فيما يلي سوف نستعرض معا أهم هذه العلوم للباحث التاريخي :-
أولا العلوم الاجتماعية و الإنسانية :-
1-علم الإنسان ( الأنثروبولوجي )
ربما كان هذا العلم من اكثر العلوم الاجتماعية ملائمة للمؤرخين ذلك ان علماء الإنسان والمؤرخين يواجهون مشكلات متشابهة فى الرأي عند بحثها غير ان علماء الإنسان يدرسون ثقافة الإنسان البدائى بشكل عام على حين يدرس المؤرخون الإنسان المتحضر .
و ليس لعلم الإنسان وجود منفصل كالعلوم الطبيعية بل هو موجود من حيث انه ميدان يلتقى فيه كل من لهم اهتمام بالإنسان لهذا ظهرت أربعة فروع منفصلة لعلم الإنسان هي:-
1- علم الانسان الطبيغى
و هو يدرس التطور البيولوجى للإنسان و تغير السلالات البشرية .
2- علم الآثار
يسعى لاكتشاف طبيعة و ثقافة إنسان ما قبل التاريخ من خلال الكشوف الأثرية .
3- علم اللغات الأنثروبولوجي
يحلل الثقافات الشفهية والمدونة .
4- علم الانسان الثقافي
يدرس الثقافات المعاصرة للقبائل البدائية و الشخصيات و العلاقات البشرية ,
و بوجه عام يعالج علم الانسان المسائل التاريخية عند تتبعه مجرى التطور البشرى و انتشار البشرية و مناهج علم الآثار وعلم الانسان الطبيعى هي نفسها مناهج دراسة التاريخ مع تعديلات تتطلبها الدراسة المتخصصة .
وعلى هذا الأساس فالباحث فى التاريخ لا يمكن ان يستغني عن الدراسات الأنثروبولوجية عندما يدرس مثلا التطور الثقافي فى مجتمع ما لكى يسجل حقيقة مراحل هذا التطور ومدى عملية التأثير و التأثر .
2- علم الجغرافيا
الجغرافيا من العلوم المرتبطة بالتاريخ فالارتباط وثيق للغاية بين التاريخ و الجغرافيا أو بمعنى آخر بين الزمان و المكان فالأرض هى المسرح الذى حدثت عليه وقائع التاريخ وهى ذات أثر فى توجيه البشر وبالتالي لها نفس الأثر على سير التاريخ و ذلك تبعا لنوع تفاعل الانسان مع بيئته و مواجهته لظروفها ومن هنا يلزم للمؤرخ ان يلم بجغرافية المنطقة التى يريد دراستها و الظروف و الظواهر الجغرافية التى تسودها و تؤثر فيها ولقد بلغ من أهمية الجغرافيا ان ظهرت نظرية لتفسير حركة التاريخ عن طريق الجغرافيا .
ولا يمكن للباحث فى التاريخ ان يستغنى عن الدراسات الجغرافية فى كافة فروعها مثل الجغرافيا الاقتصادية و السياسية و البشرية و الإنتاج ، فالباحث فى التاريخ الاقتصادي مثلا عليه ان يعرف مناطق الإنتاج و نوع التربة و أنواع الغلات و ظروف نموها وموسمها لان الباحث سوف يربط ذلك بالسياسة الاقتصادية .
وإذا أراد باحث دراسة التوجهات السياسية لبلد ما فسوف يجد ان الطبيعة الجغرافية تتحكم فى هذه التوجهات لحد كبير فمثلا امتداد نهر النيل من بلاد الحبشة يفرض على مصر علاقات معينة و خاصة بينها و بين دول حوض النيل .
ومما يوضح لنا أثر الجغرافيا فى تغيير مجرى التاريخ ان البحر كان السبب الرئيسي الذى أعاق تقدم تيمورلنك عن التقدم بعد ان هزم بايزيد الأول فى موقعة أنقرة 1402 و بذلك لم يتمكن من القضاء على الدولة العثمانية الناشئة و سرعان ما استعادت قوتها وأدت للشرق الأدنى دورها التاريخي فى مرحلة قوتها .
