المحاضرة الأولى

الموقع: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
المقرر: السياسة المقارنة
كتاب: المحاضرة الأولى
طبع بواسطة: Visiteur anonyme
التاريخ: Tuesday، 14 May 2024، 10:01 PM

الوصف

     نتناول في هذا المحور ماهية السياسة المقارنة والمراحل التي مرت بها من ماقبل السلوكية ثم المرحلة السلوكية وأخيرا الما بعد السلوكية.

1. مقدمة عامة

     من المعلوم عند دارسي العلوم السياسية أن مقياس السياسة المقارنة يتطلب جهدا مضنيا و إلماما عميقا بتخصص العلوم السياسية بصفة عامة و مختلف العلوم ذات الصلة كعلم الاجتماع و الاقتصاد و القانون، لما يفرضه هذا المقياس من دقة في التصورات حول الظاهرة السياسية المقارنة مع ضرورة توظيف منهجية بحث جد منضبطة تفترض وجود نظرية علمية تسير وفق خطوات محددة و سابقة لعملية البحث و الدراسة،  كما تستوجب كذلك معرفة واسعة بحقول السياسة المختلفة بدءا بالدولة و مؤسساتها وصولا إلى نظم السياسية على مختلف مشاربها، مرورا بالفواعل المؤثرة في العملية السياسية سواء كان التأثير داخليا أو خارجيا واسع النطاق أو ذيق المجال، لذا ينبغي على كل من يملك الرغبة في دراسة هذا المقياس العمل الدؤوب و الجد في التحصيل لكي يضع الخطوة في مكانها الصحيح و يفيد ويستفيد من دراسة مقياس السياسة المقارنة، خدمة للعلم والمجتمع.

2. ماهية السياسة المقارنة ومراحل تطورها

- تعريف السياسة المقارنة: هي أحد فروع علم السياسة الذي يهتم بدراسة أنماط الحكومات في عصرنا الحاضر، إلا أن تحديد المجال للحكومات المقارنة على وجه الدقة تعترضه صعوبتان أساسيتان:

الصعوبة الأولى: تتصل بصعوبة الدراسة وماهية الأعمال التي تشكل جوهر النشاط الحكومي

الصعوبة الثانية هي الأهم فإنها تتصل بعلاقة بين القيم من ناحية وبين النشاط الحكومي من ناحية أخرى، وذلك باعتبار أن لكل حكومة من واقع ميراثها التاريخي شيئا من الخصوصية يجعل تنميط الحكومات وتصنيفها محلا للتساؤل.

ومن واقع هذا الاختلاف في تحديد معنى المصطلح ودلالته يمكن التمييز بين مستويين تحليلين أساسيين في نطاق السياسات المقارنة:

المستوى الأول الأفقي: مقارنة نشاط الحكومة داخل المجتمع بنشاطات مجموعة وحدات الحكم المحلي وربما ببعض الوحدات الأصغر مثل اتحادات التجار والشركات والكنائس التي تتفق مع الحكومة في مضمون وليس في حجم النشاطات.

المستوى الثاني الرأسي: وهذا المستوى يعتمد على أسلوبين:-

أ- مقارنة تطور نفس الحكومة عبر فترات تاريخية، وقد سيطر هذا النوع من التحليل بالفعل على دراسة السياسات المقارنة زمنا طويلا يكشف عن أوزان المتغيرات المختلفة في تأثير على النشاط الحكومي ودرجة استمرارية هذا التأثير.

ب- مقارنة مختلف حكومات العالم المعاصر، وفي هذا استخدمت معايير شديدة الاختلاف.

ولئن كانت تلك هي أبرز نماذج تصنيف الحكومات على مستوى العالم، إلا أنها ليست الوحيدة، حيث تعددت محاولات التصنيف و النمذجة باختلاف المعايير المستخدمة وهي شديدة التنوع، لكن الملاحظ أن هذا الأسلوب في الدراسة المقارنة تواجهه الصعوبة نفسها الخاصة بجمع المعلومات المتعمقة.

 

3. ماهية السياسة المقارنة

- ماهية السياسة المقارنة.

