4. المؤثرات الحضارية الأوربية (البريطانية) في العالم الجديد:

كان نمط الحياة في العالم الجديد بريطانيا محضا، لكن نظرا لاختلاف الظروف في البيئة الجديدة، فقد بدأ يتبلور تدريجيا أسلوبا مستقلا في الحياة الأمريكية، وهذه الظروف تمثّلت في:

1_ استمرارية "الزحف الحضاري" من الشرق نحو الغرب داخل قارة أمريكا الشمالية؛ بسبب وجود أرض مُشاعة بحاجة إلى من يستوطنها، وصعوبة ظروف الحياة هناك. هذا الوضع خلق إنسانا جديدا متقشفا ومعتمدا بصفة كلية على نفسه.

2_ كان المهاجرون مختلفون من حيث خلفياتهم الثقافية والجنسية والاجتماعية والتاريخية، وأدّى وجودهم في بيئة واحدة إلى خلق مجتمع جديد ثم انبثقت عنه قومية جديدة (مواطنة واحدة تحت راية القانون البريطاني)، وحصل ما يصطلح عليه علماء الاجتماع بـ"الانصهار الحضاري".

5-1: الحياة الاجتماعية في المستعمرات:

         كانت نسبة زيادة السكان مرتفعة جدا، نتيجة استمرار الهجرة وارتفاع نسبة المواليد بسبب الزواج المبكّر والرغبة في تكوين عائلات كبيرة تساهم في استصلاح الأراضي واستغلالها الاستغلال الأمثل.

         وبالرغم من وجود التمايز الطبقي في العالم الجديد، إلا أنّه كان أقلّ حدّة مما هو عليه في أوربا وفي المستعمرات الاسبانية في أمريكا الجنوبية، لكن هذا  الأمر لا ينفي وجود نظام اجتماعي طبقي:

1- طبقة الأرستقراطيين: تتمثل في الموظفين الكبار، رجال الدين، كبار ملاك السفن والتجار، كبار الإقطاعيين من أصل بريطاني.

2- الطبقة الوسطى: شملت  المزارعين، التجار الصغار،  الحرفيين الفنيين، ومثّلت هذه الطبقة الغالبية العظمى من سكان المستعمرات.

3- طبقة العمال: وكان ضمنها العمال الأحرار غير الحرفيين، لكن لا يمكن أن نسميها الطبقة الدنيا أو الكادحة، لوجود طبقة رابعة متميّزة تتمثّل في الخدم المتعاقدين والرقيق السود (العبيد).

         فيما يتعلق بالنمط المعماري للسكنات، فقد بنى المستوطنون الأوائل منازلا تشبه في نمطها المعماري الأوربي، وفيما بعد غيّروا أنماطها حتى يتمكّنوا من الاستغلال الجيد لمواد البناء المحلية، خاصة بعد أن وجدوا أنّ الخشب أفضل لتشييد المنازل، فاستخدموا الألواح الخشبية في تشييد منازلهم ومزارعهم. بالنسبة للأثاث كان أغلبه مستوردا من أوربا وإنجلترا تحديدا، سيما أثاث المستوطنين الأغنياء (الأرستقراطيين)، كما صنعت الأسر الأمريكية أثاثها وأدواتها المنزلية الخاصة.فيما يتعلق باللّباس فقد اختلف حسب مهنة الفرد وموقعه في المجتمع، فقد ارتدى الفلاحون الملابس الخشنة التي يصنعونها بأنفسهم، بينما كان التجار الأغنياء يحصلون على ملابس باهظة الثمن، مستوردة حسب أساليب الموضة الإنجليزية في ذلك الوقت.