كذلك ساعدت العواصف و الأنواء الأسطول الإنجليزي على التغلب على ألا رمادا الأسبانية 1588 مما أدى إلى فرض إنجلترا لسيطرتها على البحار وارتفاع شأنها .
و سهول روسيا الواسعة و شتاؤها القارس كانت عوامل أدت إلى فشل حملة نابليون بونابرت عليها 1812 كذلك الحال بالنسبة لزحف جحافل هتلر عام 1941 م.
و لقد ارتبط تاريخ العديد من الأقطار بموقعها الجغرافي و ظروفها الطبيعية فمثلا موقع مصر فى الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا و سواحلها المطلة على البحرين المتوسط والأحمر كان هذا عامل مؤثر فى اتصال مصر المستمر بالحضارات التى نشأت فى حوض المتوسط و على سواحله بالإضافة إلى تحكمها فى طرق التجارة بين الشرق و الغرب عبر البحرين المتوسط و الأحمر .
وفى السهول الخصبة و الوديان كوادي النيل و دجلة و الفرات قامت أقدم و اعرق الحضارات البشرية التى عرفها التاريخ الإنساني , أما البيئات الجبلية و الصحراوية فهي بيئات طاردة للسكان تدفع الانسان للرحيل فمثلا الطبيعة الجبلية لبلاد اليونان أدت من الناحية السياسة إلى تكوين دولة المدينة وأدت كذلك إلى هجرة اليونانيين و تكوينهم لمستعمرات خارج بلاد اليونان .
والعوامل الجغرافية المختلفة تؤثر فى نشاط الانسان كما تؤثر فى طباعه و أخلاقه ومزاجه و فى شحذ ذهنه .
من كل ما سبق يتضح مدى أهمية الجغرافيا كعلم مساعد لدراسة التاريخ فى الواقع أحيانا أرى ان التاريخ والجغرافيا شريكان متساويان فى دراسة الانسان و تاريخه .
3- علم الاقتصاد و الاقتصاد السياسى
هما من العلوم الأساسية التى تخدم دراسة التاريخ فالعوامل الاقتصادية و توزيع الثروة بين الطبقات و كذلك وسائل الإنتاج ونوعه وأسلوب التوزيع للثروة و الاستهلاك كلها عوامل حاسمة و لها دورها فى تشكيل نوع الدولة وطبيعة النظم فيها والطبقة الحاكمة و أجهزتها و قوانينها إلى غير ذلك من العوامل الهامة فى تفسير التاريخ تفسيرا علميا لفترة معينة أو لمنطقة معينة من تاريخ البشرية والجدير بالذكر أيضا ان هناك مدرسة فسرت وقائع التاريخ على أساس اقتصادي بحت ومن ضمن أقوال هذه المدرسة ان تاريخ البشرية كله ما هو إلا تاريخ البحث عن طعام .
و يتضح أهمية هذا العلم من هذا المثال فمثلا إذا كانت الزراعة هى النشاط الأساسي للاقتصاد فى بلد ما فسوف نجد ان الطبقات الاجتماعية الأساسية فى هذا البلد تتكون من طبقتين هما الملاك و المستأجرين وسوف نجد ان طبقة الملاك وخاصة الكبار منهم يتميزون فى المجتمع و تراهم يمارسون النشاط السياسى و يدخلون فى السلطات التشريعية و التنفيذية و يوجهون سياسة الدولة الداخلية والخارجية ، و هذا يدخل فى باب الاقتصاد السياسى الذى يبحث عن النظام السياسى الأمثل لادارة شئون الدولة حسب الاقتصاد الأساسي لها و القوى الاجتماعية فيها .
4- علم الاجتماع
يعتبر هذا العلم من العلوم الوثيقة الصلة بعلم التاريخ و التى يحتاج المؤرخ إلى الوقوف عليها لتساعده فى فهم الأحداث التاريخية وعلم الاجتماع كعلوم الإنسان يقوم بدراسة شاملة للأفعال و العلاقات الإنسانية و من المعروف كذلك ان التاريخ يهتم بدراسة التغير الاجتماعي مثلما يهتم بدراسة التغير السياسي و الديني و الحربي أي انه يهتم بدراسة المجتمع داخل الزمان ومن الأمور التى تهم كلا من علماء الاجتماع والمؤرخين دراسة "الطبقة الاجتماعية " و مكانها فى المجتمع.
