ج- النهضة الفلسفية والسياسية:
فضلا عن مساهمة رجال العلم في إحداث قطيعة إبيستمولوجية مع النمط الفكري السائد الذي كان يعتمد بالدرجة الأساسية على الذوات المفارقة للطبيعة بحثا عن حلول لمشاكل الإنسان الأرضية في السماء على مدى الفكر الوسيطي الأوروبي، كانت مساهمة الفلاسفة بليغة الأثر في تأسيس لعهد إنساني جديد حيث استقطب الإنسان اهتمام كل الدراسات: العلمية والفنية والأدبية على حد سواء، حيث بددوا وقوضوا قيود الفكر الموجه، ليطلقوا العنان للعقل المتسائل مستأنفا مغامراته الاستكشافية ومستنكفا متأففا متشامخا من فجاجة الفكر الخرافي، لاسيما في صورة التنجيم، متوخيا الحقيقة العارية في أدق أشكالها دون تدليس وتلفيق ونفاق على كل مستويات البحث العلمي، ونخص من بينهم بذكر جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (1463-1494) Giovanni Pico della Mirandolla الذي أنجز عملا ضخما في معناه وإن كان خفيفا في حجمه المادي، ونخص بذكر نصه الذي جاء موسوما ب: "Di hominis dignitate" "في كرامة الإنسان" أو "في الكرامة الإنسانية" وهو نص فلسفي بامتياز حيث تحرى فيه مسألة جوهرية التي تتمثل في مسألة ماهية الإنسان، وهي المسألة التي ردها إلى معول حاسم وأساسي ألا وهو الحرية. ورد عن بيكو دولا ميراندولا في ذات النص أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي بوسعه تحديد ماهيته بالاعتماد على حرية إرادته دون سواها: خلافا عن عالم الأشياء والنبات والحيوان، خلق الله الإنسان، من منظوره، على نحو جعله يصادف ويظهر في الطبيعة والكون ومن ثم يحدد ويعرف تبعا لمساعيه الكاشفة عما يريد أن يكون ليجسد ارادته تلك بواسطة نشاطه؛ بهما يعرف، منهما يستمد كرامته ويستوحي وجوده الفعلي العيني. في هذا النص، نستشف ملامح فلسفة إنسانية لإنسانية فلسفية حدد من خلالها أساس الكرامة الإنسانية في الحرية بحيث تكون الكرامة والحرية الإنسانيتين متلازمتين، تتواجبان فتتجاوبان. (كشي، محاضرات في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، 2023، صفحة 8، 9)
وإلى جانب ثورة بيكو دولا ميراندولا الفلسفية، نلمس في نيكولو بيرناردو دي ماكيافيللي (1469-1527)dei Machiavelli Niccolo Bernardoكرهه "رجال الدين واحتقاره الرهبان لأنهم في نظره مراءون مخادعون، ولكنه لم يكن يكره السياسي المخادع إذا خدع الشعب لمصلحة الشعب. حاول أن يبشر بآرائه التقدمية في جمهورية فلورنسه، حيث كان يراها ضعيفة تتسلط عليها الأطماع الشخصية وتتنازع فيها الأحزاب، وأنها تعيش بغير جيش وطني يجمعها بدلا من الاعتماد على الجنود المرتزقة ولكن ذهبت صيحاته أدراج الرياح، وضعف شأنه عندما عاد آل مديتشي إلى الحكم في صيف عام 1512 وسقطت الجمهورية الفلورنسية، ولم تعد له خطوة في البلاط الجديد. عندئذ تفرغ للتأليف، ووضع كتابه "الأمير"، سنة 1513. ضمنه كل أفكاره عن أصول الحكم وفن السياسة مستوحيا آراءه من دراساته التاريخية عن الحكم اليوناني والإمارات الإيطالية منذ العصور الوسطى حتى العصر الذي عاش فيه. وقد انتهى في كتابه إلى أن خير حكم يرجوه لبلاده هو الحكم الاستبدادي المستنير الذي يتجاهل المثل الخلقية والدينية إن كان فيها ما يعرقل نجاحه أو يوقف تقدمه." (نوار، مرجع سبق ذكره، صفحة 41)
