نظرية المعرفة عند باروخ سبينوزا:
1. باروخ سبينوزا:
ينحدر "باروخ سبينوزا" من أسرة يهودية، طردتها محكمة التفتيش في القرن السادس عشر من إسبانيا والبرتغال، فلجأت إلى "أمستردام"، وعاشت هناك ميسورة الحال. تعلم باروخ تعليما جيدا، وفقا لمعايير عصره، ودرس الكتاب المقدس، والتلموذ باللغة العبرية، ودرس كتبا يهودية تتناول موضوعات دينية وفلسفية. وتعلم اللغة اللاتينية، لأنه كان يرغب في رؤية أوسع، تعلم هذه اللغات في مدرسة "فان إندى"؛ وهي مدرسة كاثوليكية رومانية، حيث قرأ أعمال ديكارت وفلاسفة محدثين آخرين، كما درس الرياضيات والعلوم الطبيعية. بعد ذلك اتخذ سبينوزا الشكل اللاتيني لاسمه الأول وهو "بندكت"، وعاش بين المسيحيين، واستطاع أن يعول نفسه بطريقة متواضعة عن طريق صقل العدسات البصرية، وهي تجارة تعلمها عندما كان صغير السن. لقد كان اهتمامه الحقيقي طلب الفلسفة، التي كرس لها كل ما يستطيع توفيره من وقت بعد كسب القوت الضروري. ووجد في كل مكان يستقر فيه – خاصة القرى في منطقة أمستردام، وليدن، وهيجيو – أصدقاء من المثقفين المقيمين، الذين زاروه ودرسوا فلسفته بشغف وهي لا تزال مخطوطة. ووجد أنه من الفطنة أن لا ينشر أثناء حياته سوى إثنين من مؤلفاته – وهما تعليق على فلسفة ديكارت، قام تلاميذه بجمعه وتصنيفه، و"رسالة في اللاهوت والسياسة"، بدعم من صديقه "يان ندى فت" الذي حاول الدفاع عن الحكومة الشعبية في هولندا، وعن حرية التفكير، والكلام، والنشر، والدين. (رايت، مرجع سبق ذكره، الصفحات 111-113)
تعلم سبينوزا على يد "فان دن إندى" العلم ونسى في غمرة الحب أنه فقير، وأنه يهودي، وكان من بين أساتذته المعلم اليهودي "رابل ماناسيه بن اسرائيل". وبعد أن أتم تعليمه واجه حادث هام غير من مسار حياته، فقد مات أبوه عام 1653م. عاش حياة زهد وتقشف وعزلة آثر فيها السلامة الجسدية والنفسية كما آثر فيها التأمل والفكر على المجد والشهرة، وعلى الرغم من ذلك ذاعت شهرته، ويقال أنه تقابل مع ليبنيتز في لاهاى. وفي عام 1673م عرض له أمير بافاريا كرسى الفلسفة عي جامعة هيدلبرج، ولكنه رفض قبول المنصب وما يتبعه من حياة رغدة وسعة في الرزق، وشهرة بين الفلاسفة والمفكرين قاطبة. كما قدم له أحد المعجبين بفلسفته من أثرياء التجار في أمستردام منحة مالية، ولكن سبينوزا رفضها، كما رفض عرضا آخر من ملك فرنسا لويس الرابع عشر، وفضل سبينوزا أن يعيش فقيرا معدما يلبس رث الثياب، ويأكل من خشن الطعام وأقله حتى يظل حرا متحررا من أية قيود. (إبراهيم إ.، مرجع سبق ذكره، الصفحات 186-189) ولما كان سبينوزا قد ولد في أسرة برئتين ضعيفتين، وكان مجبرا في استنشاق الغبار من صقل العدسات، ونظرا لأن العمل الزائد في دراساته وتجاربه قد أجهده، فقد أصيب بالسل، ومات صغيرا في سن الخامسة والأربعين. وقد حزن أصدقاؤه وجيرانه حزنا عميقا على موته، لكن العالم لم يلحظ أن فيلسوفه العظيم قد رحل. (رايت، المرجع نفسه، صفحة 113)
