5. 4 ـــ المراحل التي مرت بها السياسة المقارنة

أ ــــــ مرحلة ما قبل السلوكية

   يلاحظ المتابع لتاريخ تطور علم السياسة أن الطابع الفلسفي قد طغى بشكل كبير على دراسة السياسة منذ العصور الكلاسيكية وحتى بداية العصور الحديثة، حيث كان ينظر للسياسة طوال تلك الفترة على أنها حقل معياري وأخلاقي، وبالتالي كانت في أوقات كثيرة فرعا للفلسفة الأخلاقية. وكما هو حال معظم الفكر ما قبل الحديث لم تعر السياسة اهتماما كبيرا بالمسائل الإمبريقية حيث أنصب معظم اهتمام المفكرين السياسيين على ما ينبغي أن يكون بدلا مما هو كائن، وكان من أهم المواضيع التي حظيت باهتمامهم تلك المتعلقة بطبيعة الدولة المثالية، والعلاقة المناسبة بين الأهداف الإنسانية الروحية والزمنية، والغايات المطلقة للحياة السياسية، وطبيعة الإنسان كحيوان سياسي.

ومع ذلك، فقد كان هناك دائما من شذ عن الاتجاه السائد ونذكر هنا على سبيل المثال كل من أرسطو وابن خلدون و ميكا فيلي الذين اشتهروا بدراساتهم الدقيقة للعملية السياسية الواقعية. إلا أن مجال علم السياسة لم يتسع بشكل كبير خارج حدود الإطار الفلسفي إلا منذ وقت قريب. ويعود أحد الأسباب الرئيسة وراء هذا التوسع إلى ظهور المدارس الفكرية القانونية-المؤسساتية والتاريخية خلال القرون الثلاثة الماضية حيث أضافت هذه المدارس ثراء المنظورات القضائية والتطورية إلى التقليد الفلسفي للبحث السياسي. وبدأ حقل السياسة في دراسة الدول من خلال قوانينها العامة، وأطرها الدستورية وبناءاتها الرسمية فضلا عن الاهتمام بتطورها المؤسساتي ومحاولة فهم التجارب التاريخية الفريدة لكل دولة. ( أنظر كتاب محمد ناصر عارف أبستمولوجيا السياسة المقارنة،ص204،183)

      ونعود مرة أخرى لأرسطو، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، أبو المنهجية السياسية المقارنة، إذ استخدم الأسلوب المقارن في دراسة أشكال وأساليب الحكم.

وسلك بهذا الخصوص منهاجيه مقارنة تحصلت خطوطها العريضة في تحديد المشكلة ( مصادر الاستقرار وعدم الاستقرار )، جمع معلومات عن 158 دستورا من دساتير دول المدينة، تصنيف المعلومات بمعنى تصنيف الدساتير وفقا لعدة محكات أهمها عدد الحكام، وطريقة الحكم والبقاء الطبقي، وأخيرا تحديد أي أنماط الحكم أكثر أو أقل استقرارا وتفسير ذلك.

وذكر أرسطو أن النظام السياسي المستقر هو الذي يتركز على حكم الطبقة الوسطى التي تجمع بين الكثرة العددية نسبيا، والتوسط في المستوى الاقتصادي والقدر المعقول من التعليم والثقافة.

وفي عصر النهضة، نجد مكافيلي يستخدم تقريبا نفس المنهاجية الأرسطو طاليسية وخلال القرن السادس عشر، درس المفكر الفرنسي جان بودان حكومات الدول الأوروبية وعقد مقارنات بينها تناولت خصائصها ومظاهر القوة فيها.

وفي القرن التاسع عشر، انحرف التحليل المقارن عن الأسلوب الذي اتبعه العلماء السابقين، فقد اهتمت الدراسات المقارنة بتفسير التطورات السياسية في ضوء الأفكار الخاصة بالتقدم المستمر، والسمو العرقي والتفاؤل الديمقراطي.

وبنهاية القرن المذكور، اتخذت دراسات نظم الحكم طابعا نظريا وقانونيا لا علاقة له بالواقع الفعلي لهذه النظم، فقت اتجهت بعض الدراسات إلى تمجيد أو نقد المذاهب الديمقراطية والارستقراطية والاشتراكية والفوضوية دون اهتمام بالنظم التي تتبنى هذه المذاهب.

وبعد الحرب العالمية الأولى، أصبحت الدراسات المقارنة أكثر تعقيدا.

ويلاحظ أن ظهور النظم الشمولية بعد الحرب وجه الأنظار إلى دراسة النظم السوفيتية والفاشية والنازية من حيث خصائصها ومدى تعارضها مع النموذج الديمقراطي الغربي.

وفي هذه الفترة، ظهرت بعض الكتابات السياسية المقارنة، من ذلك: هيرمان فاينر: الحكومة الحديثة بين النظرية والتطبيق 1932، كارل فردريك: الحكم الدستوري والسياسة 1937، ادوارد سايت: المؤسسات السياسية 1938، إلا أن هذه المؤلفات اقتصرت على النظم السياسة الغربية، وظلت ملخصة للنهج القانوني – الشكلي إلى حد كبير. على أية حال، يمكن تحديد الخصائص العامة للدراسة المقارنة لنظم الحكم قبل الحرب العالمية الثانية في النقاط التالية:

- سيادة الطابع الغربي: فالنظم السياسية الغربية بالذات كانت محط البحث المقارن.

- غلبة الطابع القانوني – الشكلي: ذلك أن الدراسة ركزت على المؤسسات الحكومية، أيعلى السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية في النظم موضع المقارنة من منظور دستوري دون اهتمام يذكر بالمؤسسات غير الحكومية كالأحزاب والجماعات الضاغطة.

- الاتجاه نحو الوصف وليس التحليل: فالدراسة بوجه عام لم تكن تتجاوز الوصف إلى التفسير.

- غلبة الاتجاه المحافظ: نزعت السياسة المقارنة إلى الاهتمام بما هو ثابت وغير متغير في نظم الحكم، أي وصف التطور الذي مرت فيه المؤسسات السياسية وانتهى فيها إلى وضعها الحاضر.

- غياب الاهتمامات النظرية: إذ لم يهتم دارسوا السياسة المقارنة ببناء نظرية امبيريقية لنظم الحكم، ولم يعرف عن أحدهم أنه حاول صياغة فروض أو تعميمات تقبل الاختبار.

- الجمود المنهجي: فقد تميز مجال السياسة المقارنة بقصور منهجي شديد.

هذه الحالة يمكن فهمها في أمرين:

الأول: أن السياسة ذاتها لم تكن تعتبر آنذاك علما تجريبيا وإنما علما انطباعيا.

ثانيا: إن الدراسة الوصفية والقانونية لمؤسسات الحكم لم تكن تتطلب تكنيكات بحثية معقدة.

تلك هي السمات التي ميزت ميدان السياسة المقارنة قبل الحرب العالمية الثانية.