المحاضرة الثانية:

لسانيات دوسيوسير

 

تمهيد:

    يعدّ سوسير أب اللسانيات الحديثة، إذ بفضله أصبحت الدراسات اللغوية تتم وفق منهج علمي آني يتوخى الشمول والدّقة وعدم التناقض، ولكن تجدر الإشارة إلى أنّ دراسات سيوسير كانت في البدء تاريخية، فقد تتبّع تطوّر الكلمات، واختلاف المخارج الصوتية من زمن لآخر في المجتمع اللغوي الواحد، وتحوّله إلى الدراسة العلمية للغة لم يكن فجأة، بل كان من تأثير مجموعة من العوامل التي ميّزت نهاية ق19 وبداية ق20 الميلاديين، والتي أثّرت في المعارف عامة وفي الدرس اللغوي خاصة.

    وأهم عمل تركه دي سوسير كتابه (محاضرات في اللسانيات العامة) الذي يقع في خمسة أجزاء، وفي ثلاثمائة صفحة، تناول في مقدّمته قضايا هامة تتعلّق بنشأة اللسانيات وتطوّرها وعناصر علم اللغة ومبادئ علم الأصوات.

    وتجدر الإشارة أنّ تلامذته هم من قاموا بجمع هذه المحاضرات وتنسيقها ونشرها في كتاب عام 1916.

1- أسس ومبادئ النظرية اللسانية عند دي سوسير:

    لتوضيح هذه الأسس والمبادئ قسّمتها إلى مفاهيم اصطلاحية، وثنائيات:

أ-مفاهيم اصطلاحية:

1-  مصطلح اللغة:

    تساءل سوسير عن اللغة قائلا: " ولكن ما اللغة؟ ففي نظرنا لابد من التمييز بينها وبين اللسان، وصحيح أنّ اللغّة ليست سوى جزء جوهريا منه وهي في الوقت نفسه نتاج اجتماعي لملكة اللسان، وتواضعات يتبنّاها الجسم الاجتماعي لتسهيل ممارسة هذه الملكة"

2- مصطلح البنية:

    يؤكد سوسير قبل أن يتساءل عن مفهوم اللغة منهج دراسته فيقول: " يجب أن يكون الانطلاق للوهلة الأولى من بنية اللغة واتّخاذها معيارا للظواهر اللغوية" وقد انطلق في هذا المفهوم من قاعدة عامة سنّها تقول( اللغة شكل لا مادة)، فالمادة هي تلك التصورات والمعاني أما الشكل فهو البنية، وهي الجوهر الحقيقي للّغة، لأنّها تحمل النظام الذي يحدّ تلك المادة.

3- مصطلح النظام:

   يذهب سوسير إلى أنّ اللغة نظام لا يعترف إلاّ بترتيبه الخاص الذي يربط علاقات عديدة بين  أجزاء اللغة البنائية (صوتا وكلمة وتركيبا)، فيقول: " إنّ اللغة منظومة لا قيمة لمكوناتها إلاّ بالعلاقات القائمة فيما بينها ، وبالتالي لا يمكن للألسني اعتبار مفردات اللغة كيانات مستقلة، بل عليه وصف العلاقات التي تربط بين هذه المفردات"، ويتحدّد مفهوم هذا النظام في مختلف القوانين النحوية والدلالية التي تكوّن لغة اجتماعية معينة.

ملاحظة:

    وبالجمع بين المصطلحات السابقة ( اللغة، البنية والنظام) تبح اللغة عند سوسير " نظام من العلامات البنيوية المتماسكة، يقتضي فيها كلّ عنصر الأخرَ بشكل متبادل، ويعتمد كلّ عنصر في وجوده على العنصر الآخر، ليتحدّد كل عنصر من خلال موقعه في الشبكة الكليّة للعلاقات".

4- مصطلح القيمة الخلافية:

    تمثّل عنده جملة من السمات التي تتقابل فيها سائر عناصر النظام اللغوي، يقول سوسير: " ليس في اللغة إلاّ الاختلافات، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك فوجود اختلاف ما يفترض بالضرورة وجود عناصر إيجابية".

5- مصطلحات الملكة والقدرة والأداء:

    الملكة هي القدرة التي يمتلكها الانسان على صياغة اللغة، يسميها سوسير بملكة الكلام المقطّع، ويقصد ملكة التقطيع التي هي نتاج لتأثير الفكر على أعضاء النطق، والتي ينتج عنها الادغام والنبر والتنغيم، وغيرها من الأشكال اللغوية البنيوية المعبّرة عن المعاني.