2. مؤلفات باروخ سبينوزا:
في الحقيقة، اتخذ سبينوزا اللاتينية لسانا يحرر به، وكان أول ما كتب عام1661 موسوم ب: "رسالة في إصلاح العقل" لم يكمله سبينوزا فظل الكتاب ناقصا. يعتبر مقدمة في المنهج وفي قيمة المعرفة أي أنه يعتبر منطقا جديدا أو مدخلا للمنهج الجديد على غرار محاولات فرانسيس بيكون في "الأورغانون الجديد" عام 1620 وكتاب "المقال عن المنهج" لديكارت عام 1637. ويبين فيه سبينوزا المنهج القويم الذي يؤدي بطريقة مثلى إلى معرفة الأشياء معرفة حقيقية لا لبس فيها. وبعد ذلك، "رسالة في مبادئ فلسفة ديكارت مبرهنة على الطريقة الهندسية" كتمهيد ومدخل لفلسفته الخاصة، وهذا أمر جدير بالذكر، وكان "هذا الكتاب في البدء عبارة عن محاضرات ألقاها سبينوزا على أحد طلبة الفلسفة، اعتبر تمهيدا لفلسفته التي تأثر فيها بديكارت وفي آخر الكتاب ملحق عن الأفكار الميتافيزيقية اعتبره البعض مؤلفا آخر لسبينوزا وهو ليس كذلك بل مجرد ملحق للكتاب. [ثم يليه كتاب] "الأخلاق مؤيدة بالدليل الهندسي" الذي يعتبر مؤلف سبينوزا الرئيسي وعلى الرغم من الانتهاء منه عام 1665 إلا أنه لم ينشره خشية من أن يصيبه من السجن والتعذيب والحرق من نشر أفكار مماثلة أمثال جيوردانو برونو وغاليليو، وقد تناول فيه موضوعات عن الله والألوهية والطبيعة ومصدر النفس، والانفعالات، والرق الانساني أو العبودية وقوة العاطفة، وقوة العقل أو الحرية الإنسانية، وأخيرا موضوع الأخلاق. وجعل سبينوزا السعادة في نهاية الكتاب على الرغم من أن الكتاب كله مسمى بالأخلاق، لأن غاية الإنسان هي السعادة والعمل من أجل الوصول إليها. ومن هذا يبدو أن سبينوزا يتجه اتجاها رواقيا في الأخلاق. (إبراهيم إ.، المرجع نفسه، صفحة 190، 191)
هذا، وأتم تأليف كتابه العمدة "رسالة في اللاهوت والسياسة" عام 1670 ونشره من دون ذكر اسمه، فضلا عن احتواء الكتاب على بيانات مضلله للسلطات التي تصدت له وحرمته مما تسبب في انتشاره أكثر بين الناس. وقد احتوى الكتاب على مسائل هامة حول الوحي والنبوة والمعجزات وحرية الاعتقا، ومنهج دراسة النصوص الدينية وغيرها من الموضوعات التي بينت إلحاده للآخرين، ثم نشر كتاب آخر بعنوان: "رسالة في السياسة" عام 1677 رسم فيها الخطوط العامة لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع من نظام حتى لا يسقط في أيدي الدكتاتوريين أو حكم القوة الغاشمة، وحتى ينعم المواطنون في المجتمع بالسلام والأمن والطمأنينة والحرية. [وفي التاريخ نفسه ألف سبينوزا] "قواعد النحو العبري"، وفي سنة 1852 نشر كتاب بعنوان: "رسالة قصيرة في الله والإنسان وسعادته". وقام سبينوزا كذلك بترجمة العهد القديم إلى اللغة الهولندية، ودفع مواطنيه الهولنديين إلى التعرف على الإنجيل، الذي أساؤا فهمه، ولكنه لم يستطيع الوصول بهذه الأعمال إلى نهايتها حيث سبقت يد المنون يديه ومات وهو في سن الخامسة والأربعين من عمره، (المرجع نفسه، الصفحات 191-193) كما سبق الإشارة إلى ذلك أعلاه.
3. مسألة المنهج عند باروخ سبينوزا:
1.3. الله كنقطة انطلاق لبناء المعرفة كونه ضروريا كضرورة الرياضيات:
إن الحياة المادية بحسب سبينوزا كالشهرة والثروة والمال الكثير لا يحقق أمن ولا أمل الإنسانية في التاريخ، لهذا رفض كل الأموال التي عرضت عليه من طرف الحاخامات ورجال الدين اليهود، ورجال السياسة والحكام مثل لويس الرابع عشر في فرنسا، كما رفض أيضا أن يسترجع الثروة التي تركها له أبوه واستحوذت عليها أخته من طرف مجلس القضاء الهولندي الذي فرض عليه مقابل ذلك التخلي عن وجهة نظره التي يرى من خلالها نور الحياة وهي مسألة القول بأن الله هو الذي يمثل نقطة الانطلاق في بناء صرح المعرفة، ففضل أن يعيش فقرا مدقعا، مكتفيا بالحصول على لقمة حياته عن طريق نحت العدسات الزجاجية، هذه العملية التي تسببت في إصابته بمرض السل، اعتبارا أنه كان مجبرا لاستنشاق الغبار الذي قضى على رئتيه الضيقتين. "فلقد كان يعتقد أنه ليس ثمت رضا، ولا أمان دائم، يمكن أن يوجد في الثروة، والشهرة، أو متع الحس، أو في حب كل شيء زائل. فلا بد أن يجد خيرا حقيقيا يحرك العقل وحده، مع استبعاد كل شيء، لاكتشاف وبلوغ ما يمكنه من الاستمتاع بالسعادة الدائمة، والأسمى، والتي لا تنتهي. وينتهي سبينوزا إلى أن ذلك الخير الحقيقي والدائم، لا يمكن أن نخبره إلا في حب ما هو أزلي ولا نهائي، أعني في حب الله. ولقد تعلم باروخ سبينوزا أن يحب سيده، الله، بكل عقله، ونفسه، وقوته. وهذا أمر لن ينسه بندكت سبينوزا. غير أن إله بندكت لا يمكن أن يكون موجودا ذا انفعالات، وأمزجة متغيرة ومتقلبة، مثل تلك التي ينسبها العهد القديم لله أحيانا. (رايت، المرجع نفسه، صفحة 114)
لقد تعلم باروخ أن الله لا متناهي وأزلي، وبالنسبة لبندكت، لا بد أن يكون مثل هذا الله موجودا ضروريا له نفس ضرورة الرياضيات، والقانون العلمي، فذلك هو النوع الوحيد من الألوهية الذي يتوافق، كما ظن، مع المعرفة الحديثة. لقد وجد سبينوزا خلاصه في هذا "الحب العقلي الخالص لله" الذي يتصوره على أنه أساس القوانين الرياضية للطبيعة. فلهذا كان مفكرا رياضيا ومنطقيا صارما، فقد قاده تفكيره الدقيق إلى هدوء وقناعة عقلية هادئة بمذهب أزلي من قوانين تشبه قوانين الرياضيات. وهذا هو إله سبينوزا. [ومن خلال هذا المنظور، يمكن الحكم أن] منهج البحث الفلسفي عند سبينوزا يشبه بوجه عام منهج ديكارت. فالأفكار الواضحة المتميزة صادقة، أما الأفكار الغامضة فهي غير كافية. ويسير البرهان في سلسلة من القضايا، مع أعلى يقين موجود في الحدس. غير أن الله، عند سبينوزا، ليس ضامنا فحسب لصدق الأفكار الواضحة المتميزة، وليست معرفة وجود النفس معطاة بصورة مباشرة أكثر مما تعطى من معرفة الله. إذ أن معرفة الله هي المعرفة الأكثر يقينا في كل ما لدينا من معارف، وما عداها، من حيث أنها ممكنة، تستمد من معرفتنا بالله، أو يمكن، على الأقل، أن ننظر إليها على ضوء معرفتنا بالله. (المرجع نفسه، صفحة 114، 115) وهذا يعني أن الله هو أصل المعرفة عند سبينوزا، وأننا كي نتعرف على ماهيات الأشياء لا بد علينا أن نركز على الكائن الأكمل لأن كل شيء يستمد وجوده من هذا الأخير. هكذا، تقتضي عملية التفلسف – بحسب سبينوزا – الإنطلاق من الله لبلوغ حقائق الأشياء، اعتبارا أن العالم الحسي يستمد أساسه من الكائن الأكمل، هذا وأن الذات الديكارتية مردها إلى الله. وإذا كان التجريبيون يرون في توسط الحواس بين الذات والعالم الخارجي أصل المعرفة، وإذا كان ديكارت قد اتخذ انطلاقته من الذات ويرى أنها مصدر المعرفة، فإن سبينوزا انطلق في مشروعه الفلسفي من فكرة الله. ذلك لأن كل العناصر الأخرى، التي انطلق منها ديكارت والتجريبيون التقليديون تستمد وجودها من هذه القوة الكاملة، الله. إن أصل العالم الحسي، والطبيعة، والذات المفكرة، وكل شيء في العالم هو الله على حد تعبير سبينوزا.
