1. الرواية الشفوية

1.2. اقسام التراث الشفوي

1 – التراث الشفوي:
جاء في قاموس “لاروس” أن التراث الشفوي هو “مجموعة التقاليد من أساطير ووقائع ومعارف ومذاهب وآراء وعادات وممارسات”. أما قاموس “روبير” فيعرف التراث الشفهي بأنه: “انتقال غير مادي للمذاهب والممارسات الدينية والأخلاقية المتوارثة من عصر إلى آخر بواسطة الكلمة المنطوقة”.
ويندرج ضمن التراث الشفوي لمجتمع ما أو أمة من الأمم، الأمثال الشعبية التي خلفها الأجداد وتوارثهما الآباء وورثوها للأبناء، دون أن يعلم لتلك الأمثال قائل أو مصدر محدد، فالأمثال لم تظهر من فراغ وإنما لذكرها مناسبة قيلت فيها. والأمثال العربية عموما، والمغربية على الخصوص، متشابهة لاعتبار أصلها الواحد، فقط أن التداول هو الذي يساهم في انزياحها أو الانتقاص منها أو الإضافة إليها عبر الاستعمال المستمر في الزمن، أو بسبب الانتقال من مجال إلى آخر، حيث ينضاف تأثير اللغات واللهجات المختلفة في خلخلة تركيبة المثل الشعبي الاصلي.
وعليه فهناك أمثلة شعبية محلية لا تسمع إلا في منطقة أو جهة بعينها، بينما تغطي أمثال شعبية أخرى مجالات واسعة بحجم الوطن أو الأمة بأكملها، فهناك أمثال لليل وأمثال للنهار وهناك أمثال للجن والشيطان، وهناك أمثال للبطولات والشجاعة وهناك أمثال للعفة والشرف والأمانة والمغامرة والعادات والتقاليد وغيرها من القيم والتصورات البشرية …
وتتميز الأمثال الشعبية بحلاوة اللحن وحسن الصياغة اللغوية، فالمثل كما يقال “نهاية البلاغة”. ولذلك فلا مفر للمؤرخ والباحث التاريخ من التجاوب مع مرامي “التاريخ الجديد” من وراء توسيعه لمفهوم الوثيقة والقبول “بالمثل الشعبي” كوثيقة دارجة على ألسنة الناس، واعتبارها رصيد معرفيا هاما يمكنه من التوصل إلى فلسفة حياة البسطاء منهم، وتلمسه البنيات الاجتماعية والاقتصادية والاجتماعية والذهنية وكذا للأوجه الثقافية التي سادت خلال الماضي الإنساني عموما أو خلال الماضي المغربي بشكل خاص.
وتوجد بمختلف جهات المغرب المئات من الأمثال الشعبية، يرويها عامة الناس ولا يحفظها إلا كبار الناس والقليل من الرواة، كانت هذه الأمثال متداولة في مجتمع ما قبل التقنيات أي المجتمع التقليدي. واستمرت في التداول، ساعدتها في ذلك -بدون شك – شروط معينة مثل المتن الحكيم “والإيجاز في المعنى والسلامة في النطق، وتوفر خاصيتي التشبيه” والكناية وغيرها من الخصائص. …
أيضا يعتبر التعبير بواسطة الغناء الشعبي لنصوص شعرية قديمة أنتجتها المجتمعات السابقة – في سياق أحداث ومتغيرات مختلفة – رافدا ومأخذا مهما لمعطيات تاريخية، غطت جوانب متعددة من ماضيها. فبالمغرب مثلا نجد نصوصا ومقاطع غنائية تروي عن الجانب الروحي من تمثلات وتصورات عن الذات الإلهية والتبرك والتشفع بالصلحاء، حيث يسمى هذا الغناء بالساكن “(1)، نظرا لمظهره الديني والصوفي. نجد أيضا نصوصا غنائية تروي ما عايشه المغاربة على المستوى الاقتصادي من مجاعات وأوبئة وانتشار للجراد، كما تزخر الساحة الغنائية الشعبية أيضا بنصوص غنائية تؤرخ لتفاصيل المقاومات الشعبية ضد التسرب الأجنبي والاحتلال، حيث فطن المستعمر مبكرا إلى ضرورة تحييدها ومحاربة كل من يرددها من العياطين، نظرا لقدرة هذا الغناء على الرفع من تأهب المقاومين وتأجيج حماستهم، وتحريضهم على الاستمرار في مواجهة الاستبداد الناجم عن جور القياد وتعسف المستعمرين.
وقد صاحب التعبير بواسطة الغناء الشعبي عبر المراحل التاريخية المغربية، استعمال آلات ووسائل بدائية شملت في بادئ الأمر أدوات التقطها الانسان أو قنصها، من أخشاب جوفاء وعظام وقرون وجلود وقصب أو عظام الاكتاف لحيوانات كانت تنفق في المجال (2).
