1. حرب الاستقلال الأمريكية: 1775-1783م

1.2. اندلاع الثورة الأمريكية ومجريات الأحداث

إنّ الشرارة التي أشعلت فتيل حرب الاستقلال الأمريكية، هي منح البرلمان البريطاني عام 1773م شركة الهند الشرقية البريطانية حقّ احتكار بيع الشاي (مادة تجارية مهمّة في أمريكا آنذاك) عن طريق وكلائها الرسميين فقط إلى العملاء الأمريكيين المحليين، فأُقصي بذلك التاجر الأمريكي الوسيط من مثل هذه العمليات التجارية. وقد أحدث هذا الأمر دويا هائلا في المستوطنات البريطانية بأمريكا، وأدّى إلى نشوب مقاطعة سلمية لشاي الحكومة البريطانية، واستعاض الأمريكيون عنه بالشاي المهرّب من هولندا.

         في 16 سبتمبر 1773م، قاد أحد أبرز الثوار 'صامويل أدامس' مجموعة من الرجال، متنكرين في زي الهنود الحمر، وهاجموا ثلاثة سفن بريطانية راسية بميناء بوسطن، ورموا حمولتها من الشاي في مياه المحيط، وعرفت هذه الحادثة بـ"حفلة شاي بوسطن"، فردّت الحكومة بإغلاق ميناء بوسطن في وجه الحركة التجارية؛ ممّا عرّض هذه المدينة لأزمة اقتصادية كبيرة.

2- 1- المؤتمر القاري الأول 1774م:

 على إثر هذه الأحداث، قرّر الأمريكيون مجابهة الحكومة، فاجتمعوا في مدينة فيلادلفيا، في المؤتمر الأول ( الكونغرس الأول)، وقد حضره 65 مندوبا يمثّلون جميع المستعمرات باستثناء جورجيا التي غاب ممثلوها، وكان من بين أبرز المجتمعين 'جورج واشنطن'، 'جون آدامز' و 'بنيامين فرانكلين'، وقد اُعتبر هذا المؤتمر أوّل هيئة ذات صبغة شرعية، وأهمّ ما خلُص إليه:

- تكوين جمعية تمثّل المستعمرات تسمّى"الرابطة".

- تقرّر مقاطعة البضائع الإنجليزية، وفرض ذلك على الأمريكيين ولو باستخدام القوة.

- كما أقرّ المجتمعون في هذا المؤتمر أنّ أي اعتداء على أي ولاية هو بمثابة اعتداء موجّه ضد جميع الولايات الممثّلة في المؤتمر... (شبه وحدة سياسية).

          ومع ذلك لم يكن يدُر في خلد المؤتمرين فكرة الانفصال عن بريطانيا، إن هي قبلت بمطالبهم، لكن الحكومة الإنجليزية استمرّت في عنادها، وأرسلت قوات عسكرية جديدة لتعزيز تلك الموجودة في مدينة بوسطن. وفي الوقت نفسه بدأت ولاية "ماساشوست" وغيرها في إعداد قواتها المحلية لمقاومة الإنجليز، وعمّت تدريجيا فكرة إنشاء "الجيوش المحلية" للدفاع عن المستوطنات (جيوش المستوطنات).

2-2- المؤتمر القاري الثاني 1775م:

         زادت الخلافات بين الطرفين منذ عام 1775م، إثر محاولة الحكومة البريطانية اعتقال اثنين من الزعماء الأمريكيين في مدينة "لكسنجتونLexington" قرب بوسطن، ومع ذلك بقي الأمريكيون متردّدون طيلة عام كامل في حرب الإنجليز إلى غاية 1776م. ويبدو أنّ الجنود البريطانيون هم من أطلق الطلقة الأولى عندما استولوا على مخزن للأسلحة غير المرخصة في كونكورد، بعد ذلك بعدّة أسابيع اجتمع المؤتمر الثاني (الكونغرس الثاني) في شهر ماي 1775م، وقرّر المُؤتمرون ما يلي:

- اعتبار الجيش المحارب حول بوسطن جيشا خاصا بالمستعمرات كلّها، وبالتالي إنشاء جيش أمريكي موحّد عبر كل الولايات المشاركة في المؤتمر، وعيّنوا 'جورج واشنطن' لقيادته، وأطلقوا عليه تسمية: "جيش القارة الأمريكية American continental army".

- إرسال حملة عسكرية شمالا إلى كيبيك؛ لإرغامها على الانضمام إلى الثوار الأمريكيين.

- الدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية البوربونية من أجل دعم الثوّار عسكريا.

- إرسال التماس إلى الملك "جورج الثالث"، بغرض إعادة النّظر في الإجراءات التعسفية المتّخذة ضد ولاياتهم، واعتبروا هذا الالتماس هو الأخير؛ كحل سلمي بين الثوار وبريطانيا.

- رفض الثوار مقترحات 'اللورد نورث'، بخصوص إيجاد حلّ آخر لقضية الضرائب التي يدفعها الأهالي الأمريكيين كدعم للميزانية القومية للإمبراطورية البريطانية، واعتبروا ذلك بمثابة تحايل عليهم.

         بمرور الأيام ارتفعت المشاعر المؤيّدة للثورة بين السكان، كما ساهم الكتّاب المتحمّسون للاستقلال بكتاباتهم في تأجيجها، فأطلق "توماس بين thomas Paine" في كُتيّبه "الشعور العام Common sense" دعوة صريحة إلى الثورة والانفصال عن بريطانيا، قائلا: " ليس من المعقول أن يُقبل مبدأ سيطرة جزيرة من الجزر على قارة بكاملها، فأمريكا لنفسها وبريطانيا لأوربا".

