تعريف النص التاريخي:
هو ذلك الوعاء المادي الذي يحمل معلومات تاريخية مكتوبة في شكل وثيقة أو معاهدة أو نص سواء بلغة او بعدة لغات مختلفة ويكون ذا بعد سياسي أو ثقافي أو اجتماعي أو اقتصادي أو عسكري أو دبلوماسي سياسي، أما المؤرخ الفرنسي (هنري مارو) فيعرف النص التاريخي بأنه كل مصدر للأخبار يتمكن من خلاله المؤرخ من استخلاص شيء ما من أجل معرفة الماضي البشري، فهو يعر عن نتاج فكري أصيل شاهد على فترة معينة من الماضي البشري.
تحتل الوثيقة التاريخية باعتبارها من مخلفات الماضي وضعا مركزيا بل استراتيجيا في كتابة التاريخ، هذا ما يدفعنا لطرح تساؤل منطقي وهو ما هو المقصود بالوثيقة في اطار المنهج التاريخي؟.
لن يكون تحديد مفهوم الوثيقة في اطار المنهج التاريخي بسيطا، لأننا سنضطر الى محاولة استقراء مفهوم الوثيقة التاريخية، انطلاقا من رصيد طبيعة المعرفة التاريخية وتطورها وخصوصية المنهج التاريخي، وسنسلك في هذا التحديد مسلكا يزاوج بين رصد التطور التاريخي لمفهوم الوثيقة في علاقته بتطور المنهج التاريخي ذاته.
أ-الوثيقة ما قبل التاريخ الوضعاني:
من المتعارف عليه أن استعمال كلمة مصدر Source هو للدلالة على المادة التاريخية التي يستعملها المؤرخ لبناء المعرفة التاريخية، ويرجع أصل هذه الكلمة الى المؤرخ اليوناني توسيديدس Thucydide الذي كان أول من أعلن عن مصادره في كتابة تاريخ الحروب البيلوبونيزية في العصر القديم، عكس اخباريو العصر الوسيط الذين لم يهتموا باثبات مصادر اخبارهم عند المسلمين والعرب عكس الرهبان في أوروبا الذين احتفظوا بجميع المخطوطات والمواثيق في عصرهم.
والى غاية مطلع القرن 16 م الذي شهد بداية لتأسيس أماكن للوثيقة التاريخية Dépôts D’archives من طرف مختلف المؤسسات العلمية أو الحكومية لتتضاعف عدد دور الأرشيفات الحكومية ووثائقها، لتعرف نموا كبيرا في أوروبا خاصة بعد اندلاع الثورة الفرنسية، لتبقى الثقافة الأرشيفية والتوثيقية بعيدة عن الكتابة التاريخية الى غية مطلع القرن 19م.
ب-الوثيقة خلال التاريخ الوضعاني:
لقد تطور منهج التاريخ الوضعاني في كتابة التاريخ خلال القرن 19م وهكذا نظر المؤرخون الوضعانيون اللذين كانوا يطمحون الى أن يصبح التاريخ علما، من خلال دور الوثيقة التاريخية في كتابة التاريخ على أن يشبه دور المادة في بناء المعرفة العلمية من طرف العالم الطبيعي وتفسيرها، محاولين بذلك الإبتعاد عن كل التأويلات الفلسفية والتي التصقت بالكتابة التاريخية لفترة من الزمن، ليفسح التصور الوضعاني لمفهوم الوثيقة المجال لتطور النقد التاريخي وتطوره في انتاج معرفة تاريخية تتسم بالموضوعية وتبتعد عن الذاتية بشكل لايقل عن المعرفة العلمية الحقة.
ويقسم المنظور الوضعاني الوثيقة انطلاقا من ثلاثة عناصر مختلفة وهي: أولا علاقة الوثيقة بالإستكشاف الوثائقي، ثانيا كون الوثيقة هي موضوع للمعرفة التاريخية وأداة لها ودليل لبنائها، وثالثا علاقة الوثيقة بالنقد التاريخي الذي هو محور درسنا هذا.