في الحقيقة، كانت الجمهوريات الإيطالية متنابذة أشد التنابذ، تستبيح في حروبها كل صنوف الدسيسة والغدر والقسوة. فشهد ماكيافللي كل ذلك، وقرأ مثله في كتب التاريخ، فاعتقد أن هذه هي الطبيعة الإنسانية، وانتهى إلى سياسة واقعية قوامها أن الحذر والقوة هما الخصلتان الضروريتان للحاكم، كما قالوا سوفسطائيو اليونان. وعرض مذهبه في كتب، أشهرها كتاب 'الأمير'، و'مقالات على المقالات العشر الأولى في تاريخ تيتو ليفيو' (1513-1521) وهي خير ما كتب. في كتبه جميعا يقارن بين الأخلاق القديمة والأخلاق المسيحية. فيرى أن القدماء كانوا يحبون الجاه والصحة والقوة البدنية، وكانت ديانتهم تخلع هيبة إلهية على القواد والأبطال والمشرعين. أما المسيحية فإنها على العكس ترجع غاية الإنسان إلى الآخرة، وتحث على الإعراض عن الجاه الدنيوي، وتمجد التواضع والنزاهة، وتضع الحياة النظرية الباطنية فوق الحياة العملية الظاهرة. فأوهنت عزيمة الإنسان، وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف. فهي نافعة للجمهور فقط المطلوب منه الطاعة، ويجب على الحاكم أن يحميها ويؤديها حتى ولو اعتقد بطلانها. من هنا، يرى ماكيافللي أن "غاية الأمير القوة والأمن في الداخل، وبسطة السلطان في الخارج. فإذا أراد صيانة سلطانه وجب عليه المران على عدم التقيد بالفضيلة، وعلى استخدام الخير والشر تبعا للحاجة. أما الذي يريد أن يسير سيرة فاضلة في كل ظرف، فعليه أن يحيا حياة خاصة ولا يعرض للحكم، وإلا هلك حتما وسط كثرة الأشرار. وليس الأمير مشرعا، ولكنه حربي، والحرب صناعته الأولى." (كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، 1979، صفحة 25)
هذا، وقد انظم لجماعة الإنسانيين الإنجليزي توماس مور (1478-1535) Thomas More سنة 1504 وأقبل على الحياة الفعلية الهادئة وتأثر بشخصية إيرازموس. وبعد ذلك لم يؤازر موقف الملك من حركة الإصلاح الديني بإنجلترا وانتهى الأمر بتدبير مكيدة له واتهم بالخيانة وظل مدة أربعة أعوام في السجن، ثم قدم للمحاكمة وحكم عليه بالإعدام سنة 1535. اشتهر كمصلح سياسي واجتماعي بسبب كتابه الذي وضعه أثناء إحدى رحلاته حيث تصور فيه رحلة خيالية ممتعة إلى جزر خيالية تتمثل فيها الحياة الاجتماعية والسياسية المثلى فأعطى له صورة للمجتمع المثالي كما تخيله. وقد أطلق على كتابه عنوان: "يوتوبيا" (Utopia) ومعناه العالم الكامل أو المدينة المثالية. (إبراهيم، صفحة 40، 41)
وقد ظفر الكتاب بشهرة واسعة وتهافتت عليه الجماهير التي كان المؤلف يتمتع بمكانة طيبة بينها لشجاعته ومواقفه في جانب الحق. وفي المدينة الخيالية التي يتصورها يتكلم فيها الناس لغة واحدة ويريدون زيا موحدا عبارة عن حلة لا تعوق حركة الجسم، وأَبرز أهمية الإنتاج الزراعي للمجتمع، وإلى جانب الزراعة يتعلم صناعة أخرى عليه أن يتقنها، وساعات العمل في هذا المجتمع محددة، وهناك قوانين اجتماعية خاصة في هذه المدينة، وتَحدث عن حرية العقيدة والملكية الخاصة وأشار إلى الحروب والسلام فأهل يوتوبيا يمقتون الحرب ويرون أنها نكسة ترد الإنسان إلى عصور الهمجية المتوحشة لكنهم مع ذلك يهتمون بتدريب