تطور المستعمرات الأوربية بالعالم الجديد

أرست حركة الكشوفات الجغرافية والاستعمار نظام التفرقة العنصرية؛ حيث كان الرجال البيض هم الأسياد دوما والآخرون مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وعقيدتهم هم العبيد.

1-3: المستعمرات الإسبانية: سيطرت إسبانيا على معظم أرجاء أمريكا الجنوبية باستثناء البرازيل؛ كما امتد نفوذها إلى مناطق من أمريكا الوسطى والشمالية،

         والملاحظ أن تركيز الإسبان انصبّ على أمريكا الوسطى والجنوبية؛ أين تمّ وضع السكان المحليين (الهنود)  تحت سيطرة العسكريين وكبار التجار، وانتهج الاستعمار الاستيطاني الإسباني هناك أسلوب القوة والعنف لإخضاع تلك الشعوب، كما استخدم القسوة والسلب والنهب لاستغلال ثروات البلاد المستعمَرة، وسخّر الهنود والزنوج المجلوبين من إفريقيا لفتح المناجم الغنية والعمل بها، كما عمل الإسبان كل ما بوسعهم للاستحواذ على كنوز العلم الجديد من ذهب وفضّة.. وغيرهما.

         واهتمّ الإسبان أيضا بتربية المواشي والزراعة للحصول على المنتجات المدارية كقصب السكر والكاكاو، كما نشروا اللغة الإسبانية بين السكان المحليين، وأطلقوا العنان لرجال الدين لنشر المسيحية الكاثوليكية؛ بغية تنصير هذه الشعوب، والتخفيف من حدّة النظرة العدائية لدى هذه الأخيرة تجاه الغزاة الجدد، كما نقلوا معظم مظاهر الحضارية الأوربية، وحاولوا طمس معالم الحضارات الأمريكية القائمة (الإنكا – المايا – الأزتيك). وقد نجح الاستعمار الإسباني لأمريكا في تحقيق مآربه، حيث تنصّر الملايين من الهنود الحمر، وحلّت اللغة الإسبانية محلّ اللغات المحلية، واصطبغت الحياة هناك بالصبغة الأوربية (الإسبانية تحديدا).

         كما قامت مدن جديدة بجوار مناطق المناجم والتعدين، ونشطت تجارة العبيد نحو المستعمرات الإسبانية؛ إذ تمّ جلب أكثر من 20 مليون زنجي خلال ثلاثة قرون (ق16-18م) وتسخيرهم لخدمة الأرض، بعد أن بدأ منتوج المناجم يتناقص، بفعل الاستنزاف الكبير الذي تعرّضت له تلك البلاد على يد الغزاة الإسبان.

2-3: الاستيطان البرتغالي في البرازيل: آلت البرازيل للبرتغاليين بموجب معاهدة تورديسلاس لعام 1494م، وقد بدأت رحلات الاستكشاف للحصول على الذهب والفضة والمعادن الثمينة، كما اتّخذت هذه المستعمرة كمنفى للمجرمين حتى سنة 1515م. 

بدأ مشروع الاستيطان البرتغالي الممنهج في البرازيل في عهد الملك جواو (يوحنا الثالث)، وأنشأت 15 مستعمرة  وفق 'نظام القبطانيات'، حيث كان 'القبطان' (الحاكم العام) يتمتّع بالصلاحيات المطلقة في إدارة الشؤون المدنية والعسكرية للمستعمرة، مع ضرورة دفع 5/1 من المعادن والأحجار الكريمة والمنتجات الأخرى للملك البرتغالي، وهكذا أطلقت يد القباطنة  في استعباد الأهالي، وفرض الضرائب العالية وسنّ القوانين الجائرة في حق السكان.

إداريا قسّمت البرازيل إلى منطقتين: شمالية عاصمتها مدينة 'باهيا' وجنوبية عاصمتها مدينة 'ريو دي جانيرو' واستمر هذا الوضع إلى غاية عام 1763م، حيث أُعيد توحيد البلاد تحت راية حكومة  مركزية، وصارت 'نيابة ملكية' تابعة للتاج البرتغالي، وتمّ إلغاء نظام القبطانيات.

3-3: الاستيطان الإنجليزي في أمريكا الشمالية:

         أدّى التنافس الاستعماري بين إنجلترا واسبانيا إلى حدوث أول موقعة بحرية بينهما عام 1588م، والتي كرّست تفوّق الأسطول الإنجليزي وسيطرته على الخطوط البحرية بالمحيط الأطلسي. وقد دفعت المتغيّرات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية في إنجلترا (خاصة في عهد أسرتي آل تيودور وآل ستيوارت)؛ إلى هجرة أعداد كبيرة من البريطانيين إلى أمريكا الشمالية ومحاولة الاستيطان هناك.

         كما أنّ الحكومة الإنجليزية شجّعت الاستيطان عن طريق الشركات التجارية، كأسلوب جديد من أساليب التنافس الاستعماري الأوربي في العالم الجديد. وتمّ لهذا الغرض إنشاء شركتين إنجليزيتين وتقسيم مناطق النشاط الاستيطاني بينهما:

- شركة لندن: تركّز نشاطها حول منطقة نيويورك إلى غاية رأس فير؛ بين خطي عرض 34 و 41 شمالا.

- شركة بليموث: انطلقت من نيوأنجلند شمالا إلى غاية نهر بوتاموك قرب واشنطن؛ بين خطي 38 و 45 شمالا.

مع وجود منطقة داخلية للعمل المشترك بين الشركتين؛ بين خطي 38 و 41.