ج-الوثيقة ومرحلة الإستكشاف الوثائقي:
بعد صياغة المؤرخ مباشرة للإشكالية يشرع مباشرة في البحث عن الوثائق التاريخية وتعتبر هذه المرحلة من بين المراحل الشاقة والمتعبة والحاسمة للمؤرخ، وللإستكشاف مصدران هما الشهود العيان من خلال الروايات الشفهية والمجاميع الوثائقية المتوفرة في الأرشيفات والمكتبات.
د-الوثيقة موضوع للمعرفة التاريخية ودليل لبنائها:
ان المنظور الوضعاني يركز ويرهن على كتابة التاريخ من خلال توفر الوثائق ويعمم صفة الوثيقة التاريخية على كل الشواهد والأثار التي خلفها انسان الماضي، بالرغم من اعتراف أصحاب هذا المنظور على أن هذه الوثائق لا توصل الى يقين المعرفة بل تقوي الاحتمالات و الإفتراضات فقط، ومن بين أبرز دعاة هذا المنهج المؤرخ الفرنسي مارو الذي يقول في هذا الصدد:(ينبغي أن يستخلص المؤرخ الحقيقة التاريخية من الوثيقة، ولكن هذه الأخير لا تثبت بشكل قطعي حذوث الواقعة التاريخية، اذ أن النقد التاريخي لا يمكن أن يحدد الا مصداقية التي تستحقها شهادة الوثيقة...ولكن اذا تمكننا من تجميع شواهد عديدة ...فان احتمال حقيقة حدوث الواقعة التاريخية يصبح كبيرا وينتهي بالوصول الى المعرفة اليقينية).وفضلا عن ذلك فان الوثيقة بالنسبة للوضعانيين هي في أن واحد أداة للماضي وللمؤرخ ودليل على علمية التاريخ كعلم قائم، فهي موضوع للماضي من حيث كونها تنتمي للماضي ومن بين مخلفاته وشاهد عليه، وهي أداة للمؤرخ من خلال كونها المادة الأولية للكتابة التاريخية وهي دليل في الوقت نفسه على علمية التاريخ لأن المعرفة التاريخية تكتسب مشروعيتها من خلال الصرامة في المنهجية التي يتم بها دراسة وتحليل الوثائق التاريخية، لذلك يمكننا القول بأن المؤرخ الوضعاني يجتاز من خلال كتابته للتاريخ مرحاتين هما:
مرحلة الإستكشاف ومرحلة النقد التاريخي.
ه-الوثيقة وعملية النقد التاريخي:
من خلال تطرقنا الى كيفية تعامل المؤرخ الوضعاني مع الوثيقة التاريخية باعتبارها مادة أولية لبناء المعرفة التاريخية فان ذلك لا يكون الا بعملية النقد وفق خطوتين هامتين هما: النقد الظاهري والنقد الباطني، حيث نميز في النقد الظاهري(الخارجي) بين نقد الثقة والمصدر من خلال النظر والتبصر في هوية الشاهد وتحديد طابع الوثيقة بالقيام بعمليات تطبيقية عند المؤرخ المحترف، ونميز بين نقد التحصيل الذي يشمل نقد النصوص والوثائق الغير أصلية أيضا.
أما النقد الباطني(الداخلي)للوثيقة التاريخية فيتضمن أيضا خطوتين هامتين هما: التأويل وهو يستهدف مضمون الوثيقة من خلال التجرد من الأحكام المسبقة ومقارنتها بوثائق أخرى في نفس الموضوع التاريخي، مع الإستعانة بعلوم أخرى لها علاقة مع التاريخ(علم النفس، علم الإجتماع،علم الجغرافيا ، الجيولوجيا، الأثار، ...)، أما الخطوة الثانية فهي النقد السلبي للوثيقة والذي يعتمد على كشف الحقائق وتفسيرها وتمييزها بين الصحة من الخطأ، والغث من السمين والحقيقة من الخيال والأسطورة وذلك لقصر العقل البشري ولاختلاط الأحداث والتواريخ من جهة، ولتعرض الحادثة التاريخية للنسيان أو لدخول ظروف أو قناعات ذهنية وفكرية ومذهبية كذلك عليها، ويستعين المؤرخ في ذلك على نقد الوثيقة من خلال عدة علوم متنوعة تسمى بالعلوم المساعدة للتاريخ، ومن أهمها هي علم المخطوطات paléographie وفقه اللغة philologie وعلم الوثائق diplomatique.