وتنشأ طبقة ما نتيجة تفاوت الظروف الاقتصادية بين الأفراد من حيث قدرتهم على الكسب و الإنفاق و يهتم علماء الاجتماع بأسس التناقض الطبقي وأنماط السلوك التى تميز مختلف الطبقات وبأنواع التوتر التى تنشا بين تلك الطبقات و كلها مسائل تهم المؤرخ دون شك وتساعده فى تفهم المجتمع مجال الدراسة .
و علم الاجتماع هو العلم الذي يقوم بصياغة القوانين التى تتناول علاقات الناس فيما بينهم ، و على أي حال إذا أراد الباحث دراسة تاريخ الحركة العمالية فى بلد ما لذا يتعين عليه الإلمام بأسس علم الاجتماع حتى يتعلم متى يقول طبقة العمال أو متى يقول العمال فقط ومتى يقول الوعى الطبقى و الثقافة الطبقية أو متى يتكلم عن الطبقة الاجتماعية ومتى يتحدث عن القوة الاجتماعية و هكذا الحال ا ذا أراد الباحث دراسة تاريخ طبقة الملاك الزراعيين أو طبقة الرأسماليين .
5- علم السكان
هو أحد فروع علم الاجتماع وهو من العلوم الهامة للباحث التاريخي وهو يتناول دراسة أحجام الشعوب وتكوينها و توزيعها الجغرافى و التغييرات التى تطرأ عليها زيادة ونقصانا نتيجة لمختلف العوامل مثل التكاثر أو الوفاة أو الهجرة أو غيرها من العوامل .
ولا شك ان علم السكان بهذه الصورة يعتبر من العلوم الوثيقة الصلة بالتاريخ و دراسي التاريخ حيث قد يضطر المؤرخ للرجوع الى مصادر علم السكان ونتائجه لتوضيح إحدى نقاط بحثه أو لتفسير ظاهرة تاريخية ذات جانب سياسى أو اجتماعى أو اقتصادى .
على سبيل المثال يقال ان أحد أسباب قيام الثورة الصناعية فى إنجلترا فى منتصف القرن الثامن عشر قبل فرنسا إنما يرجع ذلك لقلة سكان إنجلترا مقارنة بفرنسا وحاجة إنجلترا لزيادة الإنتاج لمواجهة الطلب فى الأسواق الخارجية فى حين ان زيادة السكان فى فرنسا كانت تساعد على زيادة الإنتاج لمواجهة الطلب دون الحاجة الى آلات جديدة تعوض نقص العمال .
6- علم النفس
و يعتبر علم بفروعه المختلفة من العلوم اللازمة لدراسة التاريخ إذ ان العوامل النفسية تدخل فى تفسير بعض التصرفات الإنسانية لذلك يجب على المؤرخ التزود بالأسلوب العلمي الذى يقدمه له علم النفس حتى تكون تفسيراته أقرب الى الحقيقة إذا ما أخذ بهذا المفهوم فى التفسير .
ونظرا لان علم النفس يهتم بدراسة جوانب النفس البشرية وان التاريخ يدرس أفراد مجتمع ما فى محاولة لمعرفة الدوافع المختلفة لهؤلاء الأفراد سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو النفسي ، لذلك كان من اللازم ان يحيط المؤرخ نفسه بأهم نتائج علم النفس و تحليلاته ليتمكن من تفسير مثل هذه الدوافع التى تحرك الأفراد و خاصة الأبطال و العظماء .
و الحقيقة ان علم النفس قد يحتاجه الباحث فى التاريخ إذا لم يستطع تفسير اى حركة سياسية بأسباب اقتصادية أو اجتماعية وعند ذلك يمكن البحث عن أسرار الحركة فى التاريخ الشخصي للزعيم من حيث البيئة التى نشأ فيها والأسرة التى تربى فيها للبحث عن "عقد نفسية معينة " مسئولة عن حركته ضد آخرين أو معهم و هذا الجانب النفسي فى التاريخ قريب من عالم الميتافيزيقا المجهول للناس و باب الاجتهاد فيه واسع ويجب ان يؤخذ بحذر شديد .