5-2: الأديان في المستعمرات الجديدة:

         وجدت "البروتستانتية المتطرفة" ظروفا بيئية مناسبة في العالم الجديد، وبالتالي فقد ازدهرت في المستعمرات الشمالية أكثر بكثير مما كانت عليه في أي مكان آخر، وقد أدّى التنوّع في الخلفيات الدينية للفئات المهاجرة إلى أمريكا الشمالية، إلى خلق نوع من التسامح الدّيني في المستعمرات، وكان للبيوريتان الأثر الأكبر على الحياة الدينية في المجتمع الناشئ.

         أما في المستعمرات الوسطى فقد كان تعدّد الأديان من المظاهر الرئيسية، ومثّلت فئة الكويكرز الكاثوليكية الغالبية العظمى، كما كان في نيويورك فئات من الألمان والهولنديين المصلحين.

         في المستعمرات الجنوبية كان أتباع الكنيسة الأنجليكانية يمثلون الأغلبية سيما في المناطق الساحلية.      

5-3:  اللغة والثقافة في المستعمرات:  

إنّ هيمنة اللغة الإنجليزية في العالم الجديد، لا يعني أنه لم يتم دمج وتوظيف بعض الكلمات، حيث تم استخدام بعض الكلمات الهندية والفرنسية والهولندية (مثل: Boss, Yankee) وتم تطوير لغة إنجليزية أمريكية، و لحد الآن لا توجد لغة رسمية على المستوى الفيدرالي، بينما اللغة الوطنية هي الإنجليزية بحكم الواقع.

         كان إنشاء المدارس والتعليم إجباريا في الشمال، أما في الوسط فكان يدخل ضمن مهام الكنيسة، وجنوبا تتكفّل به العائلات الغنية، وكان التعليم في البداية مقتصرا على تعلّم اللغات القديمة ودراسة الأديان، أما في ميدان الصحافة؛ فقد أنشأت أوّل مطبعة في المستعمرات عام 1639م، وطُبعت أول جريدة في عام 1690م، وكانت أوّل جريدة دورية في أمريكا الشمالية هي "بوسطن نيوز" وظهرت عام 1740م، وبخصوص الأدب؛ كانت موضوعاته تدور حول الحياة في المستعمرات، وانحصر في المواضيع الدينية وتاريخ المستعمرات، وأكثر الانتاج الأدبي يأتي من نيو أنجلند.

5-4: تأثيرات أفكار عصر التنوير:

أدّى انتشار أفكار التنوير إلى التخفيف من أثر المعتقدات الدينية على حياة الناس، وبحلول عام 1700م، كانت أمريكا تحتضن الأفكار الإنسانية التنويرية الحرة، وأصبح عامة الناس يتقبّلون هذه الأفكار الجديدة، ويؤمنون بضرورة إعطاء الفرد حرية الاختيار، وهكذا فإن حريات الإنسان اُتّخذت سببا للثورة ضد أي استبداد سياسي.

يعتبر"بنجامين فرانكلين"واحدا أشهر العلماء والكتّاب في المستعمرات، ولقد اهتم بفكرة مفادها: "جعل العلم وسيلة لخدمة الإنسان في حياته العملية"... كما أثّر كثير من الفلاسفة الأوربيين وعلماء الاجتماع الأوربيين على الفكر الأمريكي الحديث، من هؤلاء "جون لوك John Locke"، وكذلك "جان جاك روسو" الذي آمن هو الآخر بحرية الإنسان، بالإضافة إلى الاقتصادي البريطاني "آدم سميثAdam Smith" وكتابه "ثروة الأمم" الصادر عام 1772م، وفكرته الشهيرة "دعه يعمل دعه يمر"Laissez faire laissez passé.

كما يجب أن نشير إلى ازدياد الاهتمام بالكتابات السياسية، خاصة بعد منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، لا سيما بعد موافقة بريطانيا على قانون الطباعة والنشر سنة 1765م، وهو ما فتح المجال لانتشار الأفكار السياسية التحررية شيئا فشيئا في أوساط الأمريكيين، ومهّد لاندلاع الثورة الأمريكية.