المحاضرة الثانية:

          الفلسفات المعاصرة وتأثيرها في نشأة الحداثة

تمهيد: لقد تبلور مفهوم الحداثة في بداية الامر عند الغربيين على الرغم من اختلاف النقاد والباحثين ومنظري الادب حول نشأة الحداثة وبداياتها الاولى، غير أن معظمهم يتفقون على أن ملامحها قد بدأت في أواخر 19 على يد الاب الروحي  للحداثة الشاعر الفرنسي شارل بودلار.

الحداثة في كتابات الشعراء والنقاد الغربيين:

الحداثة الشعرية عند شارل بودلار: مهما تكن الاختلافات حول تحديد فترة ادب الحداثة فان المتفق عليه هو أن الشعراء النقاد هم ملارمية ورامبو وشارل بودلار الذين أسسوا مفهوم الحداثة وقنتوه في كتاباتهم النظرية.

وقد تمرد شارل بودلير على الواقع المر الذي عايشه محاولا التحرر من الاعراف الاجتماعية مجسد الخطيئة في الكنيسة وعندما عجز عن تغيير العالم الذي بدأت تأكله الرأسمالية، يحول إلى ذاته بخاطبها عن طريق مداعبته للغة حيث قام بخلخلة بنية القصيدة فالحداثة عنده ليست كلها خيرا بل يعتبر حداثة المدن والمصانع هي الوجه الاسود في حياة الانسان يقول: "ما أعنيه بالحداثة هو العابر والهارب والعرضي إنها نصف الفن الذي يكون نصفه الاخر هو الابدي الثابت" لذلك يكمن القول أن مفهوم الحداثة عند بودلير هو مفهوم وجودي فلسفي والوجود والجمال.

 لذلك تحولت الحداثة في اطروحات شارل بودلير الى إطار معرفي لقيم الحداثة الشعرية حيث حاول مطاردة مستحيل الشعر من خلال مطاردته لمستحيل الحداثة حين أدرك أنها اللحظة الهاربة فكان الحداثة هي لحظة هروب وانقلاب.

 الشعر الحداثي هو الذي يحول الواقع المرئي لواقع شعري تتحول فيه الكلمة إلى ادم جديد يسمى الاشياء بتسميات جديدة ما يمكن استنتاجه: إن الحداثة البودلارية تقوم على رؤية فلسفته بهدف إلى استقراء الواقع بعين ثالثة فمن انعكاس الواقع على مرآة النفس يكون التحليل الذي يعتمد على الخيال الواسع والحدس القوي النافع الى غياهم المكونات ليخرجها ويفككها ويجعل منها تحفة وقيمة سحرية وقصيدة كشفية تحتمل الجديد دائما.

وإذا كان الرمزيون يرون في غموض الشعر قيمة جمالية وفنية لا يرونها بوضوح فإن شارل بودلير هو الاخر اعتبر الغموض شرطا من شروط الشعر الحداثي.

الحداثة الشعرية عند رامبو: هو شاعر سرياني في بحثه عن كمياء الكلمة وعن الاشكال الجديدة وعن الفوضي المجهول يجعل من شعريته شعرية حداثية مطلقة على حد قوله في قصيدته (فصل في الجحيم )علينا أن نكون حداثيين مطلقا لا مجال بعدا عن النشيد فالنحافظ على الخطوة المكتسبة.

 يخرج رامبوا الشعر من نطاق الاناشيد ويرمي به في حضن الحداثة ليجعل من الشاعر ورشة متنقلة عليه أن ينفتح ويمتلك كل المعارف وتقوم الحداثة عند رامبوا على مقولة الرؤيا التي تتجاوز نظام الكون ونظام الاشياء للغوص في أعماق الذات الانسانية ومعرفة ماهيتها والكشف عن روحانيتها لتصبح الحداثة الشعرية عند رامبوا شغف المجهول في سبيل العالم الاخر.

ولذلك وجدنا الشاعر الحداثي يتأسس عنده الذي يضرب في جذوره وهواجس ذكرياته الطفولة للسمو إلى ما فوق الواقع.

الحداثة الشعرية عند ملارمية: لقد نادى ملارمية في موضوع الحداثة بشعرية الابتكار والايحاء إذ أكد في إحدى مقولاته بأنه يبتكر لغة من شأنها أن تفجر شعرية الجدة بمعنى اخر أنه يرسم أثر الاشياء الذي تحدثه لا الاشياء ذاتها ما يجعل الاهتمام يقع في البحث عن الشعرية والاحاسيس والانفعلات التي توقد نار الشعر.

والشاعر الحداثي يكتب بأحاسيسه وشعوره وبأشكال لغوية فالشعر عنده اني متجدر في روح الشاعر الصادق ومثلها نادى بويلاير ورامبو بالغموض نادى أيضا ملارمية بالمبدأ نفسه والاقوال في ذلك واضحة ينبغي للشعر أن يكون ألغازا دائمة

 لذا وجدنا أشعار ملارمية تكسر وتحطم باب الطمأنينة على القارئ وتدفعه إلى عالم الدهشة والغرائب يضاف إلى هذا الغموض والابهام تأكيد على الموسيقى التي تحول القصيدة إلى كهف من الطلاسم وهي موسيقى تجعل القصيدة أشبه ما تكون باللغز تبتعد عن القارئ العادي عن القارئ الجيد.

خلاصة: ليس الشعر مرتبطا بأحداث أو مناسبات بالية عتيقة لأنه ضد الحدث والوصف على حد سواء وفي هذا وجدنا القصيدة الحداثية تبتعد عن أن تكون خبرا يقينا وتتحول الى حقيقة تروي قصة الاجيال في تلاحم يجعل الماضي والحاضر والمستقبل زمنا واحدا منصهرا في لحظة أبدية بإيقاعات سنفونية هي في النهاية جرح الانسان المعاصر في واقعه المتأزم.

 

آخر تعديل: Saturday، 23 March 2024، 10:20 PM