي يمكن تقسيمه

التعريف الوظيفي للفونيم:

    هو صوت له قدرة على تغيير المعاني وهو الوحدة الصوتية التي يؤدي تغيرها إلى تغيير في المعني.

    وقد عرّفه علماء اللغة تعاريف عديدة منها:

- ماتيسيوس: " الفونيم هو الصوت المرتبط بمعانٍ وظيفية"

- تروبتسكوي: " الفونيم هو الوحدة الصوتية المتميزة التي تحمل مجموع الملامح الفونولوجية الملائمة لتكوين اللغة"

- جاكبسون: " الفونيمات هي الملامح التمييزية الموضوعة في حزمة واحدة ، أو هي مجموع الخصائص الصوتية المصاحبة التي تستعمل في لغة معينة للتمييز بين الكلمات وإنشاء المعاني المتعدّدة"

3- الأهمية الوظيفية للفونيم:

    للفونيم وظائف عديدة حدّدها أعضاء حلقة براغ اللغوية منها:

- الوظيفة التمييزية للفونيم (القيمة الخلافية):

     يرى تروبتسكوي أنّ الوظيفة التمييزية هي الوظيفة الأساسية للوحدات الفونولوجية، ويعرف الفونيم من حيث وظيفته اللسانية على أنه: أصغر وحدة يمكنها أن تظهر تعارض إشارتين مختلفتين ، ويفترض هذا الاختلاف وجود تضاد بين الوحدات المميزة إذ أن ليس بإمكان أي فونيم تأدية وظيفة تمييزية إلا إذا كان مضادا لفونيم آخر، مثل الزوج ( تاب/ ناب )، فوجود تضاد صوتي بين فونيمي التاء والنون، ميز بين دلالة الكلمتين.

    يقول تروبتسكوي: "إنّ الصوامت القصيرة هي وحدات صوتية مستقلة لها القدرة على التمييز بين المعاني، ولها وظائف داخل البنية التركيبية للفعل الكلامي، وقيم دلالية تمييزية"، ففي العربية 28 صوتا فقط، غير أنّ ما تنتجه من كلمات لا حدود له، ومن الأمثلة على هذه القدرة التمييزية الأفعال(مدّ- شدّ -عدّ- ردّ- كدّ- هدّ- صدّ- ودّ)

    وقد اعتبرت الوظيفة التمييزية امتداد لمصطلح القيم الخلافية عند دي سوسير، وقد اعتبرت دراسات تروبتسكوي توضيحا وتفسيرا لمقصود سوسير من هذا المصطلح، فهم يرون أنّ مصطلح سوسير يمثّل السبب ومصطلحهم يمثّل النتيجة، فلولا القيم الخلافية، لما امتلك المتكلم تلك القدرة التمييزية.

- تحديد صفات الأصوات:

    تكمن وظيفة الفونيم في تحديد الفروق الدقيقة بين الأصوات ، كتحديد صفات الجهر والهمس، وتحديد الصفات الطارئة التي تحصل للصوت أثناء عملية الاستعمال ، فقد يجهر الصوت المهموس مثلا لمجاورته الأصوات المجهورة، مثل صوت الكاف في كلمة أكبر ، فالكاف أصبح مجهورا لمجاورته الألف المجهورة.

- تحديد الأوفونات:

    الألوفون Allophone مصطلَح صوتيّ يدلّ على مظهر من مَظاهِر متعدّدة للفونيم الواحد أي للصّوتِ المُطلَق الواحِد، وكلّ ألوفون شكلٌ من أشكالِ أو تنوعات أو تَجلّياتِ الصّوت الواحد، مثل صوت (السين) في كلمات ( أسفر - أسدل - يسطع)، فصوت السين في هذه الكلمات الثلاث ينطق بصور مختلفة ( س- ز -ص)، وهذ التنوّع هو ذلك المظهر المادي المسمى الألوفون، فالكتابة واحدة والنطق مختلف، وهو ما يوسّع الدور الوظيفي للصوت الواحد.

الخاتمة:

    مثّلت دراسات العالم اللغوي تروبتسكوي حلقة مهمة في الدرس اللغوي عموما، خاصة وأنّها قامت على الجانب التطبيقي الذي ارتبط بالمستوى الصوتي، فقد وضع هذا الباحث منهجا دقيقا لدراسة هذه البنية الأساسية في اللغة البشرية ، واستطاع أن يكشف عن وظائف عديدة وأساسية في عملية التواصل والتي دعّمها الباحث الفرنسي أندري مارتيني بأبحاثه الوظيفية على مستوى الفونيمت فوق التركيبية.

Last modified: Saturday, 6 March 2021, 8:04 PM