2. المطلب الثاني: تسوية القضائية للمنازعة

2.1. الفرع الأول: تسوية القضائية للمنازعات الناشئة خلال مرحلة ابرام الصفقة العمومية

يعقد الاختصاص بالفصل في المنازعة خلال هذه المرحلة، للقاضي الاداري، بموجب دعوى الغاء محلها قرار اداري صادر ضمن اجراءات ابرام العقد، باعتبار أن الرابطة العقدية لم تنشأ بعد، كما أنه خلال هذه المرحلة قد تثار بشأن ابرام عقد دعوى استعجالية يختص بالفصل فيها القاضي الاستعجالي، أو تثبت حالة من حالات الفساد أو التجاوز المخل بأحد شروط أو مبادئ ابرام الصفقة العمومية، ما يشكل أحد جرائم الفساد المتعلقة بابرام عقد الصفقة العمومية، والتي تعقد الاختصاص للقاضي الجزائي بالنظر في الدعوى المرفوعة بمناسبتها، وهو ما سنحدده في عناصر هذا الفرع على النحو التالي:  

أولا/ عقد الاختصاص لقاضي الالغاء بالنظر في منازعات إبرام الصفقات العمومية: إن الطبيعة العقدية للعمل القانوني تحول دون إمكانية الطعن فيه بالإلغاء[1]، ذلك أن دعوى الإلغاء تنصب على قرار إداري، أما العقد الإداري فيجد مجاله في دعاوى القضاء الكامل، وعليه لا يجوز مبدئيا قبول دعوى الإلغاء ضد القرارات التي تتعلق بالعقود الإدارية، إلا انه استثناء، يمكن رفع دعوى الإلغاء ضد القرارات الإدارية الممهدة لعملية التعاقد الصادرة لإتمام عملية الإبرام، كالقرارات التي تستهدف التمهيد لإبرام العقد، أو السماح بإبرامه أو تحول دون ذلك[2]، على اعتبار أن العملية العقدية عملية مركبة ومتكاملة تسهم في صنعها أعمال قانونية تتوافر فيها صفة القرار الإداري، والتي يمكن النظر إلى كل منها بشكل مستقل، وبالتالي قبول دعوى الإلغاء المرفوعة بشأنها، إذ تجوز مخاصمتها إذا شابها وجه من أوجه اللامشروعية إعمالا لنظرية القرار الإداري المنفصل[3]، فترفع ضدها دعوى الإلغاء بصورة مستقلة عن العقد[4] .

أما القرارات التي تصدر بعد قيام الرابطة التعاقدية سواء كانت بصدد تنفيذه أو استندت في إصدارها لنصوصه فهي قرارات ترتبط بالعقد ارتباط الجزء بالكل، الأمر الذي يحول دون إمكانية الطعن فيها بالإلغاء استقلالا عن العقد، وبالتالي لا يمكن للمتعاقد إلا أن يرفع بشأنها دعوى التعويض، بالاستناد إلى مركزه الشخصي أمام قاضي العقد في إطار ولاية القضاء الكامل، وعليه لا يمكن الطعن بالإلغاء في القرارات الإدارية المتصلة بالعقد الإداري في مرحلة تنفيذه، من طرف المتعاقد إلا إذا أصدرت الإدارة المتعاقدة هذه القرارات بوصفها سلطة عامة كسلطة ضبط مثلا وليست باعتبارها طرفا متعاقد[5].

في حين يمكن للغير أن يرفع دعوى الإلغاء ضد تلك القرارات التي تمس بحقوقهم ومراكزهم، على أساس أنّ هذا الغير، لا يمكنه رفع دعوى تعويض نزولا عند نسبية أثار العقد، وشخصية دعاوى التعويض، باعتبارها من دعاوى القضاء الكامل، وبالتالي تكون قابلة للطعن فيها بالإلغاء ضمانا لحقوق الغير، وذلك متى تم المساس بحقوقهم من طرف الإدارة المتعاقدة بوصفها طرفا في العقد[6].

ثانيا/ مجال اختصاص القاضي الاستعجالي بالنظر في منازعات ابرام الصفقات العمومية: إن الاستعجال المتعلق بالإخلال بالتزامات الإشهار والمنافسة خلال مرحلة ابرام عقد الصفقة العمومية، يخرج عن نطاق اختصاص قاضي العقد لأن محله قرار إداري، وهو ما يحيل الاختصاص بالفصل فيه استثناء إلى قاضي الإلغاء، ولقد استحدث هذا الاختصاص في مادة العقود والصفقات العمومية لقاضي الأمور المستعجلة بموجب المادتين 146 و 147 من القانون، رقم 08-09، إذ لم يتم النص عليه من قبل، في ظل قانون الإجراءات المدنية الملغى[7].

ثالثا/ مجال اختصاص القاضي الجزائي بالنظر في منازعات ابرام الصفقات العمومية: إن استعمال المال العام هو أساس المعاملات الاقتصادية العمومية، والعقود الإدارية التي من بينها عقد الصفقة العمومية، محل أموال طائلة تشكّل ميدانا خصبا لاختلاس الأموال العمومية و الثراء غير المشروع،  وبهدف حماية المال العام ومحاربة الفساد الإداري[8]، عمد المشرع إلى تجريم بعض الممارسات الاقتصادية[9]، لاسيما في مجال العقود الإدارية.