هناك مصطلحات أربعة يستخدمونها العلماء بالسياسة كمفردات: الحكومات المقارنة، والسياسة المقارنة، والتحليل المقارن، والمنهج المقارن.

فالمقررات الدراسية والمصنفات العلمية والتصنيفات المكتبية تستعمل أي منها دون أبداء السبب.

وبالتحليل المقارن جزء هاما من أية دراسة عملية في أي علم من العلوم، وبالتالي فهو علم السياسة بمثابة جوهر التفسير السياسي.

وهكذا يتضح أن مفهوم السياسة المقارنة يستوعب المفاهيم الثلاثة الأخرى فضلا عن أنه أكثرها دلالة في التعبير عن حقل النظم السياسية المقارنة.

ويختلف الرأي حول حدود علم السياسة المقارنة. فهناك من يعتبره قلب علم السياسة المعاصرة ويطالب بتوسيع نطاقه ليشمل أكبر عدد من الدول، وبالتالي من المؤسسات والتفاعلات السياسية التي تخضع للمقارنة.

فذهبوا يسلكون معها النظم السياسية في الدول الإسكندنافية وشرق أوروبا وبلدان العالم الثالث.

فإذا كانت البرلمانات، فلماذا لا تكون الأحزاب؟ وإذا كانت الأحزاب فلماذا لا تكون القيادة وأساليب التجنيد السياسي؟.

كذلك فقد زعموا أن قصر نطاق العلم مقدما على المؤسسات بذاتها في دول معينة يضيق نطاق المقارنة بل ويحد من إمكانية التفسير، فمثلا قد يكون الحزب في دولة ما متغيرا مستقلا، وفي أخرى متغيرا تابع.

على أن هناك فريقا آخر يحذر من توسيع نطاق السياسة المقارنة لحد شموله علم السياسة ذاته، ويطالب بوضع حدود لعلم السياسة المقارنة. وهذا الانقسام يتحصل بموقفين:

الأول: أنه لا يجوز التوسع في فهم محتوى السياسة المقارنة إلى الحد الذي تختفي معه الفواصل بينهما وبين علم السياسة، ثم بينهما وبين فروعه الأخرى كالعلاقات الدولية والنظرية السياسية.

الثاني: وجوب التوسع في محتوى السياسة المقارنة بوصفها تحليلا مقارنا للنظم السياسية وذلك بزيادة كم ونوعية النظم السياسية الرئيسية والفرعية موضع الدراسة توخيا لفهم أعمق وأشمل للمؤسسات السياسية وأنماط التفاعل السياسي في مختلف الدول.

 

 

 

4. 3 ــ قواعد ومستويات وأهداف الدراسة المقارنة.

يقصد بالمقارنة إبراز وتفسير أوجه الشبة والاختلافات بين المتغيرات موضع الدراسة.

فإن التحليل السياسي المقارن يعني بإظهار وتعليق الفروق وأوجه التشابه بين مختلف المؤسسات السياسية وأنماط السلوك السياسي.

تخضع لمجموعة من القواعد:

لا موضع للمقارنة بين أشياء متماثلة تماما أو متميزة تماما.

لا يصح إجراء مقارنات مصطنعة تعتمد على تشويه للظواهر أو الحالات محل المقارنة.

ضرورة خضوع الظواهر موضع المقارنة لمناهج بحث واحد توخيا للدقة العلمية في إظهار جوانب الاتفاق والاختلاف.

وتتخذ المقارنة أكثر من شكل أو مستوى:

مقارنة واحدة أو الظاهرة في مرحلتين تاريخيتين مختلفتين في تطورها التاريخي في مجتمع معين: دراسة النظام السياسي المصري أو إحدى مؤسساته أو السلوك التصويتي أو نمط القيادة أو السياسات العامة قبل وبعد الثورة 1952 أو عهد عبد الناصر وعهد السادات.

مقارنة المظاهر أو وحدة عبر المكان، أي في دولتين أو أكثر: الدراسة المقارنة للنظام السياسي ككل أو لأحد عناصره أو العلاقة بين متغيرين (التعليم والمشاركة السياسية) أو ظاهرة الثورة أو المعارضة السياسية في أكثر من دولة.

