المحاضرة الثالثة

مدرسة جنيف السويسرية

تمهيد:

    عرفنا أنّ دي سوسير قدّم صورة عامة عن النظام اللساني من خلال ثنائياته ومصطلحاته، ومن خلال قوله بأنّ اللغة مؤسسة إنسانية اجتماعية ، وقوله أنّها أهم أدوات التواصل البشري، وقوله بنظاميها الثابت والمتغيّر من خلال ثنائية اللغة والكلام، ولكن ما ظهر من المدارس اللسانية خرج في بعض جوانبه عن هذه الآراء الأساسية ، ومن بين هذه المدارس  مدرسة جنيف اللسانية:

1- تعريف المدرسة:

    تأسّست مدرسة جنيف اللسانية من أتباع دي سوسير الذين تشبّعوا بمبادئه وأفكاره على رأسهم شارل بالي وألبرت سيشهاي اللذين جمعا دروسه وأخرجاها للإنسانية عام 1916 ، في حين كان لهذين الباحثين أتباع توجهوا بالدرس اللساني نحو المستقبل، منهم: هنري فراي و روبرت كوديل .

2- مبادئ المدرسة:

    تبنّى شارل بالي وزملاءه ثنائية اللغة والكلام التي أقرّها أستاذهم، ولكنهم قاموا بمناقشتها وتطويرها من وجهة نظر خاصة تعمل على إعطاء صبغة جديدة للطرف الثاني من هذه الثنائية، ألا وهو الكلام " ذلك القطاع الذي سكتت عنه محاضرات دي سوسير استجابة لضرورة منهجية اقتضاها التوجّه الصارم للدراسة اللغوية عنده"

    ومن خلال نظرة شارل بالي الجديدة للكلام باعتباره ظاهرة فردية وليس واقعة اجتماعية مثل اللغة، طوّر شارل بالي نظريته الخاصة التي اصطلح عليها (بالتحقق والانجاز) "تستهدف هذه النظرية عن طريق تحويل اللغة إلى الكلام، تحويل المفاهيم المجردة إلى مفاهيم تتّصل بالواقع ، أي تحويل الافتراضي غلى منجز".

    فاللغة عبارة عن مجموعة من الوحدات الافتراضية نتيجة لأنها تتكوّن من عناصر بنائية محدودة (ضيقة الأفق) من حيث بناؤها ومن حيث أفقها المعنوي والدلالي، والاستعمال يحوّل هذه الوحدات عن مفاهيمها التجريدية التي تتصف بالتعميم والاستخدام المطلق إلى وحدات لغوية ذات قدرات لامحدودة التعبير، وهذا ما نجده في الطرف الثاني من الثنائية ألا وهو الكلام الذي يحمّل هذه الوحدات طاقات تعبيرية تتجاوز ما تمتلكه في النظام (يقصد بالنظام نظام اللغة الثابت).

    قام شارل بالي بتأسيس نظريته حول العلاقة بين المستويين النحوي والوظيفي داخل الكلام، وتُعنى هذه النظرية بالمبادئ التي تحكم عملية تغيير العلامة اللغوية لوظيفتها النحوية إلى وظيفة جديدة يفترضها الاستعمال، ويقصد بذلك إعطاء قدرة أكبر للقواعد والسنن لأداء وظيفة أفضل للتواصل اللغوي التي هي المهمة الأساس للغة، وذلك من خلال توسيع مجال النحو الموروث إلى قواعد جديدة تفرضها الحاجات الوظيفية المتجددة للإنسان من أجل التواصل الأمثل، ولا نعني بذلك خرق قواعد النحو واستبدال سننه، بل نقصد تطويرها وجعلها متحولة لا ثابتة لتلائم الحاجات الجديدة للتعبير الكلامي.

    ومن النقاط التي أسست لآراء شارل بالي اللسانية اعتماده على فكرة (الوعي في وضع الدليل اللغوي) الذي يربط بين الدال والمدلول، يقول: " أما الأدلة (العلامات) فهي إرادية وضعت قصدا لتفيد شيئا ما، وهذا الوضع تمّ بالتواطؤ والاصطلاح لغرض واحد هو التبليغ"، أما سوسير فرأى أنّ العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية لا منطقية.

    محاولة بالي وضع نظرية (النظم التبليغة) وهي تلك القواعد التي " تقطع فيها الخطابات إلى وحدات مميزة قابلة للتكرار من متكلّم إلى آخر، ويخضع هذا التركيب لقواعد خاصة، حيث أنّ لكل نظام تبليغي مقياسه الخاص به" ، وهي ترتبط بعملية الاستعمال غير أنّه وجد صعوبة في وضع هذه النظم.

    واعتمادا على آراء سوسير العامة حول اللغة، وآراء بالي الخاصة حول الكلام، طوّر (ألبرت سيشهاي) نظريته حول المستوى الصوتي، حيث قام بالبحث في القيم الصوتية المتميزة التي تستمد خصائصها من النظام اللغوي لتمدّ الكلام بالأدوات البنائية للتعبير عن المواقف المختلفة، وقد اعتبرت هذه الأبحاث أسسا علمية لما سيعرف فيما بعد بالمدرسة الوظيفية، وقد اعتمد سيشهاي في دراساته الصوتية على مقولة سوسير الشهيرة( اللسان ظاهرة منطوقة أصلا، ومظهره الصوتي هو أوّل أدواته وأكثرها بروزا).

    ومن أتباع بالي الذين اتجهوا اتجاها مختلفا في الدراسات اللسانية الباحث هنري فراي الذي انتبه إلى قدرات الكلام على الخروج عن النظام اللساني الذي يحدّ اللغة، لذلك حاول وضع نظرية حول الاشكال اللغوية المختلفة التي ينتجها جهاز الاستعمال، خاصة تلك التي تناقض النظام الثابت، وهو ما أسس فيما بعد لما يسمى بنظرية الانزياح عند رومان جاكبسون.

خاتمة:

    اتّفق هؤلاء العلماء جميعا مع أستاذهم سوسير على الدراسة الوصفية للغة، (فدراسة اللسان في وقت معين هي الدراسة الآنية السكونية البنيوية التي تعنى بوصف النظام اللغوي بكل جزئياته بغض النظر عن التحولات التي يمكن أن تطرأ عليها زمنيا)، كما اتفقوا على أهمية ثنائية اللغة والكلام التي تعدّ عماد آراء سوسير اللسانية، رغم أنّهم ركّزوا على الطرف الثاني من هذه الثنائية لا الأول كما فعل سوسير، وما يحسب لعلماء مدرسة جنيف اللغوية هو فتحهم لمجالات جديدة في الدرس اللساني أسست لمدارس أخرى ليست في اللسانيات فحسب، وإنما في النقد الأدبي والدرس الصوتي وعلم الدلالة.            

آخر تعديل: Saturday، 6 March 2021، 7:23 PM