و-الوثيقة من المنظور التاريخاني:
تطور المنظور التاريخاني للوثيقة عكس اتجاه المنظور الوضعاني ليبرهن على محدودية المنهج الوضعاني في الكتابة التاريخية من خلال استنادها فقط على الوثيقة، حيث يعتبر أصحاب هذا المذهب بأن المنهج الوضعاني يبقى ناقصا وعاجزا من خلال:
-محدودية المعرفة التاريخية للمنهج الوضعاني كونه يعتبر الوثيقة التي لها علاقة بالنصوص الرسمية المحفوظة والبقايا الأركيولوجية، ولتأثره بالطابع السياسي للقرن 19م، ولكون هذا القرن هو القرن الذي تبلورت فيه القوميات والصراعات السياسية ناهيك عن كونه فترة لتكوين المؤرخين لهذا انتقدت المدرسة الوضعانية لكونها مدرسة العهود والعقود والحروب.
-قصر المنظور الوضعاني على مسايرة الحدث التاريخي ووصفه ومعايشة أحداثه، لكون المؤرخ يعتمد فقد على الوثيقة والنص التاريخي وهذا ما يؤثر سلبا على مجرى تفسير الأحداث وتطورها مكانا وزمانا، اضافة الى أن الموضوعية التي يتغنى بها أصحاب المذهب الوضعاني بتجردهم من الأحداث وترك مسافة بينهم وبين ما يحيط بها من شخصيات ووقائع تجعلهم بعيدين كل البعد لفهم واقع ذلك العصر فهما حقيقيا.
أما أصحاب المنهج التاريخاني فهم يؤكدون على أن فهم وتصور نسق الأحداث والوقائع التاريخية يقتضي من المؤرخ التماهي وتقمص الشخصيات والأدوار والعيش في الزمن الماضي، للنفاذ الى عمق الحدث التاريخي بواسطة التقمصEmpathie والتماهي، لا بواسطة النقد الجاف للوثائق وتحليلها ومقارنتها فقط، ومن بين أصحاب هذا الطرح التاريخاني المؤرخ الفرنسي "مارو" الذي يقول بخصوص ذلك:(التماهي والتقمص هو استثمار لذاتية المؤرخ ممثلة في شخصيته وثقافته ومعارفه، وكل ما يساعده على فهم سلوك الإنسان الماضي وتفكيره).
ولقد برهن أصحاب المنهج التاريخي على استحالة فصل ذاتية المؤرخ في بناء المعرفة التاريخية، فهم لا يتصورون تاريخا بدون مؤرخ وهذا ما كتبه المؤرخ "مارو" في عنوان فصله بعبارة: "المؤرخ غير منفصل عن التاريخ"، ما يعني حسبه أن أي وثيقة تاريخية هي مصدر لكل الأخبار المختلفة، حيث يتمكن من خلالها المؤرخ بفكره من استخلاص أشياء مختلفة عن الماضي البشري من منظور زاوية السؤال المطروح، مع ارتباط اجابته بتنوع الأثار والنصوص والمعارف والملاحظات من كل نوع.
اذ يعتبر التاريخانيون بأن مفهوم الوضعانيين للوثيقة بسيط نسبيا لاتباطه بالوثائق فقط والتي هي مجال بسيط للبحث نسميه بالتاريخ الحدثي، الذي يسهل علينا تحديد نوع الوثيقة التاريخية المناسبة للحدث المناسب، لكن الأمر يتجاوز التاريخ الحدثي اذا تعلق بالخلفيات والبدايات والأسباب والإنعكاسات وهنا تبدو محدودية الوثيقة التاريخية عند الوضعانيين حسب التاريخانيين، مع العلم أن مفهوم الوثيقة سيشهد تطورا مع ظهور مدرسة الحوليات خصوصا في ظل تلاقح التاريخ مع العلوم المساعدة له.