وينبغي الإشارة إلى أن القيام ببحوث مقارنة حول ظاهرة أو أكثر في مجتمعات عديدة أمر ضروري لبناء، كما يقول جبرائيل الموند، نظرية احتمالية للنظام السياسي أي الوصول إلى تعميمات أكثر صدقا.

هذه المنهجية المقارنة تمثل بديلا عن التجريب المعملي، فعن طريقها يستطيع الباحث الاجتماعي ضبط المتغيرات على نحو غير مباشر من حيث يستحيل عليه الضبط المباشر الذي يتيحه التجريب المعملي للباحث الكيميائي أو للفيزيائي.

لقد أدرك ضرورة أجراء دراسات مقارنة ماكس فيبر لبيان العلاقة السببية بين الأخلاق البروتستانتية وبين ظهور الرأسمالية.

ويرمي التحليل المقارن إلى تحقيق أغراض عديدة أهمها:

إثراء المعارف النظرية والواقعية بأنظمة الحكم والسياسة في العالم الذي نعيش فيه.

تقييم الخبرات والمؤسسات والتفاعلات وأنماط السلوك السياسي.

التنبؤ بالأحداث والاتجاهات والنتائج.

تحديد أي أنظمة الحكم أكثر كفاءة، وطرح حلول أفضل لعديد من المشكلات السياسية، فالدراسات الراهنة عن النظم السياسية في دول العالم الثالث تدفع إليها، جزئيا، رغبة في معرفة أكثر صيغ الحكم ملائمة وقدرة على النهوض بهذه الدول.

5. 4 ـــ المراحل التي مرت بها السياسة المقارنة

أ ــــــ مرحلة ما قبل السلوكية

   يلاحظ المتابع لتاريخ تطور علم السياسة أن الطابع الفلسفي قد طغى بشكل كبير على دراسة السياسة منذ العصور الكلاسيكية وحتى بداية العصور الحديثة، حيث كان ينظر للسياسة طوال تلك الفترة على أنها حقل معياري وأخلاقي، وبالتالي كانت في أوقات كثيرة فرعا للفلسفة الأخلاقية. وكما هو حال معظم الفكر ما قبل الحديث لم تعر السياسة اهتماما كبيرا بالمسائل الإمبريقية حيث أنصب معظم اهتمام المفكرين السياسيين على ما ينبغي أن يكون بدلا مما هو كائن، وكان من أهم المواضيع التي حظيت باهتمامهم تلك المتعلقة بطبيعة الدولة المثالية، والعلاقة المناسبة بين الأهداف الإنسانية الروحية والزمنية، والغايات المطلقة للحياة السياسية، وطبيعة الإنسان كحيوان سياسي.

ومع ذلك، فقد كان هناك دائما من شذ عن الاتجاه السائد ونذكر هنا على سبيل المثال كل من أرسطو وابن خلدون و ميكا فيلي الذين اشتهروا بدراساتهم الدقيقة للعملية السياسية الواقعية. إلا أن مجال علم السياسة لم يتسع بشكل كبير خارج حدود الإطار الفلسفي إلا منذ وقت قريب. ويعود أحد الأسباب الرئيسة وراء هذا التوسع إلى ظهور المدارس الفكرية القانونية-المؤسساتية والتاريخية خلال القرون الثلاثة الماضية حيث أضافت هذه المدارس ثراء المنظورات القضائية والتطورية إلى التقليد الفلسفي للبحث السياسي. وبدأ حقل السياسة في دراسة الدول من خلال قوانينها العامة، وأطرها الدستورية وبناءاتها الرسمية فضلا عن الاهتمام بتطورها المؤسساتي ومحاولة فهم التجارب التاريخية الفريدة لكل دولة. ( أنظر كتاب محمد ناصر عارف أبستمولوجيا السياسة المقارنة،ص204،183)

      ونعود مرة أخرى لأرسطو، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، أبو المنهجية السياسية المقارنة، إذ استخدم الأسلوب المقارن في دراسة أشكال وأساليب الحكم.

