7. ب ــــ مرحلة السلوكية

ب ــــ مرحلة السلوكية

   ومنذ القرن العشرين، وخاصة النصف الثاني منه. طرأ على دراسة السياسة تحول الكبير حيث بدأ علماء السياسة، تحت تأثير الثورة العلمية وعلى ضوء نجاحها المذهل في العلوم الطبيعية، يحلمون بتحقيق اختراق في العلوم الاجتماعية، مماثل لذلك الذي أحدثته ثورة نيوتن في الفيزياء، لكي يحررهم من سيطرة التقليد السائد في الحقل آنذاك الذي كان بنظرهم منغلقا ومفتقرا للصرامة العلمية. ومع أن مثل هذا الحلم كان حاضرا منذ بدايات القرن التاسع عشر متمثلا في كتابات (أوجست كونت ودور كهائم) الوضعية إلا أن مشروع إعادة صياغة علم السياسة امبريقيا وعلميا لم ينطلق بقوة كافية إلا في منتصف القرن العشرين المنصرم مع ما أصبح يعرف في أوساط العلم "بالثورة السلوكية".

وبالرغم من بداياته القوية واجه ذلك المشروع تحديات كبيرة بعد مرور أربعة عقود على انطلاقه، وهي إن لم تكن نجحت في القضاء عليه فقد أفقدته بريقه وتألقه بالتأكيد. لكن بغض النظر عن مستقبل الطموحات العلمية في دراسة السياسة إلا أن الطاقة الأكاديمية التي أطلقتها الثورة السلوكية كانت هائلة حيث ازدهرت اقترابات جديدة واكتشفت طرق جديدة للبحث وانتشرت مناهج وطرق غير مألوفة سابقا. بل إن معظم اقترابات دراسة السياسة التي لا تزال معنا حتى اليوم مثل الوظيفية ، والنظريات السبرنطيقية، والتحليل النسقي، ونظريات المباريات، و الاقترابات النفسية وغيرها، قد تمت صياغتها خلال فترة العشرين سنة من خمسينات وحتى سبعينات القرن العشرين المنصرم.

وفي هذا السياق يشار إلى أن ذروة الجدال في علم السياسة حول التوجه السلوكي قد تزامنت مع أعلى درجات الاحتفائية التي تمتع بها صدور كتاب توماس كوهن Thomas Kuhn "بنية الثورات العلمية" "The Structure of Scientific Revolutions" في 1962م الذي تحدى فيه عدداً من الأفكار المسّلم بها على نطاق واسع فيما يتعلق بطبيعة المجال العلمي؛ وكان من المتعذر تجنب حقيقة أن توماس كوهن فضلاً عن عدد آخر ممن سبقه في مجال فلسفة العلم سيصبحون منخرطين وبقوة في الصراع حول السلوكية. حيث كانت هناك نزعة واضحة لدى أنصار التوجه السلوكي في علم السياسة لتوظيف "نموذج توماس كوهن" للثورات العلمية لتفسير تاريخ الحقل ولوصف الممارسة البحثية فيه. وتم التعبير عن هذه النزعة بشكل أكثر وضوحا خلال ستينات القرن العشرين المنصرم من خلال الخطابات الرئاسية للجمعية الأمريكية للعلوم السياسية التي ألقاها كل من ديفيد ترومان (1965) وجبرائيل الموند (1966) حيث بدأ توظيف مفهوم توماس كوهن عن النموذج المعرفي في النقاش العام حول تطور الحقل وصعود التوجه السلوكي.

 خلال هذه المرحلة شهد ميدان السياسة المقارنة تطورا هائلا استحق أن ينعت بالثورة أو الانفجار كما ذهبت إلى ذلك مجلة السياسة المقارنة في أول عدد لها صدر عام 1968م.

ففي عام 1925 كان معدل مقررات السياسة المقارنة إلى جملة المقررات السياسية في مرحلة البكالوريوس هو 1 : 10 أصبح 1 : 5 في عام 1945، 1 : 3 في عام 1965.

رافق ذلك احتجاج على المنهج التقليدي في تناول نظم الحكم وهو احتجاج تعود جذوره إلى العشرينات والثلاثينات من هذا القرن حيث نجد في الكتابات الرائدة لكل من جورج كاتلن، تشارلز ميريام، هارولد لا سويل تحذيرا من الدراسة المؤسسية – القانونية ودعوة إلى التحليل المقارن لعلاقات القوة والسلطة.

ما هي العوامل التي أدت إلى هذا التطور وما هي مظاهرة؟

للإجابة على الشق الأول من السؤال، يمكن أن نشير إلى عاملين أساسيين:

- نالت دول كثيرة استقلالها السياسي وتزايدت أهميتها على المسرح الدولي بحيث لم يعد ممكننا تجاهلها في الدراسات السياسية.

- تعرض علم السياسة ذاته لثورة منهجية كان من شأنها أضعاف شوكة المناهج والأدوات التقليدية وتبني مناهج وأدوات جديدة، هذه الثورة أملتها جملة اعتبارات:

الاعتبار الأول: يتعلق بالحركة السلوكية التي أثرت بشكل واضح في العلوم الاجتماعية ومن ضمنها علم السياسة.

الاعتبار الثاني: يتعلق بانفتاح علم السياسة بفروعه المختلفة على العلوم الأخرى كما يظهر في استخدام النماذج الاقتصادية والأساليب الأنثروبولوجيا للتعرف على علاقات القوة والسلطة غير الرسمية، فضلا عن اقترابات البحث السيسيولوجي كالتحليل البنائي الوظيفي والتحليل الطبقي والنخبوي.