1. الفلسفة العملية وأزمة التنظير (الجزء الأول)

مقدمة :

      من الصعب جدا أن نحاول بناء مفهوما لليومي ، وذلك لما يتميز به من خصوصيات تجعل منه متنوعا وذو حركة دائمة ، ونظرا لكون اليومي مفهوما حديثا بالنسبة للتفكير الفلسفي غير أن هناك سبقا للأنطولوجيا في تناولها لفلسفة اليومي ثم تلتها الفينومينولوجية  في الاهتمام فلسفيا باليومي كموضوع ممكن للبحث ، ومن خلال ذلك يمكن طرح الإشكالية التالية : إلى أي مدى يمكن فهم فلسفة اليومي في كنف المقاربتين : الانطولوجية والفينومينولوجية ؟  

1 - المقاربة الأنطولوجية

      عندما نتمعن في الشرط الأول من شروط تأسيس العقل نجده انطولوجي بالأساس ، لذلك ينظر بارمينيدس قديما إلى الوجود والعقل ويعتبرهما هما شيء واحد.  فالحضور للزمان والمكان لا يمكن أن يكون موضوع فلسفة إلا إذا ظهر للعقل كوحدة واحدة صماء للحضور، تضم ما كان غائبا في البداية ومازال حاضرا في الأذهان . غير أن الحضور إذا ما برز أمام العقل فهو يمثل في حد ذاته العمل التفكيري الأساسي في صبغته الانطولوجية ، لأن الحضور للعقل هو جوهر الحضور في خاصياته العينية المحددة بالزمان والمكان والمرتبطة بالأضداد والغايات وإلا غاب كل شيء . لكن هل يعني هذا أن الانطولوجيا غير قادرة على استيعاب اليومي مائة بالمائة من حيث هو تنوع وتغير وحركة ؟.

      لقد ذهب السفسطائيون قديما إلى هذا المنحى محاولين تفسير اليومي ، حيث نظروا إليه من زاوية فلسفية ، معتبرين إياه جانبا فلسفيا ، لما يتميز به من حركة وكثرة وتناقض وهي علامات لليومي المتغير . وكما هو معروف لدينا أن السفسطائية هي فلسفة المعارف والأخلاق النسبية ، وفلسفة البحث المتواصل عن دعائم يومية تميز المعرفة والحقيقة ، كما أن الأخلاق هي التي تجعل الإنسان محل اهتمام من قبل الفكر الفلسفي . غير أن السفسطائية هي أول حركة فلسفية تنويرية حولت الفلسفة من الاهتمام بالوجود والطبيعة إلى الاهتمام بالمشاكل اليومية للإنسان وشروط وعرفته وهو ما يسمى باليومي . مما تجعلها تقترب من مشاعرنا وأحاسيسنا ، كما هو الشأن بالنسبة إلى فلسفة النقد والتحرر. فلسفة تؤمن بنسبية المعارف والأخلاق ، فلسفة التنوير والتحرر والبحث والجدل .

    يعد هيدجر أول من دعا إلى العودة إلى الفلاسفة قبل سقراط ، وهي في الحقيقة  دعوة  للتصدي إلى محاولة نسيان الوجود ، نستنتج من خلال ذلك أن هذه الفلسفة خطت لفهم مشكلة الوجود  وذلك عندما تخلت عن سرد الخرافات ، وأقلعت عن تحديد الموجود من حيث هو موجود ، وذلك بالالتجاء إلى موجود آخر ، لأن للوجود صفة موجود ممكن . لذا يعتبر الوجوديون أن السفسطائيون هم أعداء الفلسفة لأنهم رفضوا النظر إلى الوجود انطولوجيا ، مما دفع بأقطاب الفلسفة النسقية إلى التوجه إلى محاولة تخليص الفلسفة من السفسطائية ، لأن السفسطائيين في نظرهم ما هم إلا خلفاء للإيليين . ويعتبر جون بيار ديمون أن خطأ الايليين يكمن في اعتبارهم أن الوجود هو الذي يضفي الحقيقة على القول ، في حين أن الكلمة تسبق الوجود ، وفضائل القول هي التي تعطي الوجود ركيزة كيانه وقانونها .