وسلك بهذا الخصوص منهاجيه مقارنة تحصلت خطوطها العريضة في تحديد المشكلة ( مصادر الاستقرار وعدم الاستقرار )، جمع معلومات عن 158 دستورا من دساتير دول المدينة، تصنيف المعلومات بمعنى تصنيف الدساتير وفقا لعدة محكات أهمها عدد الحكام، وطريقة الحكم والبقاء الطبقي، وأخيرا تحديد أي أنماط الحكم أكثر أو أقل استقرارا وتفسير ذلك.

وذكر أرسطو أن النظام السياسي المستقر هو الذي يتركز على حكم الطبقة الوسطى التي تجمع بين الكثرة العددية نسبيا، والتوسط في المستوى الاقتصادي والقدر المعقول من التعليم والثقافة.

وفي عصر النهضة، نجد مكافيلي يستخدم تقريبا نفس المنهاجية الأرسطو طاليسية وخلال القرن السادس عشر، درس المفكر الفرنسي جان بودان حكومات الدول الأوروبية وعقد مقارنات بينها تناولت خصائصها ومظاهر القوة فيها.

وفي القرن التاسع عشر، انحرف التحليل المقارن عن الأسلوب الذي اتبعه العلماء السابقين، فقد اهتمت الدراسات المقارنة بتفسير التطورات السياسية في ضوء الأفكار الخاصة بالتقدم المستمر، والسمو العرقي والتفاؤل الديمقراطي.

وبنهاية القرن المذكور، اتخذت دراسات نظم الحكم طابعا نظريا وقانونيا لا علاقة له بالواقع الفعلي لهذه النظم، فقت اتجهت بعض الدراسات إلى تمجيد أو نقد المذاهب الديمقراطية والارستقراطية والاشتراكية والفوضوية دون اهتمام بالنظم التي تتبنى هذه المذاهب.

وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت الدراسات المقارنة أكثر تعقيدا.

ويلاحظ أن ظهور النظم الشمولية بعد الحرب وجه الأنظار إلى دراسة النظم السوفيتية والفاشية والنازية من حيث خصائصها ومدى تعارضها مع النموذج الديمقراطي الغربي.

وفي هذه الفترة، ظهرت بعض الكتابات السياسية المقارنة، من ذلك: هيرمان فاينر: الحكومة الحديثة بين النظرية والتطبيق 1932، كارل فردريك: الحكم الدستوري والسياسة 1937، ادوارد سايت: المؤسسات السياسية 1938، إلا أن هذه المؤلفات اقتصرت على النظم السياسة الغربية، وظلت ملخصة للنهج القانوني – الشكلي إلى حد كبير. على أية حال، يمكن تحديد الخصائص العامة للدراسة المقارنة لنظم الحكم قبل الحرب العالمية الثانية في النقاط التالية:

- سيادة الطابع الغربي: فالنظم السياسية الغربية بالذات كانت محط البحث المقارن.

- غلبة الطابع القانوني – الشكلي: ذلك أن الدراسة ركزت على المؤسسات الحكومية، أيعلى السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية في النظم موضع المقارنة من منظور دستوري دون اهتمام يذكر بالمؤسسات غير الحكومية كالأحزاب والجماعات الضاغطة.

- الاتجاه نحو الوصف وليس التحليل: فالدراسة بوجه عام لم تكن تتجاوز الوصف إلى التفسير.

- غلبة الاتجاه المحافظ: نزعت السياسة المقارنة إلى الاهتمام بما هو ثابت وغير متغير في نظم الحكم، أي وصف التطور الذي مرت فيه المؤسسات السياسية وانتهى فيها إلى وضعها الحاضر.

- غياب الاهتمامات النظرية: إذ لم يهتم دارسوا السياسة المقارنة ببناء نظرية امبيريقية لنظم الحكم، ولم يعرف عن أحدهم أنه حاول صياغة فروض أو تعميمات تقبل الاختبار.

- الجمود المنهجي: فقد تميز مجال السياسة المقارنة بقصور منهجي شديد.

هذه الحالة يمكن فهمها في أمرين:

الأول: أن السياسة ذاتها لم تكن تعتبر آنذاك علما تجريبيا وإنما علما انطباعيا.

ثانيا: إن الدراسة الوصفية والقانونية لمؤسسات الحكم لم تكن تتطلب تكنيكات بحثية معقدة.

تلك هي السمات التي ميزت ميدان السياسة المقارنة قبل الحرب العالمية الثانية.