الأجيال الصاعدة تدريبا عسكريا صارما كي يكونوا جميعا مستعدين للدفاع عن بلدهم إن هاجمهم عدو، وليقفوا لنجدة أصدقائهم إن داهمهم خطر غزو أو ليحرروا شعبا يتطلع إلى الحرية لأن سكان الجزيرة يريدون أن يجعلوا من أنفسهم حماة الحرية والإخاء. بحكم أنهم يؤمنون أن هناك وسائل غير الحرب لفض المنازعات منها الذكاء والدهاء والحيلة، واستخدام العقل والفكر عندهم هو الجدير بالإنسان. أما الحروب وما يتخللها من تقتيل وإراقة لدماء الضحايا هي وسيلة تلجأ إليها الأسود والذئاب والكلاب وكل ذي ظفر وناب. (إبراهيم، المرجع نفسه، صفحة 41)
د- النهضة الأدبية والفنية:
* النهضة الأدبية:
ازدهرت الآداب منذ بداية عصر النهضة، وكانت ترتكز على تقليد القدامى في كتابة القصائد الغنائية ورسائل الحب وتدبيج الملامح والمآسي والمراثي والهجاء والاهتمام بجمال الاسلوب وانتقاء الألفاظ. ومع ما أدخله كتاب النهضة من تعابير مأخوذة عن اللاتينية والإغريقية إلا انهم كانوا إلى جانب ذلك يبتكرون ويخلعون على إنتاجهم مسحة جديدة جديدة تميزت بها النهضة الأدبية، ولم يكن الأدباء الأقدمون بالنسبة لهم إلا نماذج للتعبير عن العواطف الشخصية. وتميزت هذه الآداب بأنها كتبت لتدخل السرور والإعجاب والتسلية على القارئ، ولم تهتم بتعليمه أو وعظه، ولاقى المسرح اهتماما كبيرا من أدباء النهضة، حيث أخذت الملهاة والمأساة تقومان مقام المسرحيات الدينية التي كانت من سمات الأدب في العصور الوسطى. فكانت أكثر واقعية وأقوى التقاء بالعواطف الحقيقية للإنسان. وهكذا أصبحت الآداب قومية يعبر بها الأديب عن شخصيته وشخصية شعبه. وقد تجاوز الأدباء الإيطاليون غيرهم من أدباء الشعوب الأخرى وتفوقوا عليهم في التعبير عن عاطفة الفن والبحث عن الجمال. (نوار، مرجع سبق ذكره، صفحة 34)
ويعتبر بترارك (1304-1374) Pétrarqueأول زعيم لهذه الحركة فقد كرس حياته في إيطاليا لدراسة الأدب. وقد ولد في فلورانسه وأمضى حياته الدراسية الأولى في توسكانيا، وقد أرسله والده فيما بعد إلى مونتيلين لدراسة القانون لكنه لم يستسغ تلك الدراسة وتحولت اهتماماته إلى دراسة الآداب القديمة. وشاعت عنه أفكار جديدة وجريئة ظهرت في كتاباته، حيث أوضح فيها اعتقاده بأن الإنسان يجب أن يهتم أولا بحياته على وجه الأرض قبل أن يوجه اهتمامه إلى اشياء تختص بالحياة الآخرة. وانتقد الكنيسة بقوة وصراحة، وتمنى أن يبدأ الشعب الإيطالي بقيادة العالم نحو فلسفة جديدة. (نوار، المرجع نفسه، صفحة 33، 34)
وكان بترارك يرى في اللاتينية لغة الآداب الرفيعة، ويقيس ثقافة الفرد بمدى إلمامه بهذه اللغة، وبفضل تمكن بترارك من هذه اللغة استطاع أن يتذوق الاتجاهات الإنسانية التي حضيت بها كتابات الرومان وتوفر على جمع المخطوطات اللاتينية وجمعها. وقد اتسمت كتابات بترارك بظاهرتين هما:
1- روح التحرر في التفكير والتعبير: فقد عبر عن عاطفة الحب التي كانت تتأجج في قلبه نحو معشوقته لورا وشرح إحساسه إزاءها في صراحة لم تكن مألوفة في العصور الوسطى، كما تغنى بمحاسنها فوصف جميع أجزاء جسمها بما تأباه تقاليد العصور الوسطى، وله ملحمة شهيرة بعنوان (Africa) سرد فيها حوادث الحرب التي اندلعت بين روما وقرطاج بشمال إفريقيا.