6- مصطلح الاعتباطية:

   يقصد بها دي سوسير عدم توافق وتناسب الألفاظ في الذهن مع الأشياء في الواقع، حيث تختلف مسميات الأشياء من لغة لأخرى وبالتالي فلا علاقة واضحة بين الصوت والمعنى، وهذه الصفة تربط بين الدال والمدلول ودورها هو إعطاء حرّية أكبر للمتكلمين للتعبير عن الأشياء، واللغة الإبداعية استغلّت هذه العلاقة في صياغة لغة جديدة عبّرت فيها العلامات اللغوية عن معان لم تكن لها في الأصل.

ب- ثنائات دي سوسير:

    تمثّل هذه الثنائيات الأفكار الجديدة التي أتى بها دي سوسير وهي مجموعة من المسائل اللغوية الثنائية المتعارضة، وهي مبثوثة في ثنايا محاضراته، ولم يحدّدها سوسير التحديد الدقيق الذي سنتحدّث عنه، بل جمعها تلاميذه ولهم الفضل في تصنيفها هذا التصنيف:

1- ثنائية اللغة والكلام:

    فرّق دي سوسير داخل هذه الثنائية بين ثلاثة مصطلحات ك

- اللسان: وهو ظاهرة إنسانية ذات أشكال متعدّدة تنتج عن الملكة اللغوية الإنسانية.

- اللغة: تمثّل الجزء المتحقّق من اللغة بمعناها الإنساني(اللسان)، وهي تشكّل نظاما متعارفا عليه داخل جماعة إنسانية محدّدة ، ومن صفاتها أنّها فطرية، اجتماعية، مكتسبة.

- الكلام: هو مفهوم فردي يتعلّق باللسان وباللغة، ويشمل الأداء الفردي المتغيّر المرتبط بالحالة النفسية للمتكلّم .

2- ثنائية الدال والمدلول:

    يستخدم دي سوسير مصطلح العلامة (signe) للدلالة على الكلمة لفظا ومعنى وهما وجهان لعملة واحدة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهما:

- الدال: ويمثّل الصورة الصوتية

- المدلول: ويمثّل الصورة المفهومية الذهنية التي تعبّر عن التصوّر الذهني لذلك الدال، وتتمّ الدلالة (signification) باقتران الصورتين الذهنية والصوتية ، وبحصوله يتم الفهم، يقول سوسير: " إنّ العلامة اللسانية لا تربط شيئا باسم، بل تصوّرا بصورة سمعية ، وهذه الأخيرة ليست الصوت المادي فحسب، وإنما هي الدفع النفسي لهذا الصوت".

3- ثنائية التزامن والتعاقب:

    لها مصطلحات أخرى مثل(السكونية والتطورية) و(الآنية والتاريخية)، وتتعلّق هذه الثنائية بالمنهج اللساني لدراسة اللغة، ونجملها في منهجين هما:

-الدراسة اللغوية الآنية: وتتّصف بأنها وصفية توافقية وسكونية، موضوعها دراسة حالة النظام اللغوي في نقطة معينة من الزمن.

- الدراسة التاريخية: وهي دراسة اللغة في مراحل زمنية متتالية، وصفاتها أنّها تاريخية، تطورية وتعاقبية، تهتم بدراسة العلاقات المنطقية والنفسية التي أدت إلى تلك التغييرات اللسانية عبر مراحل غير متزامنة، وينتج عنها الكشف عن الاختلافات التي تصيب النظام اللغوي الثابت عبر مراحل هذا التطوّر.

4- ثنائية الاستبدال والتوزيع:

    نصطلح عليها بالمحور ( الاستبدالي/التوزيعي) أو ( العمودي/ الأفقي) أو(الاختيار والتأليف)، وهي ناتجة عن تفريق سوسير بين مرحلتين أساسيتين في عملية إنتاج الكلام، ولكنّهما في الوقت نفسه متداخلتان، يقوم بهما المتكلّم في الوقت نفسه، يقول سوسير " إنّ عبارة ما في تركيب ما لا تكتسب قيمتها إلاّ بتقابلها مع ما سبقها أو ما يليها أو بهما معا"

خاتمة:

    استطاع دي سوسير من خلال هذه المصطلحات والثنائيات المستحدثة أن يؤسس لدرس لغوي معاصر، غيّر نظرة الباحثين لمفهوم اللغة، ولمناهج دراستها، ولعل الدرس الوصفي لبناها المختلفة هو ما فتح المجال أمام الكثير من الدارسين للتعمّق في تلك البنى وتلك الثنائيات، ما سمح بتطور الدرس اللغوي وظهور الكثير من المدارس اللغوية الأخرى التي توافقت مع سوسير في الكثير من آرائه واختلفت عنه في بعضها الآخر، وهو ما خدم علم اللسان وطوّره.

Modifié le: Saturday 6 March 2021, 19:34