المحاضرة الرابعة: مجالات علم الأسلوب.
أسلفنا القول إن موضوع علم الأسلوب هو اقتناص المظاهر الأكثر خصوصية في الاستعمال اللغوي داخل الخطاب، وكيفيات الانتظام الأبرز داخل الأسلوب، وانطلاقا من زاوية تناول اللغة في تشكلاتها تلك يمكن رصد ثلاثة اتجاهات رئيسة لعلم الأسلوب وهي:
أولا ـ علم الأسلوب النظري:
وهنا يتحدد دور الأسلوبية في السعي إلى ضبط المفارقات الأسلوبية، أو الخصائص المائزة للأسلوب، لا بمعزل عن اللغة، بل في حضور ثوابت ترتبط بالأحداث اللسانية التي تشكل إطارها العام، حينئذ يمكن الانتهاء إلى "بناء نموذج عام للأسلوب، وفي هذه الحالة ستكون الأشكال الفردية كامنة في الأسلوب كمون الكلام في اللغة" ()، ولعل هذا التنظير هو الذي يكون بإمكانه تسليح علم الأسلوب النظري بوظيفة تنبؤية أو توقعية بالأنساق المستقبلية للأسلوب أو جملة الممكنات دون حصرها جميعا، وليست المهمة المزدوجة للنظرية الأسلوبية (التأطير والتوقع) بسهلة، خاصة وأنها تتعلق بتقنين ما هو من طبيعة بالغة التنوع والتعقيد، ذلك التنوع الذي يتأتى من الاستعمالات الموجودة فعلا والموجودة بالقوة، والتعقيد المتأتي من تعقد ظاهرة النص/ الخطاب المرتبط من جهة باللغة وما تراكم من الاستعمالات داخل الجنس الواحد، وبالمنشئ بأبعاده الفكرية والنفسية والثقافية والاجتماعية من جهة أخرى، وبالمتلقي وكيفية مراعاته في عملية الإنشاء. إنه إذا كان النحو مثلا مجال التقنين للاستعمالات القارة والصارمة، فإن الأسلوبية، ومثلها البلاغة، هي إطار الاختيارات التي تمضي في مدى لا يكاد يحد، وهنا يصير الحديث عن نظرية أسلوبية من المخاطرة، لأنه محاولة تنميط وضبط للتنوعات وجملة الممكنات التعبيرية عند كل المنشئين في أزمان متباعدة وأقطار مختلفة، وربما فيما بين أجناس متباينة، وفي علاقتهم بالوقائع المختلفة التي تكتنف الإنشاء، لكنها مخاطرة مستساغة إلى حد بعيد عندما ندرك سعي الأسلوبية لأن تكون علما كسائر العلوم التي تقوم على أنساق مطردة من القوانين، وهي خاصية التجريد التي تميز العلوم عن غيرها، وكما يقول إنه "يجب علينا أن لا نسيء الظن بالأسلوبية عندما ترغب أن تكون علما للتعبير، وذلك لأنها بلاغة، ولكنها بلاغة تستند إلى تعريف جديد لوظيفة اللغة والأدب المصممين كتعبير عن طبيعة الإنسان وعلاقاته بالعالم" ().
تنظر الأسلوبية النظرية إلى النص/ الخطاب على أنه كون منقطع الإحالة، يشتغل وفق قوانين، وعلى هذا فإن مهمتها الكشف عن تلك القوانين ليهتدي بها المنشئون والمحللون، بعيدا عن معيارية البلاغة القديمة، أي إن "النص يفرز أنماطه الذاتية وسننه العلامية والدلالية فيكون سياقه الداخلي هو المرجع لقيم دلالاته حتى لكأن النص هو معجم لذاته() ما جعل الأسلوبية "نظرية شمولية في [الأسلوب] من حيث إنها تحدده وتضبط السبل العملية لتحليله اختباريا" ()، وعلى الجملة فعلم الأسلوب النظري أو الأسلوبية النظرية يجعل هدفه الأسمى تفسير ما يكون به الأدب أدبا وهو الأدبية أو الشعرية، أو الإنشائية، وهو ما نادى به جاكبسون في تحديد وظيفة علم الأدب، من خلال الوسائل التعبيرية اللغوية، دون الالتفات إلى غيرها من العوامل، وهو ما يؤهلها لأن تكون نظرية للأساليب الأدبية في كل اللغات، دون أن تتعلق بواحدة بها دون الأخرى، على نحو اللسانيات العامة التي تعنى بالقوانين التي تنتظم اللسان البشري في المطلق دون تحديد. إن مطمح الأسلوبية على هذا هو "أن تصل يوما إلى تفسير أدبية الخطاب الإبداعي بالاعتماد على مكوناته اللغوية، وهذا ما يجعل لها التعويل المطلق على اللسانيات بمختلف فروعها" ()، ويلاحظ أن هذا المسعى التنظيري تكفل بإقامة صرحه التيار البنيوي ضمن نزعته العملية المتأسسة على الوصف، وهو أيسر في أداء وظيفة بناء نظرية للأسلوب عامة من نظيره المثالي، خاصة كما يتجلة في مذهب ليو سبتزر، الذي يكتفي بجزئية واحدة، ويبني منها أساسا للظاهرة الأسلوبية، ويعممها على الرغم من عدم اطرادها، ومعلوم أن بناء أي نظرية لها صفة الضبط والعموم يحتاج إلى تتبع وتقص لكل الدلائل ولكل الشواهد الجزئية الممكنة على وجود الظاهرة، ليشكل منها بنية ترتد إليها كل الوقائع الفرعية، وتكون هي ذاتها بمثابة النظرية الحاصرة.