2- المطالبة بقيام وحدة سياسية تشمل جميع أنحاء شبه جزيرة إيطاليا. وهذه ارهاصات لظهور القومية. (إبراهيم، مرجع سبق ذكره، صفحة 14)
* النهضة الفنية:
بدأت حركة النهضة الفنية في ايطاليا إبان القرن الرابع عشر لتمتد بعده بشكل تصاعدي إلى عدة دول أوروبية. والحال تلك، يُجدر بنا أن نشير إلى أن تطور العلم الذي شاهدته تلك الحقبة الزمنية قد أثر إيجابا في النشاط الفني. ونخص أعلام الفن النهضوي الذين أحدثوا قطيعة مع الفن الوسيطي، بذكر دوناتو دي نيكولو بيتو (1386-1466) المعروف باسم دوناتيللو Donato di Niccolo di Betto Bardi Donatello الذي غير مجرى فن النحت من حيث المادة والشكل حين قدمه في شكل جديد اعتمادا على أسلوب مغاير لما سبقه بالنظر إلى استغلاله الأمثل لفضاء مادة النحت وتقديمها على نحو تكشف عن مواقف مختلفة وتعبر عن حالاتها النفسية بواسطة ملامح الوجه. وإلى جانب دوناتيللو، نجد أليساندرو دي ماريانو دي فاني فيليبيبي (1445-1510) Alessandro di Mariano di Vanni filipepi المعروف باسم ساندرو بوتيجللي Sandro Botticelli الذي تشبع بالثقافة الفلسفية الإنسانوية من خلال علاقته الوطيدة بالأفلاطونيين الجدد. (أحمد، محاضرات في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، 2023، صفحة 9، 10)
كما نجد في نفس الاتجاه أنجيلوأمبروجيني مونتيبولتشيانو (1454-1494) Angelo Ambrogini Montepulciano الذي أسس فقه اللغة (Philologie) الحديث وكان يتقن فن الترجمة نظرا لتحكمه في زمام أمور مختلف الألسنة على نحو اللاتينية واليونانية وغيرهما. اشتهر بنزعته الإنسانوية لما يحمل شعره وأغانيه من هموم وألم وجمال الطبيعة فضلا عن علاقته ببيكو دولا مير اندولا الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه.
وفضلا عن هذه الكوكبة من الفنانين الإنسانويين، لا يمكن أن نقفز فوق جلالة ليوناردو دا فانتشي (1452-1519) Leonardo da Vinci الفنية، الذي يعد من أشهر أعلام الفن وأكثرهم تأثيرا في عصر النهضة وفيما بعده. تميز وامتاز دا فانتشي بسعة ثقافته العلمية وميله إلى الدقة الرقمية في اعتبار البنى والأشكال وفي امتثالها، كما كان يعتبر أشكال الإخفاق والخطأ والكوارث مواد وأدوات يتعين توظيفها للاهتداء إلى الحقيقة. وعلى هذا الأساس، شيد نسقا فنيا تقني الطبيعة، بناه على الملاحظة استنادا إلى الخبرة والتجربة العلمية. يتميز فكر دا فانتشي بكونه تركيبا من الأمبيريقية والطبيعيوية (Naturalisme). ومن هذا المنطلق، كان يردد لمن يستبصر الاعتبار ويعتبر الاستبصار أن "الحكمة ابنة التجربة" اعتبارا أن التجربة لا تحيد أبدا عن الحقيقة؛ إنما تزيغ عن الحقيقة أحكامنا حين تخطأ في إسناد النتائج إلى غير أسبابها. (كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، 1979، صفحة 17) وإلى جانب هؤلاء، يجب ذكر الآثار الفنية الدامغة التي تركها ميكايل انجلو دي لودوفيكو بيونانوتي سيموني (1475-1564) Michelangelo di Lodovico Buonanaotti Simoni ورفايللو سانزيو دا اوربينو المعروف باسم رفايل (1483-1520) Raffaello Sanzio da Urbino (Raphael) ... إلخ.