2- 3- إعـــــلان الاستقــــلال:

         أٌقرّت "وثيقة إعلان الاستقلال" في 02 جويلية 1776م، والتي كتبها 'توماس جيفرسون thomas Jefferson'، واعتمد الكونغرس الأمريكي نظرية جون لوك حول الحرية كأساس فكري للثورة الأمريكية، وقد تمثّلت الأسباب المباشرة لإعلان الاستقلال في:

- غضب الأمريكيين من استخدام بريطانيا للجنود المرتزقة في الحرب ضدهم، خاصة بعدما جلبت أكثر من 20 ألف من المقاتلين الألمان، بالإضافة إلى الهنود الحمر والعبيد السود.

- قرار البرلمان الإنجليزي بإغلاق الموانئ الأمريكية إلى حين قبول القوانين الجديدة، وهو الأمر الذي دفع الأمريكيين لإعلان الاستقلال الذي سيمكّنهم من الحصول على مساعدات أجنبية من دول أخرى.

- الكتابات المعارضة للملك "جورج الثالث" المستبد، والتي عملت على إظهار محاسن الاستقلال.

- سيطرة المتطرّفين على الأغلبية في الكونغرس الأمريكي، وفرض آرائهم على الآخرين.

         بدأت الاشتباكات بين الجانبين، كما شرعت فرنسا تمدّ الثوار بالسلاح سريا، وساهمت اسبانيا بدورها في مساعدة الثوار، خاصة وأنّها رأت في النفوذ البريطاني خطرا على مستقبلها في أمريكا الجنوبية، وكانت موقعة 'ساراتوجا Saratoga' (وهي منطقة قريبة من نيويورك) في 17 أكتوبر 1777م، مهمّة وحاسمة بين الطرفين بعد انتصار الثوار الأمريكيين، إذ ترتّبت عنها عـدة نتائـج:

- إعلان فرنسا دخول الحرب إلى جانب الثوار، وإعلان اسبانيا من جهتها الحرب ضد بريطانيا واعترافها باستقلال الثوار، وهو ما أدّى إلى تعطيل المواصلات البحرية البريطانية تعطيلا بالغا، بسبب دور الأسطولين الفرنسي والاسباني في عرض المحيط.

- اعتراف فرنسا باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية في 6 فيفري 1778م، ودخولها معها في حلف ضد بريطانيا.

- مساعدة هولندا وغيرها من الحكومات الأوربية للثوار، سيما بعد ازدياد الضغط عليها من طرف شعوبها، حيث أبدى الرأي العام الأوربي تعاطفًا كبيرًا مع الثورة الأمريكية.

 عرفت تلك الفترة أيضا؛ حربا بحرية شرسة بين الأسطول البريطاني من جهة وأسطول فرنسا وهولندا من جهة ثانية، لكن هاتين الأخيرتين عجزتا عن تحقيق نصر حاسم، وبقي الأسطول البحري البريطاني مسيطرا على الوضع، إلى غاية قيام الفرنسيين بحملة بحرية كبيرة بقيادة 'دي جراس de Grass'، فأجبروا الأسطول البريطاني على التقهقر، وهو ما أثّر كثيرا على الجيش البريطاني الذي يحارب بالأراضي الأمريكية.

وفي عام 1781م حاصرت قوات "جورج واشنطن" بمساعدة قوات فرنسية مدينة 'يورك تاون Yorktown'، وهي من أهم مواقع الجيش الحكومي البريطاني، فاضطرّ قائده 'كورنواليس Cornwallis' إلى الاستسلام بتاريخ 19 أكتوبر.

وتعتبر هذه المعركة من المعارك الفاصلة في تاريخ الثورة الأمريكية.كما يجب أن نشير إلى التحوّل الذي حدث باستقالة رئيس الوزراء البريطاني 'اللورد نورث' في 2 مارس 1782م، حيث خلفه 'اللورد روكنغهام Rockingham ' والذي دخل في مفاوضات من أجل السلام مع الأمريكيين. وقد نجـم عنها:

- بداية انسحاب الحاميات البريطانية من الولايات المتحدة الأمريكية.

- بدأت مفاوضات الصلح حول المسائل الجوهرية (الاستقلال، الموانئ، الأسطول البحري والديون...)، وتم توقيع الهدنة في 20 جانفي 1783م.

- اعتراف بريطانيا باستقلال الو.م.أ في المنطقة الممتدة من  الحدود الكندية حتى خط عرض 31° شمالا، كما تنازلت عن عدة جزر لصالح فرنسا واسبانيا.

2-4- عقد معاهدة باريس 03 ديسمبر 1783:

         حاولت بريطانيا توقيع اتفاق سلام على انفراد مع الأمريكيين دون مشاركة فرنسا، لكن تطوّر مجريات الحرب والنفوذ الفرنسي في أوساط الثوّار، أجبر بريطانيا على المجيء صاغرة إلى قصر فرساي بباريس لتوقيع اتفاق الصلح، والذي تضمن البنود التالية:

- استقلال المستعمرات الثلاثة عشرة حتى نهر الميسيسيبي، وهي التي ستحمل اسم الولايات المتحدة الأمريكية، واستيلاء المستعمرات على أراضي الهنود الحمر في تلك المنطقة.

- تثبيت الحدود مع كندا واقتسام البحيرات بين الدولتين، ماعدا بحيرة "ميتشغان" التي كانت من نصيب الو م أ.

- اعتراف الو م أ بالديون البريطانية المستحقة عليها قبل الثورة، وكذلك إقرارها بحقّ العفو العام لصالح السكان المتعاطفين مع بريطانيا (الملكيين)، وتوطينهم في المستعمرات البريطانية الأخرى (كيبك، إيقوسيا الجديدة، برمودا، وبعض جزر الأنتيل...).