كما صاحب التعبير الغنائي الشعبي – أيضا – تعبير مادي جسدي، تشخيصي ويتجلى ذلك حسب تعبير الأستاذ محمد بوحميد في “تلك الأصوات والفرقعات التي تنبعث إما بتحريك القدمين أو اصطدام الأطراف بعضها مع بعض تناسبا مع الحركة (3).
ويدخل في نطاق أنواع الغناء الشعبي أيضا الغناء الأمازيغي والحساني والملحون، حيث ينطبق على هذه الأنواع كل ما سيق حول الغناء الشعبي بشكل عام، بالنظر لما تتضمنه نصوصها من زخم شعري هائل، تطرق إلى كثير من الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والعوائدية للمجتمعات، ولم يقتصر فقط على النخبة والزعماء والملوك، بل تناولت كذلك الأجواء السائدة وظروف عيش “المحجوبين من التاريخ ” (4)من البسطاء من عامة الناس ….
وقد تعرض التراث الغنائي الشعبي طويلا – كمصدر تاريخي أو كمجال للبحث التاريخي- للإزداء من قبل المؤرخين المغاربة الأولين باعتبار” الثقافة الشعبية والتراث الشفاهي المغربي مجرد ثقافة الأسطورة والخرافة (5). وبالرغم من وجود تحول في قبول واستخدام الأدب الغنائي الشعبي كإحدى طرق البحث في التاريخ المغربي مؤخرا والتي دشنها مجموعة من الأكاديميين، إلا أن مناهج تدريس التاريخ لا تزال تركز على التاريخ السياسي للنخبة، تاركة التاريخ الشفوي خارج البحث!!
وتدخل ضمن التراث الشفوي أيضا الأهازيج والفلكلور الشعبي لأنها مظاهر تعبيرية عن الفرحة والانتصار والاحتفال بالأحداث التاريخية الفارقة في حياة المجموعات البشرية. ونميز هنا بين نوعين من الفلكلور الشعبي، فهناك الحسي المادي ونعني به الهندام واللباس، والحلي، والشفوي اللامادي وهو ما تترجمه الأصوات والألحان والأنغام والمواويل، والتأوهات والتمايلات الجسدية إلى غير ذلك من الأمور الحركية المصاحبة الأداء الغنائي سواء أكان فرديا أو جماعيا.
2–الرواية الشفوية:
جاء في بعض القواميس الحديثة أن المعنى اللغوي لفعل روى هو حكى أو أخبر أو وصف ورسم، وروى رواية بمعنى حكى أمورا إما ضمن موقع المعاينة أو التواتر. ولذلك فالرواية الشفوية وفق الحكاية التاريخية الجديدة أصبحت من الوسائل المطلوبة في رصد الحقائق والوقائع التي حدثت في الماضي الإنساني. وعليه فهي مصادر ضمن المصادر مثلها مثل الآثار ومثل الرواية التاريخية المكتوبة، وهي فقط عامل مساعد للكتابة التاريخية الأخرى الشمولية التي تتناول الموضوعات التركيبية التاريخية كما هو شأن باقي العلوم الإنسانية الفرعية كالأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والاثنولوجيا والأثنوجرافيا وغيرها. فلا يعتقد أحدنا أنه بالإمكان تأليف كتاب أو إنجاز بحث أكاديمي بالاستناد فقط على الرواية الشفوية، كما لا يكمن الحديث في آثار من دون الاستعانة بالمصادر المكتوبة، وبالتالي فمن المفيد اعتماد الرواية الشفوية إلى جانب المصادر والمراجع والوثائق من أجل مقاربة المواضيع التاريخية وغير التاريخية…
والرواية الشفوية حسب تصنيفي الشخصي تنقسم إلى قسمين:
أ – الرواية الشفوية الجاهزة: وهي تلك المحكيات من الأمثال والحكم والغنائيات والقصص العالقة بأذهان الناس، والتي توارثتها الأحفاد عن الأجداد عبر الزمن. ويمكن للباحث التنقيب عن هذا الصنف بسهولة عبر استجواب الناس عنها دون تمييز من حيث السن أو الجنس أو المناطق، وهناك مجهودات فردية قام بها أصحابها من الباحثين (6) في بعض الأقطار العربية، حيث جمعوا الأمثال ودونوها فأصبحت مكتوبة.
ب – الرواية الشفوية المنتجة حديثا: ويقصد بها تصريحات الأشخاص المسنين والمسؤولين السابقين وأيضا من أفواه ذوي الزعامة من ممثلي المؤسسات والمنظمات والجمعيات والطوائف والعشائر، بحيث تنتزع هذه الروايات من أفواه هؤلاء، بأساليب وتقنيات واشتراطات مضبوطة لهدف مقاربة موضوع من المواضيع التاريخية الحديثة أو المعاصرة، أو لإنجاز بحث أكاديمي حول ظاهرة من الظواهر الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية.