3. النقد الموجه للمدرسة السلوكية

النقد الموجه للسلوكية في السياسة المقارنة

3 ـــ نقد السلوكية

  لقد تحقق تنبؤ روبرت دال في جزء منه بالفعل حيث تحولت السلوكية إلى توجه رئيس – بل إن البعض أصر على أنها التوجه الرئيس- في علم السياسة. إلا أن توقعه بأنها ستصبح النموذج المهيمن غير المنازع لم يتحقق بعد ولا يبدو أنه سيتحقق، إذ إنه وبعد فترة ليست طويلة من توقعات روبرت دال تلك بدأ هذا التوجه يواجه منعطفا حادا نحو الأسوأ وأصبح موضوعا لانتقادات لاذعة وحادة فاقت حدتها وكثرتها تلك الموجهة لأي اقتراب آخر. ولم تقتصر الانتقادات على النقد المعتاد للمنهجية الجديدة بل أنها كانت في جزء منها ذات بعد سياسي خاصة وأن البيئة التي برزت فيها تلك الانتقادات في الولايات المتحدة كانت مشحونة بأحداث حاسمة مثل الثورة الطلابية، ومعارضة التورط الأمريكي في فيتنام، واحتجاجات السود في الستينات. وقد تغلغلت الخلافات الفكرية لتلك الفترة المضطربة عميقا في حقل السياسة وخلقت مجموعة من الأولويات البحثية والقيمية التي كان من الصعب توافقها مع النموذج السلوكي وتركت بصمة واضحة على جيل من العلماء الذين يشكلون اليوم العمود الفقري لحقل علم السياسة في الولايات المتحدة.

    ومن أبرز الانتقادات التي وجهت للمنظور السلوكي لعلم السياسة تلك التي تضمنتها مقالة كريستيان باي Christian Bay المعنونة "السياسة والسياسة الزائفة" "Politics and Pseudo Politics". وتركز محور الانتقاد الرئيس في دراسة باي تلك في أن السلوكية كانت تطرح الأسئلة الخطأ أو أنها ربما كانت تسأل بعض الأسئلة المشروعة لكنها تجاهلت الأسئلة الأكثر أهمية، لأن السلوكيين، كما يزعم، أرادوا التوصل إلى الصرامة العلمية على حساب استثناء معظم جسد وروح السياسة. فروبرت دال مثلا تحدث عن السياسة على أنها " أنماط العلاقات الإنسانية التي تتضمن بشكل كبير القوة والسلطة" وهذا لا غبار عليه، كما يقول باي، لكن السلوكية فشلت فيما لم تستطع استيعابه وهو غاية النشاط السياسي، فلا ينبغي أن تقتصر السياسة على القوة والسلطة بل ينبغي أن تهتم ببعض جوانب الرفاه الإنساني أو الصالح العام.

كذلك لم تقتصر حدود البحث السلوكي على السلوك الملاحظ فقط- متجاهلا بذلك الأهداف الأخلاقية ووجهات النظر الإنسانية التي تثري الحياة السياسية- بل إنها افتقرت أيضا للمعايير التي تحكم البحث الإمبريقي نفسه. فعندما نستثني المواصفات غير القابلة للتجربة التي توجه النشاط السياسي تجاه أهداف إنسانية فكيف يمكننا إذن الحكم بأن بحثنا يعالج مواضيع هامة أم هامشية؟ ولذلك تساءل باي ، بتهكم، "السنا نتنازل عن كل الأهمية السياسية لعملنا إذا رفضنا دراسة مجال الاهتمامات المعيارية وركزنا حصرا على ما يحدث بالفعل ضمن إطار علاقات القوة؟".

    وبينما يعتبر السلوكيون ماهرين في التعامل مع مسائل السياسة بمعايير التكلفة، والاقتصاد، والبدائل وغيرها، إلا أنهم يرفضون تحدي تقييم الأهداف التي توجه تلك المعايير لتحقيقها، ولذلك فهم مهتمون بالعقلانية الشكلية للوسائل بينما يرفضون مواجهة العقلانية الأساسية للغايات. أنهم يرفضون باستمرار، كما يزعم باي، "كمبدأ منهجي التفكير مليا في الاختيارات والقيم السياسية التي تشكل جوهر ما يدرسون ويفضلون بدلا من ذلك التركيز على ما هو حاضر ، فوري، وفي متناول اليد". ومع ذلك، فإن تجاهل التوجه السلوكي للتحليل المعياري لم يمنع استغلال أعماله لأغراض معيارية. فقد تم توظيف الأعمال البحثية لهذا التوجه خلال الستينات، كما يقول باي، "لتبرير الأهداف غير العقلانية للتعصب الأعمى في السياسة الداخلية [الأمريكية] أو الشوفينية المتطرفة وجنون العظمة والمقامرة بفرصنا للبقاء في السياسة الخارجية". ونظرا لأن أبحاثهم كانت تتم في ظل فراغ قيمي فإن قيم الآخرين – وعادة ما تكون القيم المهيمنة في المجتمع- ستسرع لملء ذلك الفراغ. والنتيجة، كما يؤكد باي، "لن تؤدي إلى علم سياسة محايد وإنما علم سياسة غير مكترث بالتفضيلات القيمية التي تحدد أنشطته".

   وأتهم باي التوجه السلوكي "بالنفاق" عندما يدّعي أنصاره الحياد القيمي الصارم في نفس الوقت الذي يبدون فيه التزاما بارزا بالقيم الليبرالية- التعددية- الفردية- الديموقراطية وخاصة تلك السائدة في الدول الأنجلو أمريكية، وعندما ينظرون لأنفسهم كأبطال للديموقراطية الليبرالية ويكتبون بإيجابية عن الديموقراطية باعتبارها أكثر الترتيبات السياسية إقناعا. إي أنهم يسمحون لأنفسهم، كما يقول باي، بطرح أحكام قيمية ولكن فقط عندما تكون غامضة أو غير محددة. إنهم يؤكدون على الديموقراطية الليبرالية بكل الوسائل الممكنة لكنهم يخفقون في الإفصاح عن أو تبرير المبادئ القيمية التي تستند عليها. وختم باي مقالته بالدعوة إلى علم سياسة إنساني يضع وبدون استحياء هدف تحقيق الاحتياجات الإنسانية في قلب اهتماماته.

   كذلك اتهم التوجه السلوكي من قبل آخرين بأنه يميل إلى تبرير حالة اللا مساواة الصارخة في المجتمع الأمريكي من خلال التأكيد على مساهمة تلك الحالة في تعزيز الديموقراطية والاستقرار السياسي. فقد خلصت عدة دراسات سلوكية ومن بينها دراسة ديفيد ريكي إلى أن الأغنياء أكثر ميلا للمشاركة في السياسة ودعم القيم الديموقراطية من الطبقات الفقيرة في المجتمع. وبالمقابل أظهرت تلك الدراسات أن للفقراء والأقل تعليما والأقل اطلاعا ميولا أكبر نحو التسلطية وغير مبالين بالديموقراطية. وبناء على نتائج تلك الدراسات توصل عدد من السلوكيين إلى خلاصة لافتة: فنظرا لأن النخب أكثر ميلا لدعم القيم الديموقراطية فإن القوة غير العادية التي يستحوذون عليها يمكن تبريرها بل تحبيذها. كما لا يخفي أولئك سرورهم لأن الفقراء وهم الأقل احتمالا لدعم العملية الديموقراطية هم أيضا الأقل احتمالا للانخراط فيها.  

   أما ليو شتراوس (1962) Leo Strauss فقد مهد لانتقاداته للتوجه السلوكي بالتمييز بين ما سماه "علم السياسة القديم" - الذي يغطي فترة تمتد إلى الوراء حتى الفلسفة الإغريقية وقدم، بنظره، للتراث الفكري الغربي إضافات هامة في المجال السياسي من خلال إسهامات عدد من المفكرين البارزين- و"علم السياسة الجديد" الذي مثله التوجه السلوكي. وبناء على ذلك يؤكد "أن علم السياسة القديم قد عالج الخاصية الأساسية لكل المواقف السياسية وبالتالي فليس هناك سبب مقنع لتجاوز ذلك من قبل علم السياسة الجديد". فشتراوس كان يرى بوضوح أن علم السياسة السلوكي الجديد يعتبر أقل شأنا وأهمية من علم السياسة القديم. وقد تركز نقد شتراوس بشكل رئيس على المزاعم المنهجية للتوجه السلوكي وخاصة افتراضهم وجود "الملاحظ المحايد" الذي ينظر للإنسان، بزعمه، "كنظرة المهندس للمواد اللازمة لبناء الجسور". وهذا الموقف يمنع علماء السياسة حتى من مجرد التفكير في أهمية الصالح العام أو الفضيلة أو القيم التي تسهم في توفير حياة عامة جيدة.

كذلك يؤكد شتراوس أن محاولة الفصل بين الحقيقة والقيمة في التوجه السلوكي والاعتماد على الأولى وتجاهل الثانية هي التي أدت إلى نشوء النسبية التي تمثل تهديدا للديموقراطية الصحيحة. "فمن خلال تأكيد مساواة كل القيم، وتجاهل حقيقة أن هناك أشياء ذات قيمة عليا وأخرى أقل قيمة فضلا عن تجاهل حقيقة أن هناك فرقا جوهريا بين الناس والبهائم، فإن علم السياسة الجديد يسهم بدون قصد في انتصار القذارة". ومع ذلك لاحظ  شتراوس أنه وبرغم ادعاء علماء السياسة الجدد بأن تحليلاتهم كانت موضوعية ومحايدة قيميا إلا أن عملهم كان منحازا بشكل صارخ لافتراضات وقيم الديموقراطية الليبرالية. فضلا عن أن مناهج السلوكيين قد قيدت ممارسيها بالزمان والمكان الذي يعيشون ويقومون بأبحاثهم فيه. ومن ثم أكد أنه لا يستطيع تصور قدرة علم السياسة السلوكي الممارس في الولايات المتحدة على أن يضع وبشكل مشروع مزاعم لها طابع العمومية والعالمية في نتائجها أو مفاهيمها. ولا يزال أنصار شتراوس يؤكدون أن علم السياسة القديم يعطينا استبصارا عن حقائق السياسة أكثر مما نجده في الدراسات المسحية المعتمدة على الأطر الإحصائية فضلا عن استمرارهم في التأكيد على الأهمية الحاسمة للقيم في التحليل السياسي.  

   وتعتبر دراسة ديفيد ريكي  واحدة من أهم المعالجات النقدية لعلم السياسة السلوكي. فقد تتبع ريكي تطور علم السياسة كحقل معرفي في الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر وصولا إلى ثمانينات القرن العشرين الماضي وتركز معظم تحليله على القوة التنظيمية في أوساط الحقل التي يعتقد بأنها انحرفت بمسار دراسة السياسة بعيدا عن الارتباط بالأحداث الحقيقية. وأشار إلى أن عددا من الناشطين المحترفين من ذوي الاختصاصات المتداخلة قد دعموا التوجه "الوصفي الأمبريقي" للمدرسة السلوكية. حيث طور أولئك المهتمين بقولبة هوية الحقل وإفراغه من مضمونه والباحثين عن الزعامة كادرا من الزملاء والأتباع الذين سيطروا على التعيينات في الجامعات الرائدة وعملوا "كحرس للبوابة" من خلال تحكمهم في فرص النشر في المجلات الرئيسة للتخصص.

وأنتقد ريكي بوجه خاص اللغة الاصطلاحية- التي أورد نماذج منها- التي أشاعتها تلك المحاولات الاحترافية في حقل السياسة. وأكد أنه يتم غالبا تبرير صياغة واستخدام تلك المفردات المعقدة في الحقل على أنها ضرورة للدقة في النقاش برغم أن الحقائق السياسية كانت بعيدة عن التعريف الدقيق. وخلص ريكي إلى القول بأن اللجوء إلى اللغة الاصطلاحية لم تجعل قراءة عدد من المقالات الأكاديمية مستحيلا فقط بل أنها أسهمت أيضا في تعزيز مواقع العلماء المتنفذين واستبعاد أولئك الذين لم يستطيعوا فهم ما تعنيه تلك المصطلحات. ويرجع ريكي السبب في ذلك إلى أن "الأفراد يميلون للتخصص وبناء سمعتهم الاحترافية ، جزئيا على الأقل، على أساس التظاهر بالتمكن من شيء لا يستطع غيرهم الإلمام به بنجاح"، ويبدو واضحا أن استخدام التوجه السلوكي لغة مفرطة في تعقيدها ورطانتها قد أثر سلبا على علم السياسة.

   كذلك انتقد ريكي علماء السياسة ذوي التوجه السلوكي لإخفاقهم في اكتشاف أو صياغة "قوانين" للسلوك السياسي، وأكد أنهم لم ينتجوا أي شيء يقترب من التفسيرات العالمية للسلوك السياسي الذي يسمح بأي تنبؤ موثوق. وفي محاولة للتعتيم على ذلك الإخفاق لجأ السلوكيون، كما يؤكد ريكي، إلى وسائل مختلفة للمراوغة لتجنب مواجهة تبعات تقصيرهم في هذا المجال من بينها الزعم بأنه لم يتم جمع معلومات كافية لجعل التوقع ممكنا. أما الوسيلة الأخرى فتمثلت في الزعم بأن المعرفة تتقدم بخطوات تراكمية صغيرة وأن التعميمات القابلة للاستخدام ستظهر في نهاية الأمر. وهذا ما يفسر اختتام الأبحاث السلوكية، غالبا، بعبارات تشير إلى أن نتائجها مبدئية أو أنها مجرد دلالات للطريق تجاه مجالات بحثية مستقبلية.

ولذلك يملكن النظر إلى الثورة السلوكية من خلال عيون توماس كوهن بطريقين مختلفين جداً. فالسلوكية كانت في المقام الأول محاولة نشطة من قبل الكادر الشاب والطموح من العلماء لإحكام القبضة حول نموذج معرفي معين وتحويله إلى تقليد ملزم لعلم السياسة. فالسلوكية - من منظور توماس كون - لا تمثل تقدماً على نماذج معرفية سابقة بقدر ما تمثل نقطة حشد مهمة لإعادة تنظيم الحقل. ومع ذلك فإنها في حماستها التنظيمية قد خلقت الشروط للاستقرار والتقدم. وفي هذا السياق فإن نجاح السلوكيين في إزاحة الاقتراب القانوني المؤسسي الأقدم وأمانيهم ورغبتهم في فرض المنهجية التجريبية الجديدة، وسيطرتهم التدريجية على مؤسسات الحقل وإصداراته (وكثيراً منها أوضحت في مقالة روبرت دال "الاقتراب السلوكي في علم السياسة"  (The Behavioral Approach in Political Science) كل ذلك يتبع نموذج كون للثورة العلمية بشكل دقيق. وحالما يستبدل النموذج المعرفي الصاعد حديثاً تقليد ما قبل السلوكية بنظام صلب، قسري، وعالمي من الافتراضات، والمنهجية والأهداف(وهو ما لم يحدث بعد) فإنه يحقق وعده في فرض النظام والترتيب الذي يمثل شرطاً ضرورياً لمؤسسة علمية مزدهرة.

ولكن من منظور آخر لكوهن، فإن الموقف السلوكي لا يستطيع أن يصمد أمام التحليل الدقيق. فعلى سبيل المثال لم يكن ممكنا الدفاع عن الاعتقاد بأن التجريبية وفرت مساراً داخلياً للحقيقة. فالحقيقة يمكن الوصول إليها فقط من خلال إطارات تحليلية محددة، ولرؤيتها مطلقاً يتطلب اختيار منظور محدد يستطيع الباحث من خلاله أن يضع ملاحظاته. وبالطبع فإن ما يراه أحدنا يعتمد على أين يقف. إن الفكرة "التي تزعمها السلوكيون المتشددون" القائلة بأن علماء السياسة يستطيعون تجاوز الإطار الفكري الذي كانوا جزءاً منه، وملاحظة "المعلومات الأولية" التي يواجهونها بنزاهة والتوصل إلى نتائج علمية غير متأثرة بالتوقعات، والافتراضات، والمصالح المفروضة من قبل النموذج المعرفي المهيمن قد تلقت ضربة قاسية من قبل رؤية توماس كون للنشاط العلمي.

    وللمفارقة فقد كان هذا هو المصير المحتوم الذي فاجأ السلوكية فالنموذج المعرفي السلوكي لم يكن بالطبع قابلاً للدحض ولا يزال في الوقت الحاضر يستأثر بقطاع كبير من التابعين المتحمسين، إلا أن الآثار المتراكمة لحرب فيتنام، وثورة السود، والثورة الطلابية، خلال ستينات القرن العشرين المنصرم، ومجموعة عوامل اجتماعية وتاريخية أخرى برزت في الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها جعلته منعزلاً اجتماعياً. كما أن طبيعته غير الملتزمة ايديولوجياً جعلته غير مرغوب لدى جيل جديد من العلماء يرى أن علم السياسة يتطلب شخصية أكثر إنسانية والتزاما مما كان متوافراً في التوجه السلوكي. ولذا فقد تم تحدي السلوكية ليس فقط بسبب إخفاقات معينة تسببت فيها وإنما لأن وجهة نظر أخرى أكثر جاذبية لما ينبغي أن يكون عليه البحث السياسي قد ناضلت ضد هيمنتها.

لقد تم تتبع انتقادات محددة ذات قوة كبيرة أظهرت نقاط الضعف في التوجه السلوكي – وهي نقاط اضطر حتى السلوكيون للاعتراف بها. فقد انتقد كل من  Bachrach and Baratz في مقالتهما العنونة "وجها القوة" Two Faces of Power التوجه السلوكي بشدة متهمينه  بعدم الكفاءة لتركيزه حصراً على السلوك السياسي العلني. ولا زال المخلصون لنموذج توماس كون يميلون للنظر إلى هذه المزاعم على أنها ذكية ومقنعة مع أنها لم تكن السبب المباشر للانسحاب من السلوكية بقدر ما كانت المزاعم الواضحة والمبررة التي قدمها المتحررون من الوهم السلوكي لتبرير تخليهم عن توجه لم يعد يحمل أي اهتمام أخلاقي أو فكري بالنسبة لهم.

    وبرغم حدة وقسوة الانتقادات التي وجهت لعلم السياسة خلال العقدين الماضيين وتسببها في إثارة قدر كبير من الجدل في أروقة الحقل إلا أنها مع ذلك قد أثمرت بعض التغييرات المحبذة ومنها الاعتراف بحالة التشتت التي آل إليها الحقل وضرورة إعادة النظر في كثير من مسلمات علم السياسة السلوكي.