. أسس المنهج عند روني ديكارت:
يرى ديكارت في هذا المجال أن المنهج واحد بين الناس جميعا. فيقول في بداية كتابه الشهير مقال عن المنهج أن "العقل هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه قد أوتي منه الكفاية، حتى الذين يصعب ارضاؤهم بأي شيء آخر." (ديكارت ر.، 2011، صفحة 3) وهو لا يقف أمام جزئيات العلوم، وإنما ينظر إليها جميعا نظرة شاملة، ينظر إل العقل الذي يستنبط منه أحكامه. وهذا هو أساس المذهب العقلي. والعلم هو العلم اليقيني، واليقين يقوم على البداهة. والبداهة تتجلى في جلاء ووضوح في العلوم الرياضية، ومن ثم فديكارت يرى أن العلوم الرياضية تتفوق على غيرها من العلوم لبساطة موضوعاتهت، ولأنها مستنبطة من نشاط عقلي بحت، يصطنع فيه العقل معاني وتصورات واضحة لم يقتبسها من التجرب، ولذلك يشيد ديكارت بالمنهج الرياضي. (الشنيطي، مرجع سبق ذكره، صفحة 98) علينا إذا أن نأخذ بالمعاني الواضحة المتميزة، وهي التي تتضح لنا بداهتها أتم اتضاح، فما سبيلنا إلى معرفة الأشياء؟ حسب ديكارت، إن جميع أفعال الذهن التي نستطيع لأن نصل بها إلى معرفة الأشياء دون أن نخشى الزلل عبارة عن فعلينهما: الحدس والاستنباط.(المرجع نفسه)
1.2. الحدس:
رأى ديكارت أهمية المنهج الرياضي في الفلسفة لينقذها من الفوضى التي انتهت إليها، وهو لذلك يضع قواعد لبداهة العقل حيث يرى أنه خير للإنسان لأن يعدل من التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير منهج وهو يعني بالمنهج "قواعد مؤكدة بسيطة إذا راعاها الإنسان مراعات دقيقة كان في مأمن من أن يحسب صوابا ما هو خطأ واستطاع دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعةن بل بالعكس مع ازدياد علمه زيادة مضطرة، أن يصل بذهنه إلى اليقين في جميع ما يستطيع معرفته." (ديكارت، قواعد لهداية العقل، 1953، صفحة 59، 60)
وفي تعرف ديكارت للحدس يقول ما يلي نصه في القاعدة الثالثة لتوجيه العقل:
"لا أعني بالحدس الشهادة المتقلبة للحواس، أو الحكم الخادع لخيال ينشئ موضوعه إنشاء سيئا. بل أقصد بالحدس تصور يصدره ذهن خالص، منتبه، مستعد، وهو تصور يمثل حقيقة، نتيجة، تفهم مباشرة، دون الشك في صحتها بعد تعقلنا لها وفهمنا لها. أو أنه بتعبير آخر، التصور اليقيني لذهن خالص، منتبه مصدره نور العقل وحده. وما دام الحدس بسيط، كل هذه البساطة، فهو بعينعه اليقين. وهكذا يمكن، مثلا، لكل منا، أن يتبين بفضل الحدس، أنه موجود، وأن المثلث يتعين بثلاثة أضلاع فحسب، وأن الكرة مستديرة الشكل."(المرجع نفسه)
يقصد ديكارت حسب المفكر العربي محمد فتحي الشنيطي، أن الحدس "رؤية مباشرة، نور فطري، أو غريزة عقلية، يدرك بها الذهن حقائق يتضح يقينها اتضاحا يتبدد معه كل شك. من فبيل ذلك وجود الإنسان بالضرورة لأنه يفكر، وأن المثلث محدود بثلاثة أضلاع. والحدس الديكارتي [كما هو وارد في قو ديكارت أعلاه] فعل عقلي خالص. ويدرك الحدس كذلك ما يسميه ديكارت بالطبائع البسيطة وهي التي تدرك ادراكا مباشرا كالوحدجة والوجود والامتداد والشكل والزمان والمكان. وهذه الطبائع قد بلغت من الوضوح والتميز مبلغا يمنع الذهن من تقسيمها إلى أخرى أكثر تميزا منها. (الشنيطي، مرجع سبق ذكره، صفحة 99) وبتعبير آخر، الحدس عند ديكارت يعني الرؤية العقلية المباشرة التي يدرك فيها الذهن بعض الحقائق البديهية التي يعتقد فيها الإنسان ولا يتطرق إليها الشك، ثم إن الحدس أيضا لا يمكن البرهان عليه لبداهته، فإن أردنا أن نبرهن على فكرة حدسية فإن ذلك يعتبر عبث لا طائل تحته، فالفكرة الحدسية واضحة بذاتها بلا برهان. ومن ثم يرى ديكارت أنه لو بدأنا في الفلسفة بمجموعة من الأفكار الحدسية لكان ذلك أساسا متينا لإقامة المعرفة اليقينية بمعنى آخر المعرفة اليقينية عند ديكارت مصدرها الحدس والحدس لديه نور فطري. (ابراهيم، صفحة 79)