     يبدو أن المدرسة السفسطائية انطلقت من فكرة بارمينيدس القائلة بأن هناك علاقة بين الوجود والقول ، أي منح المزية لا للوجود بل للقول الخلاق . حيث اتخذ من الحياة اليومية للإنسان مبدأ عام لكل تفكير ممكن ،  فالاتجاه نحو مشاكل الحياة اليومية هنا ليس تملقا وتمويها ومغالطة كما يعتقد الأفلاطونيون، بل هي بداية فلسفة التنوع التي تقوم على التعددية والنسبية في دراسة القيم . لأن الإنسان يعتني بكل حدث يومي يهم الفرد والجماعة ، حيث يعتر هؤلاء أن قضية الوجود زائفة (الوجود هو عالم الأشباح والضلال التي تحاكي عالم المثل) وهذا يستلزم بالضرورة إلى الاعتقاد بأن كل قول جوهري هو تجميد للحركة واثبات لحقيقة كاذبة . وهنا يمكن أن نتحدث عن أنطولوجية اليومي ، التي تقوم على المتغير والحركي ، لأن المعرفة الفعالة والمجدية هي المعرفة التي تكون نافعة للحياة الإنسانية العادية لأنها وحسب وجهة نظر السفسطائيون هي القدرة على القول والكلام والاقتناع وانتهاز الفرص والتأقلم مع تغيرات الحياة اليومية للإنسان ، غير أن هذه الفكرة عند البرغماتيين هي تنمية قدرات الفرد الابتكارية ، ليكون فاعلا في الحياة .

2 - المقاربة الفينومينولوجية

       إن من مزايا الانطولوجيا  هو قولها بتجاوز البحث الوصفي إلى جوهرية الأشياء والأحداث ، لكن عندما ننتبه إلى الأفكار والمواد والأشياء والأمكنة والأشخاص ، قد تكون ظرفية وغير قارة ، وقد تكون سطحية وساذجة . غير أن النزعة الفينومينولوجية تصبوا إلى تأسيس نظرية عامة لليومي لفهم صيرورته ، وهنا تبدوا الفينومينولوجيا تقترب من الانطولوجيا خاصة عندما تحاول تحليل الظواهر اليومية عينيا (جغرافيا وتاريخيا......) والهدف من وراء ذلك هو فهم الظاهرة اليومية والكشف عن البنية التكوينية الداخلية للعالم الذي يظهر للعيان كأنه عشوائي لا يحتكم إلى قوانين وعلل ، بل هو في الحقيقة منطقي .

     إن الكائن هو وجود في عالم الحياة اليومية ، لأننا قبل تأويل الأحداث وفهمها ،  وقبل تفسير العالم وتغييره لابد أن نحيا ونتفاعل مع الحياة اليومية ، ونتعلم ما ظهر منها قبل الكشف عن أسرارها . تبدو لنا المقاربة الفينومينولوجية على أنها تذهب إلى الأشياء دون نوايا مسبقة ووسائط  فهي تتقبل ظهور عالم الحياة اليومي كما هو ، من حيث هو منطق العمل النظري النقدي ن ليكون موضوع الحياة اليومية موضوعا للتعايش قبل كل شيء .

      إن الفينومينولوجية لا تقبل المنطلقات المجردة والأسطورية والخرافية ، والأفكار المسبقة ، لأنها تتبع وصفي وفهم دقيق للحياة في مظهرها العادي واليومي . غير أن الفلسفة تأخذ هذا اليومي دون نقص أو زيادة قصد فهمه ، والهدف الأسمى من ذلك هو محاولة بناء اليومي من حيث هو بحث نظري لفهم جوانبه وتفكيك عناصره . إن البحث عن المعنى بمنهجية التصبر الوصفي لاستخراج المعنى المؤسس لليومي ، فهي تبحث داخل الحاضر العادي اليومي بحضوريته ، وداخل الظاهر بظاهريته .