3. أهم مبادئ النسبية العامة

3.2. مفهوم الجاذبية

بما أن الزمان والمكان مستقلان غير منفصلان فإنهما يشكلان نسيجا واحدا ،وهذا النسيج عند أينشتاين هو"المجال"fieldالذي تدور فيه كل الحركات الكونية ،ويستخدم اينشتاين مصطلح المجال للرد على نظرية نيوتن ،وبالتحديد الجاذبية النيوتونية،ففي الوقت الذي يعتبر فيه نيوتن الجاذبية قوةforceكامنة في الأجسام تجذب بعضها بعضا وتؤثر عن بعدaction à distance،ولكن اينشتاين يرفض نظرية التأثير عن بعد ،وينكر أن تكون للجاذبية قوة،فالأجسام لا تشد بعضها بعضا،ولكنها تخلق مجالا،إذ يقول:"كل جسم يحدث اضطرابا في الصفات القياسية للفضاء حوله كما تحدث السمكة اضطرابا في الماء حولها ويتكون تيار من الماء تسير فيه ذرات الغبار وتخلق حوله مجالا نتيجة التغيرات التي تحدث في الزمان والمكان،إن هذه الذرات العالقة لا تتحرك بقوة السمكة،بل تتحرك وفقا للمجال"[1].

 لقد كان أينشتاين يطمح إلى تفسير الكون بأجمعه بمبدأ واحد هو المجال،أي أنه كان يحاول إرجاع قوانين الفيزياء كلها إلى قوانين المجال،ومعلوم أن الفيزياء الكلاسيكية تفسر الحوادث الطبيعية كلها بالمادة والحركة،لكن النسبية جاءت لتعوض هذا التفسير بالمجال،أي أن الحركة هي المجال،وهكذا أصبح الواقع الطبيعي الصغري أو الكبري يُفسَّر بمبدأين هما :المادة والمجال.

لكن ما الفرق بين المادة والمجال؟

  يقول أينشتاين إننا قبل اكتشاف نظرية النسبية كنا نميّز بين المادة والمجال،باعتبار أن المادة والمجال،باعتبار أن المادة لها كتلة وأن المجال لا كتلة له،وبعبارة أخرى:المادة تمثل كتلة والمجال يمثل طاقة،ولكن هذا التصور قد تغير مع النسبية حيث تحولت المادة مع النسبية الخاصة إلى خزان هائل من الطاقة أو الطاقة هي عبارة عن مادة،وبالتالي لم يعد في إمكاننا التمييز بين المادة والمجال من ناحية الكيف،بل هو اختلاف كمي فقط ،نظرا لأن كلا منهما عبارة عن طاقة ولكنهما يختلفان من ناحية الكم،فما نسميه مادة هو عبارة عن  طاقة هائلة مركزة ومكثفة في إحدى نقاط المجال[2].

  وبهذا يمكن القول أن المادة توجد حينما توجد الطاقة مركزة بشكل هائل،ويوجد المجال حيثما توجد المادة أقل تركيزا،وبالتالي فإن الفرق بينهما فرق كمي لا كيفي،وإذا صح هذا الكلام فسيكون العالم الذي نعيش فيه عبارة عن بحر ينساب فيه ماء رقراق،توجد فيه بعض التجاعيد،هنا وهناك،فصفحة الماء هي المجال والتجاعيد هي المادة[3].

  وبهذا التوحيد بين المجال والمادة أصبح بإمكاننا عن طريق المعادلات الرياضية أن نحسب شكل وتركيب مجال جسم معين عن طريق كتلته،وتسمى هذه المعادلات بمعادلات التركيب  structure   equations وأرفق بها مجموعة من معادلات الحركة لحساب حركة أي جسم يقع في ذلك المجال.وبهذه المعادلات تمكن أينشتاين من أن يتنبأ بظواهر طبيعية وفلكية،ومثال ذلك :أن حركة عطارد حول الشمس ظلت لغزا  حتى فسّرتها هذه المعادلات،فالظاهرة التي كانت تحيّر العلماء أن هذا الكوكب الصغير ينحرف عن مداره بمقدار معين كل عدد معيّن من السنين ،وأن المجال الذي يدور فيه ينتقل من مكانه بمعنى من الزمن،ولذا فإن معادلات أينشتاين تكون بمقدار الانحراف بالضبط،وأعاد أينشتاين سبب هذا الانحراف إلى شدة اقتراب عطارد من الشمس وسرعة دورانه وعظم جاذبية الشمس.

  وانطلاقا من هذا التفسير فسّر اينشتاين  دوران الأرض حول الشمس لا بسبب قوة الجذب ولكن بسبب خصائص المجال الذي تخلقه الشمس حولها،والأرض لا تجد مدارا تسير فيه سوى هذا المدار الالدائري ،وكل الكواكب المحكومة في مداراتها بخطوط دائرية هي انجذابات المجال حول الأجسام الأكثر منها جاذبية،وهي ظاهرة أشبه بظاهرة القصور،فالأجسام قاصرة أن تتعدى مجالاتها المرسومة.

  ولقد استعان اينشتاين بهندسة ريمان حول المكان الكروي،وأصبحت الجاذبية عنده جزءا من هندسة المكان حول المكان الكروي وأصبحت الجاذبية عنده جزءا من هندسة المكان،المكان منحنى كروي ،لكن الكروية ليست كاملة وإنما بها تشويهات ،ونتوءات ترجع إلى كثافة المادة ،والمادة تتحرك بقصور ذاتي على سطح الكرة.إذ يقول "لولا هندسة ريمان لما تمكنت من اكتشاف النسبية".

  لذا فإن المكان الذي نعيش فيه مكان منحرف وليس مستو،وبما أن الجاذبية ليست قوة وإنما هي سقوط حر ،فالتساؤل المطروح:ما الذي يتسبب في تسارع الأجسام داخل مجال الجذب؟،يجيب أينشتاين بأن الكتلة هي من تسبب في انحراف الفضاء،وبما أن الكون الذي الذي نعيش فيه يشتمل على أجسام ذات كتل هائلة (شموس،نجوم،كواكب،مجرات)،فإنه لا بد أن يؤدي ذلك إلى انحراف الفضاء الذي يحيط بهذه الأجسام،أي لابد أن يكون المكان منحرفا،تماما كما يحدث لقطعة من الإسفنج عندما نضع عليها جسما ثقيلا،فعندما نضع في وسط قطعة من الإسفنج كرة من الرصاص فإنها تغوص مسببة في انحراف الاسفنج المحيط بها،وهكذا فالأجسام الساقطة بحرية في منطقة يوجد بها مسار منحرف بفعل كتلة ما،لابد أن تتبع  في خط سيرها شكلا منحنيا والمسار المنحرف في الفضاء هو الذي يسمى بالجاذبية.

   وهكذا فإذا كانت ميكانيكا نيوتن تفسر دوران الأرض حول الشمس بقوة الجذب الرابطة فيما بينهما حسب قانون الجاذبية،فإن نظرية النسبية المعممة تشرح ذلك كما يلي:كتلة الشمس ضخمة جدا،وهي لذلك تُحدث في الفضاء المحيط بها انحرافا حولها ،والأرض تسير في هذا الانحراف الذي يشكل مدارها حول الشمس[4].



عبد الفتاح غنيمة:فلسفة العلوم الطبيعية ،مرجع سابق،ص 137.[1]

[2]  محمد عابد الجابري:مدخل إلى فلسفة العلوم،مرجع سابق،ص362.

[3]  المرجع السابق نفسه،الصفحة نفسها.

[4] محمد عابد الجابري:مرجع سابق،ص355.