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن "حضارة الغرب شقت طريقها نحو التقدم حينما استيقظت من سبات عميق بعد فترة طويلة من الركود والظلامية أمدت منذ الإمبراطورية الرومانية حتى انبعاث حركة النهضة والتنوير؛ مستلهمة علوم وفلسفات حضارات سبقتها. فأخضعت أوروبا تراث الحضارات السابقة للنقد، وأسقطت كل ما هو عائق، وأحيت روائع قيمها وتراثها القديم، حتى يتسنى لها إنتاج حضارتها هي ومواصلة حركة التاريخ. لقد عرفت حضارة الغرب طريقها نحو التقدم حينما تخلصت من أوضاع سياسية واجتماعية وثقافية راسخة فرضتها هيمنة الكنيسة والنظام الاقطاعي. لقد مزقوا الإنسان في العصور الوسطى: فسلبت الكنيسة الفرد عقله وشلت إرادته ولم تعترف له بمكانه في الفكر، فكانت لا ترى سوى نظام إلهي مطلق يعمل الناس في حدوده طبقا لمبدأ التحديد المقرر سلفا. أما النظام الإقطاعي فقد وضع الفرد في مراتب من التبعية وسلب مكتنته أمام الطبقة الاقطاعية المسيطرة. (عباس، مرجع سبق ذكره، صفحة 115)
فلقد نهضت أوروبا لتسقط عن نفسها غبار قرون ماضية من كل أشكال التخلف والقوانين والمعادلات والأحكام المسبقة، فاتجهت بقوة نحو عقلانية جديدة انفصلت بموجبها عن عقلية العصور الوسطى، فاعلنت العقل المفكر الناقد المحلل مكانته يتحرر من كافة أشكال القهر والاضطهاد والجمود والخضوع والتبعية المفروضة والمسيطرة عليه من قبل الكنيسة والاقطاع. بدأت الحضارة الغربية بحركات النهضة والتنوير، وبدأت ملامحها تظهر في الأفق في محاولات تحطيم سيطرة وهيمنة الكنيسة والإقطاع. (فيصل، المرجع نفسه، صفحة 115، 116)
إن النهضة الأوروبية انبثقت في إيطاليا وكان أهم خصائصها التحرر من سلطان الكنيسة ورجال الدين، ومن قواعد الأخلاق المتفق عليها، ومن الفلسفة المدرسية التي أتت بها العصور الوسطى. كما جعلت الناس يكرهون كل الفلسفات الدينية اليونانية والنصرانية على السواء مما سيكون له اثر بعد ذلك في تشجيع الفلاسفة لتقديم أنساق فلسفية بديلة وكره الناس كذلك المنطق الصوري الأرسطي. ونادى المفكرون الايطاليون بأن كلا من الفلسفة والمنطق الصوري عقيم لا يفيد في تقدم العلمن مما شجع على رفض الخضوع لسلطان أفلاطون وأرسطو وفلاسفة الدين. (إبراهيم، مرجع سبق ذكره، صفحة 46، 47)
ويمثل عصر النهضة الأوروبية الفترة الانتقالية من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وغالبا ما يحدده المؤرخون بين 1300- 1600م، ويميزونه من غيره بمجموعة حركات ثقافية وفكرية وعلمية شكلت انفجارا ثقافيا وفكريا وعلميا غير معالم الحياة وقيمها في أوروبا على مدى ثلاثة قرون. إذ شهدت هذه القرون تغيرات جوهرية أهمها تبلور اللغات والآداب القومية الحديثة، وتبلور حركات الاستقلال القومي والوحدة القومية، وكذلك ظهور الكنائس القومية وانسلاخها عن الكنيسة الكاثوليكية، وتقلص سلطة البابوية وما يتبع ذلك من سيادة الدولة على الدين، وحلول فكرة الحق الطبيعي محل الحل الإلهي. كما حدث في تلك المدة انهيار النظام الإقطاعي نتيجة لحركات الوحدة القومية وظهور الملكية المطلقة ثم الملكية المقيدة ويعدها الديموقراطيات الحديثة. وفيها انتشرت حركات الإصلاح الديني. ومن سمات عصر النهضة الأوروبية ايضا غحياء التراث القديم (اليوناني والروماني) السابق على المسيحية بوصفه جزئا لا يتجزأ من تراث الإنسانية والتأثر بالثقافة العربية الإسلامية، مما أدى إلى ازدهار الإبداع الفكري، وحلول الطباعة محل النسخ اليدوي منذ اختراع حروف الطباعة 1400 وبداية الاستعمار الاستيطاني إثر اكتشاف القارة الأمريكية في عام 1942 وغيرها من بقاع العالم المجهولة. (الحفيظ، 2024، صفحة 40، 41)