6. أ ــــــ مرحلة ما قبل السلوكية

   يلاحظ المتابع لتاريخ تطور علم السياسة أن الطابع الفلسفي قد طغى بشكل كبير على دراسة السياسة منذ العصور الكلاسيكية وحتى بداية العصور الحديثة، حيث كان ينظر للسياسة طوال تلك الفترة على أنها حقل معياري وأخلاقي، وبالتالي كانت في أوقات كثيرة فرعا للفلسفة الأخلاقية. وكما هو حال معظم الفكر ما قبل الحديث لم تعر السياسة اهتماما كبيرا بالمسائل الإمبريقية حيث أنصب معظم اهتمام المفكرين السياسيين على ما ينبغي أن يكون بدلا مما هو كائن، وكان من أهم المواضيع التي حظيت باهتمامهم تلك المتعلقة بطبيعة الدولة المثالية، والعلاقة المناسبة بين الأهداف الإنسانية الروحية والزمنية، والغايات المطلقة للحياة السياسية، وطبيعة الإنسان كحيوان سياسي.

ومع ذلك، فقد كان هناك دائما من شذ عن الاتجاه السائد ونذكر هنا على سبيل المثال كل من أرسطو وابن خلدون و ميكا فيلي الذين اشتهروا بدراساتهم الدقيقة للعملية السياسية الواقعية. إلا أن مجال علم السياسة لم يتسع بشكل كبير خارج حدود الإطار الفلسفي إلا منذ وقت قريب. ويعود أحد الأسباب الرئيسة وراء هذا التوسع إلى ظهور المدارس الفكرية القانونية-المؤسساتية والتاريخية خلال القرون الثلاثة الماضية حيث أضافت هذه المدارس ثراء المنظورات القضائية والتطورية إلى التقليد الفلسفي للبحث السياسي. وبدأ حقل السياسة في دراسة الدول من خلال قوانينها العامة، وأطرها الدستورية وبناءاتها الرسمية فضلا عن الاهتمام بتطورها المؤسساتي ومحاولة فهم التجارب التاريخية الفريدة لكل دولة. ( أنظر كتاب محمد ناصر عارف أبستمولوجيا السياسة المقارنة،ص204،183)

      ونعود مرة أخرى لأرسطو، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، أبو المنهجية السياسية المقارنة، إذ استخدم الأسلوب المقارن في دراسة أشكال وأساليب الحكم.

وسلك بهذا الخصوص منهاجيه مقارنة تحصلت خطوطها العريضة في تحديد المشكلة ( مصادر الاستقرار وعدم الاستقرار )، جمع معلومات عن 158 دستورا من دساتير دول المدينة، تصنيف المعلومات بمعنى تصنيف الدساتير وفقا لعدة محكات أهمها عدد الحكام، وطريقة الحكم والبقاء الطبقي، وأخيرا تحديد أي أنماط الحكم أكثر أو أقل استقرارا وتفسير ذلك.

وذكر أرسطو أن النظام السياسي المستقر هو الذي يتركز على حكم الطبقة الوسطى التي تجمع بين الكثرة العددية نسبيا، والتوسط في المستوى الاقتصادي والقدر المعقول من التعليم والثقافة.

وفي عصر النهضة، نجد مكافيلي يستخدم تقريبا نفس المنهاجية الأرسطو طاليسية وخلال القرن السادس عشر، درس المفكر الفرنسي جان بودان حكومات الدول الأوروبية وعقد مقارنات بينها تناولت خصائصها ومظاهر القوة فيها.

وفي القرن التاسع عشر، انحرف التحليل المقارن عن الأسلوب الذي اتبعه العلماء السابقين، فقد اهتمت الدراسات المقارنة بتفسير التطورات السياسية في ضوء الأفكار الخاصة بالتقدم المستمر، والسمو العرقي والتفاؤل الديمقراطي.

وبنهاية القرن المذكور، اتخذت دراسات نظم الحكم طابعا نظريا وقانونيا لا علاقة له بالواقع الفعلي لهذه النظم، فقت اتجهت بعض الدراسات إلى تمجيد أو نقد المذاهب الديمقراطية والارستقراطية والاشتراكية والفوضوية دون اهتمام بالنظم التي تتبنى هذه المذاهب.

وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت الدراسات المقارنة أكثر تعقيدا.

ويلاحظ أن ظهور النظم الشمولية بعد الحرب وجه الأنظار إلى دراسة النظم السوفيتية والفاشية والنازية من حيث خصائصها ومدى تعارضها مع النموذج الديمقراطي الغربي.

وفي هذه الفترة، ظهرت بعض الكتابات السياسية المقارنة، من ذلك: هيرمان فاينر: الحكومة الحديثة بين النظرية والتطبيق 1932، كارل فردريك: الحكم الدستوري والسياسة 1937، ادوارد سايت: المؤسسات السياسية 1938، إلا أن هذه المؤلفات اقتصرت على النظم السياسة الغربية، وظلت ملخصة للنهج القانوني – الشكلي إلى حد كبير. على أية حال، يمكن تحديد الخصائص العامة للدراسة المقارنة لنظم الحكم قبل الحرب العالمية الثانية في النقاط التالية:

- سيادة الطابع الغربي: فالنظم السياسية الغربية بالذات كانت محط البحث المقارن.

- غلبة الطابع القانوني – الشكلي: ذلك أن الدراسة ركزت على المؤسسات الحكومية، أيعلى السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية في النظم موضع المقارنة من منظور دستوري دون اهتمام يذكر بالمؤسسات غير الحكومية كالأحزاب والجماعات الضاغطة.

- الاتجاه نحو الوصف وليس التحليل: فالدراسة بوجه عام لم تكن تتجاوز الوصف إلى التفسير.

- غلبة الاتجاه المحافظ: نزعت السياسة المقارنة إلى الاهتمام بما هو ثابت وغير متغير في نظم الحكم، أي وصف التطور الذي مرت فيه المؤسسات السياسية وانتهى فيها إلى وضعها الحاضر.

- غياب الاهتمامات النظرية: إذ لم يهتم دارسوا السياسة المقارنة ببناء نظرية امبيريقية لنظم الحكم، ولم يعرف عن أحدهم أنه حاول صياغة فروض أو تعميمات تقبل الاختبار.

- الجمود المنهجي: فقد تميز مجال السياسة المقارنة بقصور منهجي شديد.

هذه الحالة يمكن فهمها في أمرين:

الأول: أن السياسة ذاتها لم تكن تعتبر آنذاك علما تجريبيا وإنما علما انطباعيا.

ثانيا: إن الدراسة الوصفية والقانونية لمؤسسات الحكم لم تكن تتطلب تكنيكات بحثية معقدة.

تلك هي السمات التي ميزت ميدان السياسة المقارنة قبل الحرب العالمية الثانية.

7. ب ــــ مرحلة السلوكية

ب ــــ مرحلة السلوكية

   ومنذ القرن العشرين، وخاصة النصف الثاني منه. طرأ على دراسة السياسة تحول الكبير حيث بدأ علماء السياسة، تحت تأثير الثورة العلمية وعلى ضوء نجاحها المذهل في العلوم الطبيعية، يحلمون بتحقيق اختراق في العلوم الاجتماعية، مماثل لذلك الذي أحدثته ثورة نيوتن في الفيزياء، لكي يحررهم من سيطرة التقليد السائد في الحقل آنذاك الذي كان بنظرهم منغلقا ومفتقرا للصرامة العلمية. ومع أن مثل هذا الحلم كان حاضرا منذ بدايات القرن التاسع عشر متمثلا في كتابات (أوجست كونت ودور كهائم) الوضعية إلا أن مشروع إعادة صياغة علم السياسة امبريقيا وعلميا لم ينطلق بقوة كافية إلا في منتصف القرن العشرين المنصرم مع ما أصبح يعرف في أوساط العلم "بالثورة السلوكية".