2.3. نظرية المعرفة عند سبينوزا:
اقتفى سبينوزا أثر فلاسفة القرن السابع عشر في انتهاج طريقة خاصة في البحث، وهي الطريقة الاستنباطية الرياضية لأن الرياضيات استهوته كما استهوت ديكارت وباسكال ومالبرانش و[لايبنيتز ونيوتن]. اعتقد سبينوزا بأن الرياضيات هي المفتاح الأمثل لحل أسرار الكون واكتشاف قوانينه، لذلك اتخذ من الهندسة نموذجا بنى عليه فلسفته. وكما أن الهندسة تبدأ بقضايا صادقة بذاتها لا تحتاج إلى برهان مثل البديهيات والمسلمات والمصادرات. فكذلك البحث عن الحقيقة يقتضي لأن يبدأ بقضايا صادقة بذاتها تتخذ نقطة انطلاق من أجل أن تبني صرحا معرفيا مباشرا، تهدف من ورائه تحقيق سعادة قصوى دائمة متصلة بالناس أجمعين. وإذا كان ديكارت – رائد الفلسفة الحديثة – قد وجد في النفس أو الأنا نقطة امتداد لفلسفته فإن سبينوزا وجد في الله نقطة بدأ منذ انطلاقه نحو بناء الصرح المعرفي الذي يرمي إليه. (إبراهيم إ.، مرجع سبق ذكره، صفحة 195) وإذا كان سبينوزا يرى في الله الأمن والأمل والرضا في الحياة، فكيف بدأ بفكرة الله اعتبارا أنها أوثق الأفكار وأصدقها؟
كان ديكارت قد اتخذ من الوضوح والتميز معيارا لصدق الأفكار، وعليه اعتبر الكوجيتو "أنا أفكر، أنا موجود" قضية صادقة لأنها تستوفي معيار الوضوح والتميز، وبعبارة أخرى، إن قضية الكوجيتو لا تكفل ذاتها بذاتها دائما بل تفتقر إلى ما يكفل صدقها وهو مبدأ الوضوح والتميز. أما سبينوزا فقد رأى أن الفكرة الصادقة هي التي تكفل ذاتها بذاتها، فلا تفتقر إلى ما يضمن صدقها، وإلا تأدى بنا الأمر إلى دور لا ينتهي يؤدي بنا في النهاية إلى الشك المطلق. وهذا الدور يجعل المعرفة مستحيلة. ولذلك ينبغي أن تعتمد الطريقة الصحيحة في البحث عن فكرة تكفل ذاتها بذاتها أو بتعبير سبينوزا يتجلى وضوحها من خلال ماهيتها الذاتية. ويطلق سبينوزا على هذه الفكرة اسم: "الفكرة الوافية" وأيضا اسم: "الفكرة الصادقة" وأيضا اسم: "المفهوم العام". (المرجع نفسه، صفحة 196)
وإذا أخذنا الفكرة الوافية ذاتها معيارا للصدق أمكننا أن نقسم المعرفة إلى أنواع أربعة هي:
* المعرفة السماعية:
هناك معرفة سماعية تصل إلينا بالفعل، مثل معرفتي تاريخ ميلادي ووالدي وما أشبه ذلك، وهي معرفة غير علمية؛ (كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، بدون تاريخ، صفحة 108) تأتي إلينا عن طريق الناس أي تنتقل إلينا منذ طفولتنا عن طريق السماع، وهي متعلقة بشكل كبير بالعالم الحسي. والحق أن سبينوزا يرفض مباشرة مثل هذا النوع من الأفكار لأنها لا يمكن أن تؤسس لأي صرح علمي. والعالم الحسي كما سبق وأشرنا أعلاه، هو في حد ذاته، بحسب سبينوزا، يعتمد على الفكرة الكاملة، الله، في إقامة كيانه. وعليه، فإنها معرفة ظنية، مبهمة متجزأة متفككة غير مترابطة ترابطا وثيقا كما هو عليه الحال في الأفكار الحدسية التي هي في تعالق مباشر مع مسألة الإله. إن الحواس تضع المعرفة التي لا تترتب عن منهجية علمية دقيقة وصارمة. وبالفعل، هذا ما يتفق معه المفكر العربي محمد علي أبو ريان حينما يقول ما يلي نصه في وكتابه المعنون، "تاريخ الفكر الفلسفي: الجزء الرابع، (الفلسفة الحديثة): "وعلى هذا النحو فإن سبينوزا يصنف المدركات الحسية تحت دائرة المعرفة الضنية لأنها تثير فينا صورا تقوم على أساس تداعي المعاني والذكريات والألفاظ والرموز وما يتوارد إلى خيالنا عن طريق العادات والتقاليد، ومن ثم فإن سبينوزا يرى أن معرفة كهذه لا يمكن الوثوق بها، ولهذا فإنها معرفة خاطئة." (ريان، تاريخ الفكر الفلسفي: الفلسفة الحديثة، صفحة 104)