وللفكرة الحدسية خاصيتين أو ميزتين أساسيتين هما: الوضوح والتميز. الفكرة الحدسية يجب أن تكون واضحة بمعنى أن تقوم الفكرة في الذهن ونحن مستعدون لقبولها أو التسليم بها، وذلك لما نرى فيها من بداهة لا يتطرق إليها الشك ولا نطلب البرهان عليها، وعكسها الفكرة غير الواضحة المشوشة وهي الفكرة الغامضة، التي لا يفهمها الذهن ونحتاج لفهمها أن نستعين بشيء آخر. أما التميز فيقصد به ديكارت ألا تكون الفكرة ملتبسة مع فكرة أخرى. وهناك أمثلة أخرى منها: تصور مثلث محدود بثلاثة أضلاع لا غير، وأن لكل جسم مادي شكل محدد وحجم ما. (المرجع نفسه)
2.2. الاستنباط:
أما الاستنباط فهو فعل ذهني نستخلص بواسطته من شيء لنا به معرفة يقينية نتائج تلزم عنها. والاستنباط الديكارتي يختلف مع القياس الأرسطي. فالقياس رابطة بين أفكار أما الاستنباط فعلاقة وثيقة بين حقائق. والحدود في القياس تخضع لقواعد عامة تطبق عليها تطبيقا آليا ولكن المعرفة في الاستنباط تتم بواسطة الحدس أو النور الفطري. فالاستنباط إذن حركة فكرية موصولة، حركة فكر يرى الأشياء واحدا بعد الآخر رؤية بديهية ومن هنا يمكننا أن تقول أن الاستنباط الديكارتي بنتظم سلسلة من الحدوس. (الشنيطي، مرجع سبق ذكره، صفحة 100) ويعني الإستنباط انتقال الذهن من قضية أو عدة قضايا هي المقدمات إلى قضية أخرى هي النتيجة وفق قواعد المنطق، وليس من اللازم أن يكون انتقالا من العام إلى الخاص أو من الكلي إلى الجزئي. ومن أوضح صور الاستنباط البرهنة الرياضية، وفيهايتم الانتقال من الشيء إلى ما يساويه، بل من الأخص إلى الأعم، والقياس الأرسطي باب منه، وأساسه الإنتقال من الكلي إلى الجزئي. والإستنباط أو المنهج الإستنباطي نوعان: حملي إذا كانت مقدماته مسلما بصدقها بصفة نهائية، وفرضي إذا سلم بصدقها بصفة مؤقتة. ويقابلهالمنهنج الاستقرائي الذي ينتقل فيه الذهن من الظواهر إلى القوانين. (إبراهيم أ.، صفحة 80)
وديكارت لا يقصد بالاستنباط نموذج القياس الأرسطي على سبيل المثال، ولكن يقصد به الانتقال من فكرة حدسية إلى نتيجة لها تصدر عنها صدورا ضروريا – أي لا يمكن تصور نقيضها – ومن ثم تكون النتائج المستنبطة حدسية هي الأخرى، وطالما أن ديكارت كان معجبا، بل كان مؤمنا بالرياضيات ومناهجها فقد أراد أن يتم الاستنباط الفلسفي بنفس طريقة الاستنباط الرياضي حيث تؤدي نتائجه إلى معلومات جديدة لم تكن متضمنة في الفكرة الحدسية الأصلية. إلا أنه ليس من السهولة بمكان أن نكتشف بالحدس المبادئ الأولى للعلم والفلسفة، ثم نقوم بعملية استنباط جديدة، ونحن هما نستعين بالتجربة ودورها الحيوي لكي تساعدنا على اكتشاف النتائج الصحيحة التي وقع عليها اختيارنا بصورة لا تقبل الشك.(المرجع نفسه)
خلاصة ما يعنينا أن المعرفة الواضحة عند ديكارت هي المعرفة العقلية وهي المعرفة التي تنظم الأفكار الواضحة المتميزة. والأفكار الواضحة عند ديكارت تمثل طبائع بسيطة. وهي وان كانت تمثل ماهيات فلا ينبغي أن نأخذ الماهية بالمعنى المدرسي، وإنما يرى ديكارت ألا انفصال بين الماهية والوجود، وغذا كان ثمة تمييز بينهما فهو تمييز نصطنعه في دراستنا لبيان الفرق بين فكرة الشيء في الذهن وفكرته خارج الذهن. الماهية عند ديكارت هي الوجود من حيث هو فكر. (...) والعلم الديكارتي يختلف عن العلم المدرسي الذي لا يعدو أن يكون قوالبا لمعان ولكليات ليس بينها إلا اتساق صوري خلو من الحقيقة الواقعية. ولم يشأ ديكارت أن ينظر في التصورات والمعاني نظرا مجردا يتوصل فيه إلى ماهياتها، وإنما استهدف التوصل إلى عناصر الأشياء التي هي من الموجودات بمثابة الخطوط والزوايا في الهندسة. هذه العناصر هي الماهيات الي لا انفصال لها عن الموجودات. (الشنيطي، مرجع سبق ذكره، صفحة 100، 101) ولا يفوتنا أن ننوه بما ذهب إليه ديكارت هو أن الله هو الذي يضمن كل معرفة وكل حقيقة وكل علم. فالضمان الإلهي هو الدعامة الأولى للمعرفة. فالله هو مبدأ المعرفة والوجود ومنبع اليقين. ووضوح الأفكار وتميزها هما المعيار العملي لليقين. والمعرفة كما رأينا تتم لنا بحدس لا يدع مجالا للشك في وجود الفكر أو في وجود الله.