         وقد تمّ تأسيس أول مستعمرة إنجليزية في أمريكا الشمالية عام 1607م وحملت اسم 'جيمس تاون' تكريما للملك جيمس الأول. كما شرع الإنجليز في جلب العبيد السود للعمل بالفلاحة منذ سنة 1619م.

         أخذت الهجرات الإنجليزية طابع الهجرات الدينية منذ 1620م؛ إذ وصلت في هذه السنة جماعة من البيوريتان على متن سفينة 'ماي فلاور'، والتي كانت فاتحة لهجرات جماعات دينية أخرى، وهذا لا ينفي وجود هجرات لأغراض تجارية بحتة، وطمعا في الحصول على الذهب والفضة والاتّجار بهما.

         ومنذ عام 1629م، استطاعت الجماعات الدينية البروتستانتية (البيوريتان) تأسيس عدّة مستعمرات: ماساشوست –كنتيكت- رود آيلاند- مين- نيوهيمشير. كما استوطنت جماعات كاثوليكية (الكويكرز) ولاية ماريلاند منذ 1636 بزعامة اللورد بلتيمور. وأسس مجموعة من التجار مستعمرة كارولينا عام 1665م، فين حين وصل الكويكرز إلى بنسلفانيا عام 1682.

         و خلال ثمانون عاما من القرن السابع عشر؛ تكوّنت المستعمرات الإنجليزية على الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية، مع التحاق جورجيا عام 1733م، كما استطاعت إنجلترا بسط نفوذها على مناطق التواجد الهولندي والسويدي، والسيطرة على مستعمرات: نيو أمستردام (نيويورك حاليا) ونيو دلوير ونيو جرسي.

4-3: التوسّع الفرنسـي في أمريكا الشمالية:

        تأخّر الاستيطان الفرنسي في العالم الجديد إلى منتصف القرن السادس عشر ميلادي؛ حيث هاجر البروتستانت المضطهدون من طرف الكنيسة الكاثوليكية (الهوجونوت)، واستقروا في بعض مناطق البرازيل وفي فلوريدا شمالا. ومن هناك كانت أولى الرحلات الاستكشافية الفرنسية عبر الأنهار (رحلات نهرية) نحو الشمال الأمريكي؛ حيث كان صامويل دي شامبلين قد وصل إلى كندا وأسّس مدينة كيبك عام 1608م، ثم استوطن الفرنسيون المنطقة  المحاذية للمستعمرات الإنجليزية من الجهة الغربية، واستقر بعضهم في لويزيانا (نسية إلى الملك لويس14) وفي نيو أورليانز سنة 1718م. ومع ذلك بقي الاستيطان الفرنسي في العالم الجديد ضعيفا؛ بسبب قلّة أعداد المهاجرين مقارنة بالإنجليز، ونقص أفراد الجيش المتواجد هناك، حيث اقتصر الأمر على بعض الحاميات العسكرية والحصون لتأمين مناطق الاستيطان الفرنسي.

         حاولت الحكومة الفرنسية إنشاء الشركات الاستعمارية العاملة في مجال الاستيطان والتجارة البحرية، وسخّرت رجال الدين اليسوعيون (الجزويت)، والجمعيات التبشيرية اليسوعية لتعزيز النفوذ الفرنسي، وتم لهذا الغرض تأسيس الشركة الغربية الفرنسية عام 1664م، في عهد الوزير كولبير، وهذا بهدف احتكار التجارة في كندا، لاسيما في منطقتي مونتريال وكيبك.

         والحقّ أنّ من أسباب عدم تطوّر الاستيطان الفرنسي في العالم الجديد؛ قلة أعداد المهاجرين من الفرنسيين (تجّار وصيادين ورجال دين)، كما أنّ هجراتهم  كانت ظرفية، عكس الإنجليز الذين كانت هجراتهم بأعداد كبيرة ودائمة، ومع ذلك ازداد النفوذ الفرنسي في كندا وصولا إلى منطقة البحيرات الكبرى في عهد الكونت فرونتناك Frontenac، وأصبحت مناطق الاستيطان الفرنسي تُشكّل حزاما يُحيط بالمستعمرات الإنجليزية الثلاثة عشر وتطوّقها من الجهة الغربية. وهكذا نشب صراع مرير بين الطرفين؛ هو في الحقيقة انعكاس وصدى للحروب الفرنسية الإنجليزية في أوربا التي استمرت إلى نهاية القرن السابع عشر الميلادي.

5-3: الهولنديون في العالم الجديد: كان من أسباب هجرة الهولنديين إلى العالم الجديد؛ لثورة ضد المملكة الإسبانية (1566-1648) ثم حصولهم على الاستقلال بموجب صلح وستفاليا. وقد مثّلت رحلة البحار هودسون الذي عمل لصالح الإنجليز أساس التواجد الهولندي في أمريكا الشمالية خصوصا، حيث امتدت مستوطناتهم بين خطي عرض 40-45 شمالا، وشكّلوا مركزا تجاريا مهمّا ومحطة لجمع الفراء (الجلود) في جزيرة منهاتن (نيويورك).

         في عام 1622 تأسست 'شركة الهند الغربية الهولندية' وباشرت أعمالها الاستيطانية، لكن تواجد الهولنديين في العالم الجديد بقي محتشما، وبعد صلح وستمنستر Westminster عام 1674م، تنازل المستوطنون الهولنديون عن نيويورك للإنجليز بعد أخذ وردّ. أما جنوبا فقد استقر الهولنديون مؤقتا في منطقة جويانا بالبرازيل لمدة ثلاثين عاما، وكان ذلك تحت التهديد البرتغالي لهم.