* معرفة بالتجربة أو الاستقراء التقليدي:
وهي المعرفة التي لم يتحقق العقل من صدقها رغم أننا لم نعثر على ظواهر أو وقائع تعارضها، وتكاد تكون معرفتنا العلمية كلها من هذا النوع. فأنا أعرف عن طريق التجربة بأن النفط وقود للنار وأن الماء يطفئ النار، وأن الأوكسيجين غاز فعال يساعد على الاشتعال ولا يشتعل. ومع أن هذا النوع من المعرفة يكشف عن الصفات العرضية للأشياء، فلا يمكن اعتباره معرفة علمية بالمعنى الدقيق لأن المعرفة العلمية الحقة تُعنى باكتشاف ماهيات الأشياء ويمكن أن نطلق على هذا النوع اسم الظن. (ابراهيم ا.، صفحة 197)
* المعرفة الاستدلالية:
وهي المعرفة التي نحصل عليها عن طريق الاستنتاج أي استنتاج ماهية شيء من شيء آخر دون أن ندرك النحو الذي تحدث فيه هذه النتيجة. فحين أعرف أن الأشياء تبدو من بعيد بصورة مخالفة لطبيعتها فتبدو أكبر أو أصغر مما عليه في الحقيقة، [يمكنني أن أطبق هذه القاعدة على ظاهرة طبيعية وهي الشمس مثلا، فأستنتج أن الشمس التي تبدو لي صغيرة في الطبيعة، وعن طريق المشاهدة]، أنها أكبر مما تبدو لي. "ومع أن هذا الضرب من المعرفة يعطينا فكرة عن الشيء الذي نبحث عنه، ويساعدنا على استخلاص نتائج دون الوقوع في الخطأ، فإنه بذاته ليس كافيا للوصول إلى الكمال الذي ننشده.. لأن الأشياء التي نعرفها عن طريق الاستدلال تفتقر إلى الوحدة الضرورية، بالإضافة إلى أن صدقها إحتمالي ممكن وليس يقيني ضروري." (متي، مرجع سبق ذكره، صفحة 95)
* المعرفة العقلية الحدسية:
تدرك الشيء بماهيته. مثل معرفتي أن النفس متحدة بالجسم ومعرفتي ماهية النفس، أو مثل معرفتي خصائص شكل هندسي، وأن الخطين الموازيان لثالث متواويان. وهذه المعرفة الأخيرة هي الكاملة لأن موضوعاتها معان واضحة متميزة يكونها العقل بذاته، ويؤلف ابتداء منها سلسلة مرتبة من الحقائق، فيخلق الرياضيات والعلم الطبيعي حيث تبدو الحقيقة الجزئية نتيجة لقانون كلي، ويبين العقل من فاعليته وخصبه، واستقلاله عن الحواس والمخيلة. (كرم، مرجع سبق ذكره، صفحة 109) وهي - بحسب المفكر العربي مصطفى إبراهيم مصطفى – تعني "العلم الحدسي وهو العلم الذي ينشأ من إدراك شيء ما من خلاله ماهيته أو سببه القريب (العلة القريبة) وهو علم مباشر، فأنا أعرف - على سبيل المثال – بواسطة الحدس (...) أن إثنين وثلاثة مجموعهما خمسة، (...) وأن الشمس إذا طلعت فالنهار موجود، وأن الكل أكبر من الجزء، وغيرها. هذه المعرفة وحدها بريئة من الخطأ، خالصة من الشوائب لأنها تمكننا من إدراك ماهية الأشياء وتضمن لنا الخير الحقيقي، ولذلك ينبغي أن نسعى إليها بكل قوانا. فالفكرة الصادقة التي اتخذها سبينوزا نقطة ارتكاز فلسفته هي فكرة أكمل كائن أو الكائن الأكثر كمالا، وليست هذه الفكرة هي المجموع الكلي للأفكار بل هي فكرة بسيطة معطاة أي إنها فكرة قبلية تصدر عنها الأفكار الأخرى كلها. (ابراهيم إ.، مرجع سبق ذكره، صفحة 198) وعلى أساس ما سبق ذكره، نصل في الأخير، إلى الحكم بأن التجريبيون يرون المعرفة في تدخل الحواس، وروني ديكارت أرجع المعرفة إلى النفس أو الأنا المفكرة كأصل لها، أما باروخ سبينوزا اعتقد بأن كل شيء يصدر عن طبيعة الله، فكان مصدر الأفكار عنده يتمثل في الله.