7- علم السياسة
هو ذلك العلم الذى يهتم بطائفة مختارة من العمليات الاجتماعية التى تؤدى الى تحديد السياسات واتخاذ القرارات و التى تدور حول شرح مفهوم القوة أو السلطة فى الدولة اى تبحث العوامل التى ترسم علاقة القوى الاجتماعية بعضها ببعض وعلاقاتها بجهاز الحكم وفى النهاية ترسم السياسة العامة التى تشكل الظاهرة السياسية مثل البناء الطبقى و المعتقدات الدينية و مذاهب العقيدة السياسية و الثقافية ، كما يتناول دراسة الجماعات ذات المصلحة التى هدفها السيطرة على الحكم أو المشاركة فيه كما ان العلاقات الدولية من الأمور التى يهتم بها علم السياسة .
وعلى الرغم من ان المسائل السياسية تعتبر المحور الرئيسى الذى دارت حوله اهتمامات المؤرخين الى حد كبير إلا انه ينبغى التنويه الى ضرورة الاهتمام بدراسة السياسة كعلم لان مجال اهتمام كل من علم التاريخ و علم السياسة يكاد يكون متشابها الى حد كبير ومن هنا فان فهم أبعاد هذا العلم ومناهجه من الأمور الضرورية للمؤرخ .
و القاعدة هنا ان التاريخ يبدأ من حيث تنتهي السياسة
و يخذ المؤرخ مكان السياسى عندما ينتهى دور الأخير و يخرج من الصورة التى لا يبقى بها إلا المؤرخ و الحدث فقط
بمعنى انه طالما الحدث السياسى ما يزال قائما و متجدد فلا يمكن دراسته تاريخيا ولكن عندما ينتهى الحدث و يغلق الملف علامة على انتهاء فترته هنا فقط يمكن دراسته تاريخيا.
وهناك مقولة تقول ان التاريخ هو سياسة الماضي و السياسة هي تاريخ المستقبل .
بعض العلوم الأخرى الى تعتبر من العلوم المساعدة للباحث
هناك مجالات للإبداع الإنساني يمكن ان تفيد باحث التاريخ غير العلوم السابقة الذكر مثل ألوان الآداب و الفنون المختلفة فالأدب مرآة العصر و هو تعبير عن أفكار الإنسان و عواطفه ويفصح عن دخائل البشر ويرسم نواحي مختلفة من حياتهم الواقعية التى قد لا ترد فى المصدر التاريخي و لعل أوضح دليل على ذلك هو تلك الدراسات التى يقوم بها المشتغلون بالأدب عن " الاتجاهات السياسية و الوطنية فى شعر أحد الشعراء" أو" الأبعاد الاجتماعية و السياسية فى الرواية عند أحد الأدباء" .
فى الواقع يمكن ان نرصد الكثير من وقائع أو حوادث التاريخ فى قصيدة شعر انفعل صاحبها بالحدث فاخرج انفعاله على شكل قصيدة و قد تكون اكثر بلاغة و اعظم فائدة مما لو كتبت فى مصدر لان القصيدة تعبر بلا زيف عن الحدث و تسجل بوضوح انفعال عامة الناس به فالمصدر يمكن ان يوجز فى ذكر الحدث أو لا يكتب الحقيقة أو يقلل مما حدث نتيجة لاعتبارات كثيرة .
والإلمام بنواح من فنون الرسم والتصوير و النحت و العمارة الخاصة بعصر ما تساعد كثيرا على فهم تاريخ ذلك العصر فهذه الفنون مثلها مثل الأدب تعتبر مرآة للعصر تعكس طريقة حياة أهله
ومن الضروري للباحث فى التاريخ ألا يكتفى بتحصيل ثقافته العامة أو الخاصة من الكتب أو المراجع بل ان الخبرة التى يكتسبها الباحث بالممارسة و الملاحظة من شأنها ان تجعله أقدر على فهم الناس فى الزمن الماضي و الحاضر لذلك لا ينبغى على المؤرخ ان يعيش فى عزلة عن الناس حتى يصبح أقرب الى فهمهم و الكتابة عنهم و السفر الى البلد محل الدراسة من الأمور الهامة جدا للباحث .