وبالرغم من بداياته القوية واجه ذلك المشروع تحديات كبيرة بعد مرور أربعة عقود على انطلاقه، وهي إن لم تكن نجحت في القضاء عليه فقد أفقدته بريقه وتألقه بالتأكيد. لكن بغض النظر عن مستقبل الطموحات العلمية في دراسة السياسة إلا أن الطاقة الأكاديمية التي أطلقتها الثورة السلوكية كانت هائلة حيث ازدهرت اقترابات جديدة واكتشفت طرق جديدة للبحث وانتشرت مناهج وطرق غير مألوفة سابقا. بل إن معظم اقترابات دراسة السياسة التي لا تزال معنا حتى اليوم مثل الوظيفية ، والنظريات السبرنطيقية، والتحليل النسقي، ونظريات المباريات، و الاقترابات النفسية وغيرها، قد تمت صياغتها خلال فترة العشرين سنة من خمسينات وحتى سبعينات القرن العشرين المنصرم.

وفي هذا السياق يشار إلى أن ذروة الجدال في علم السياسة حول التوجه السلوكي قد تزامنت مع أعلى درجات الاحتفائية التي تمتع بها صدور كتاب توماس كوهن Thomas Kuhn "بنية الثورات العلمية" "The Structure of Scientific Revolutions" في 1962م الذي تحدى فيه عدداً من الأفكار المسّلم بها على نطاق واسع فيما يتعلق بطبيعة المجال العلمي؛ وكان من المتعذر تجنب حقيقة أن توماس كوهن فضلاً عن عدد آخر ممن سبقه في مجال فلسفة العلم سيصبحون منخرطين وبقوة في الصراع حول السلوكية. حيث كانت هناك نزعة واضحة لدى أنصار التوجه السلوكي في علم السياسة لتوظيف "نموذج توماس كوهن" للثورات العلمية لتفسير تاريخ الحقل ولوصف الممارسة البحثية فيه. وتم التعبير عن هذه النزعة بشكل أكثر وضوحا خلال ستينات القرن العشرين المنصرم من خلال الخطابات الرئاسية للجمعية الأمريكية للعلوم السياسية التي ألقاها كل من ديفيد ترومان (1965) وجبرائيل الموند (1966) حيث بدأ توظيف مفهوم توماس كوهن عن النموذج المعرفي في النقاش العام حول تطور الحقل وصعود التوجه السلوكي.

 خلال هذه المرحلة شهد ميدان السياسة المقارنة تطورا هائلا استحق أن ينعت بالثورة أو الانفجار كما ذهبت إلى ذلك مجلة السياسة المقارنة في أول عدد لها صدر عام 1968م.

ففي عام 1925 كان معدل مقررات السياسة المقارنة إلى جملة المقررات السياسية في مرحلة البكالوريوس هو 1 : 10 أصبح 1 : 5 في عام 1945، 1 : 3 في عام 1965.

رافق ذلك احتجاج على المنهج التقليدي في تناول نظم الحكم وهو احتجاج تعود جذوره إلى العشرينات والثلاثينات من هذا القرن حيث نجد في الكتابات الرائدة لكل من جورج كاتلن، تشارلز ميريام، هارولد لا سويل تحذيرا من الدراسة المؤسسية – القانونية ودعوة إلى التحليل المقارن لعلاقات القوة والسلطة.

ما هي العوامل التي أدت إلى هذا التطور وما هي مظاهرة؟

للإجابة على الشق الأول من السؤال، يمكن أن نشير إلى عاملين أساسيين:

- نالت دول كثيرة استقلالها السياسي وتزايدت أهميتها على المسرح الدولي بحيث لم يعد ممكننا تجاهلها في الدراسات السياسية.

- تعرض علم السياسة ذاته لثورة منهجية كان من شأنها أضعاف شوكة المناهج والأدوات التقليدية وتبني مناهج وأدوات جديدة، هذه الثورة أملتها جملة اعتبارات:

الاعتبار الأول: يتعلق بالحركة السلوكية التي أثرت بشكل واضح في العلوم الاجتماعية ومن ضمنها علم السياسة.

الاعتبار الثاني: يتعلق بانفتاح علم السياسة بفروعه المختلفة على العلوم الأخرى كما يظهر في استخدام النماذج الاقتصادية والأساليب الأنثروبولوجيا للتعرف على علاقات القوة والسلطة غير الرسمية، فضلا عن اقترابات البحث السيسيولوجي كالتحليل البنائي الوظيفي والتحليل الطبقي والنخبوي.