وقد اتخذت النهضة اشكالا ومظاهر مختلفة باختلاف طبيعة البلاد التي ظهرت فيهان فبينما ظهرت بمظهر الإصلاح الديني في بعض الدول الأوروبية كألمانيا وغيرها، نجدها تتخذ شكلا فنيا في إيطاليا. وقد ظهرت بوادر النهضة بظهور فكرة إحياء التراث القديم أو كما سماها المؤرخون حركة إحياء العلوم. ظهرت تلك الحركة في القرنين الأخيرين من فترة الانتقال من عام 1300 إلى عام 1500، حيث أخذ المثقفون في المدن يهتمون بالتنقيب عن الآثار والمخلفات الأدبية الرومانية واليونانية القديمة، ويحاولون دراستها والاستفادة منها، ولكن حركة إحياء العلوم لم تكن هي النهضة ذاتها بل هي مظهر من مظاهرها وبداية طيبة لها. وقد عرف المشتغلون بهذه الدراسات باسم الانسانيين Humanistes لأنهم كانوا يهتمون بدراسة الإنسان نفسه وهذا يعتبر شيئا جديدا في التاريخ البشري، فقد تناست العصور الوسطى إنسانية الإنسان، واهتمت فقط بصفاء روحه وقربه من الله ومن هنا تفشت أفكار التقشف والصوم وإذلال الجسد، وتجلى ذلك بأجلى معانيه في ظهور الرهبنة. ولم يجد الفن له منطلقا في تلك العصور لأن النظرة كانت للروح وليس للجسد، ولم يكن هناك داع لإظهار مفاتن الجسم أو الاهتمام بالإنسان في الأدب أو الفنون الجميلة كالرسم والنحت. (نوار، صفحة 32)
- المراجع:
- جون لويس. (1978). مدخل إلى الفلسفة. ترجمة أنور عبد المالك. بيروت: دار الحقيقة للطباعة والنشر.
- عماد محمد ذياب الحفيظ. (2024). تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر. عمان- الأردن: الدار المنهجية للنشر والتوزيع. – كشي أحمد. (2022). "أثر النهضة الأوروبية في رسم ملامح الحداثة". مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية، المجلد 11 العدد 01، الجزائر: مركز الحكمة للنشر والتوزيع، ص: 576، 589. - كشي أحمد. (2023). مطبوعة الدروس النظرية بعنوان: محاضرات في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة. قسم الفلسفة، جامعة الجزائر -2- أبو القاسم سعد الله. – عبد الحميد البطريق، عبد العزيز نوار. (ب.ت). التاريخ الأوروبي الحديث من عصر النهضة إلى مؤتمر فيينا. بيروت: دار النهضة العربية. - عباس فيصل. (1996). الفلسفة والإنسان: جدلية العلاقة بين الإنسان والحضارة. ط1، بيروت: دار الفكر العربي. – إبراهيم مصطفى إبراهيم. (2000). الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم. الاسكندرية: دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر. – شوقي عطى الله الجمل، عبد الله عبد الرازق إبراهيم. (2004). تاريخ أوروبا من النهضة إلى الحرب الباردة. القاهرة: المكتب المصري لتوزيع المطبوعات. – يوسف كرم. (1979). تاريخ الفلسفة الحديثة. ط5، القاهرة: دار المعارف.