8. ما بعد السلوكية

ــــــ ما بعد السلوكية

   منذ ثلاثة عقود من الزمن تقريبا بدأ التوجه ما بعد السلوكي يقدم نفسه بديلا لكل من التقليدية والسلوكية في علم السياسة. لكن ما الذي أدى إلى بروز هذا التوجه؟ يجيب ديفيد آيستن - الذي أعلن عام 1969م  مرة أخرى عن انطلاق ثورة جديدة في علم السياسة أسماها "الثورة ما بعد السلوكية" - بأن التوجه ما بعد السلوكي قد جاء كرد فعل من قبل مجموعة من علماء السياسة ضد التجريبية المفرطة وانعدام المسئولية التي اتسم بها التوجه الأمبريقي للسلوكية مما جعل علم السياسة يوفر بيانات مدققة علميا (ملاحظة تجريبيا) لكنها عديمة الفائدة. وحدد ايستن أبرز سمات هذه الثورة الجديدة في الآتي:

1-                             إعطاء الأولوية للاهتمام بدراسة مشاكل المجتمع القائمة بدلا من التركيز على أدوات البحث العلمي.

2-                             اتهام النموذج السلوكي بالنزعة المحافظة والنظرة التجريدية المنفصلة عن الواقع.

3-                             التأكيد على استحالة تطبيق الحيادية في العلم ومن ثم فلا يمكن فصل الحقائق عن القيم.

4-            تشجيع المفكرين على تحمل مسئوليتهم الاجتماعية والدفاع عن القيم الإنسانية بدلا من حالة العزلة التي فرضتها عليهم الاتجاهات السابقة.

5-                             التأكيد على توظيف العلم والمعرفة في تحسين أوضاع المجتمع.

6-                             تشجيع المفكرين على إعادة صياغة المجتمع من خلال تحويل المعرفة التي يمتلكونها إلى برنامج عمل.

7-                             تشجيع المفكرين على المشاركة في تسييس المهنة وتسيس المؤسسات العلمية.

    ففي الوقت الذي كان فيه التوجه السلوكي قد بدأ يفقد بريقه وتوهجه خلال السبعينات من القرن الماضي نتيجة للإخفاقات التي مر بها ولكثرة وقسوة الانتقادات التي وجهت إليه كان لا يزال هناك أقلية صغيرة من علماء السياسة السلوكيين السابقين، الذين تأثروا بالنجاحات التي حققها علماء الاقتصاد مصممة على جعل دراسة السياسة تقترب كثيرا من العلوم البحتة. وعرفت هذه الأقلية ذات الخلفية الاقتصادية التي خرجت من عباءة التوجه السلوكي السابق بتوجه الاختيار العقلاني في دراسة السياسة. ويؤكد أنصار هذه النظرية الجديدة الذين كانوا أقل اهتماماً بالثقافة أو التنمية بأنه يمكن توقع السلوك السياسي بشكل عام من خلال التعرف على مصالح وتفضيلات أطراف العلاقة المعنية ، الذين سوف يختارون بعقلانية تعظيم مصالحهم  .

و تستند نظرية "الاختيار العقلاني" (أو الاختيار العام) على ركيزتين أساسيتين:

الأولى: محاولة تمثيل العمليات السياسية بالاعتماد بشكل أساسي على المعادلات الرياضية، فضلا عن المنهجية الفردية التي تزعم أن كل الظواهر الاجتماعية مشتقه من خصائص وسلوك الأفراد.

أما الركيزة الثانية: فتتمثل في الافتراض بأن الفاعلين السياسيين (الناخبون، والمشرعون، والأحزاب السياسية) يتصرفون بعقلانية منطلقة من المصلحة الذاتية.

ومع أن هذا التوجه لا يفترض أن كل الفاعلين السياسيين يتصرفون بعقلانية كاملة في كل وقت إلا أنه يفترض أن سلوكهم هادف ومحسوب. وأنه يمكن صياغة تفضيلاتهم تجاه نتائج معينة وحساباتهم للتكلفة والعائد المتوقع فضلا عن النجاح المحتمل للاستراتيجيات المختلفة لإنجاز تلك النتائج على شكل مؤشرات كمية أو معادلات رياضية.