 حيث صدر القانون 06-01 المتعلق بالوقاية من الفساد و مكافحته المعدل والمتمم[10]، متضمنا أحكاما خاصة بالعقود الإدارية والصفقات العمومية على وجه الخصوص، باعتبارها النموذج الشامل للعقود الإدارية في الجزائر، مؤكدا على أن الإجراءات المعمول بها في مجال إبرام الصفقات العمومية يجب أن تؤسس على قواعد الشفافية و المنافسة الشريفة [11].

تنص في هذا الإطار، المادة التاسعة من القانون 06-01 المتعلق بالوقاية من الفساد و مكافحته المعدل والمتمم، على أنه: "يجب أن تؤسس الإجراءات المعمول بها في مجال الصفقات العمومية على قواعد الشفافية و المنافسة الشريفة، و على معايير موضوعية و يجب أن تكرس هذه القواعد على وجه الخصوص: علانية المعلومات المتعلقة بإجراءات إبرام الصفقات العمومية، الإعداد المسبق لشروط المشاركة و الانتقاء، معايير موضوعية و دقيقة لاتخاذ القرارات المتعلقة بإبرام الصفقات العمومية، وممارسة كل طرق الطعن في حالة عدم احترام قواعد إبرام الصفقات العمومية "، أما الأحكام المتعلقة بمسؤولية الشخص المعنوي عن ارتكاب جريمة من جرائم الفساد والتي يختص بالفصل فيها القاضي الجزائي بطبيعة الحال، فقد أحالها قانون مكافحة الفساد رقم 06-01، إلى قانون العقوبات[12]، بينما حدد في المادتين 26 و27 الجرائم المتعلقة بالعقود الإدارية والصفقات العمومية، والمتمثلة في:

أ‌-  جنحة المحاباة[13].

ب‌- جنحة استغلال نفوذ الأعوان العموميين [14].

ج- جنحة الرشوة [15].



[1] -  تنصب دعوة الإلغاء على قرار إداري، وتقتصر سلطة القاضي فيها على التحقق من مدى مشروعية القرار، وبالتالي الحكم بإلغائه دون أن تمتد سلطته إلى أبعد من ذلك، كتعديل القرار المطعون فيه، أو استبداله  ولا أن يقضي بحقوق شخصية معينة لرافع الدعوى، وتعّرف دعوى الإلغاء، بأنها: " دعوى قضائية ترفع أمام الجهة القضائية المختصة بغرض إلغاء قرار إداري غير مشروع طبقا لإجراءات خاصة ومحددة قانونا"، أنظر: عمار بوضياف، دعوى الإلغاء في قانون الإجراءات المدنية والإدارية دراسة تشريعية وقضائية وفقهية، المرجع السابق، ص: 48.

[2] -  محمد عبد العال السناري، مبادئ وأحكام العقود الإدارية في مجال النظرية والتطبيق، دار النهضة العربية، بيروت، د س ن، ص:79.

[3] - حيث اعتبر مجلس الدولة الفرنسي أن القرارات الإدارية المركبة المتصلة بالعقد والتي تصدر قبل إبرامه هي قرارات إدارية منفصلة عن العملية العقدية، و مستقلة عن العقد الإداري، يمكن فصلها، والطعن فيها أمام قاضي الإلغاء بصورة مستقلة عن دعاوي القضاء الكامل، ، للتوسع راجع: محمد سليمان الطماوي، الأسس العامة للعقود الإدارية دراسة مقارنة، ط 03، دار الفكر العربي، د ب ن، 1976، ص: 266.

[4]-   للتوسع راجع: عمار عوابدي، النظرية العامة للمنازعات الإدارية في النظام القضائي الجزائري، ج 02 (نظرية الدعوى الإدارية)، ط 02، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2003، ص:446 وما بعدها.

[5]-  أنظر: عوابدي، النظرية العامة للمنازعات الإدارية في النظام القضائي الجزائري، ج 02 (نظرية الدعوى الإدارية)، المرجع السابق، ص 266.

[6]-  أنظر: نعيمة آكلي، "النظام القانوني لعقد الامتياز الإداري في الجزائر"، رسالة ماجستير في القانون، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، 2013، ص: 169.

[7] –  للتوسع راجع: عبد الله مسعودي، الوجيز في شرح قانون الإجراءات المدنية والإدارية، دار هومة، الجزائر، 2009، ص: 294- 295.    

[8]–  يعيق الفساد دور الدولة في وضع بيئة تنافسية نزيهة، بفسحه المجال لاستثمارات مبنية على  المحسوبية والمحاباة، مما يعجّز المستثمرين الجادين ذوي الكفاءة من منافسة تلك الاستثمارات، للتوسع راجع: ربيعة صبايحي، (حدود تدخل الدولة في المجال الاقتصادي في ضل اقتصاد السوق)، المجلة النقدية للقانون والعلوم السياسية، العدد 2، 2009، كلية الحقوق جامعة مولود معمري، تيزي وزو، ص: 265.     

[9] - أنظر: المواد 123 و 124 و 125 و 128 مكرر01، من الأمر، رقم 66-156 المعدل والمتمم، المصدر السابق، الملغاة بموجب المادة 71 من القانون، رقم 06-01، المعدل والمتمم، المصدر السابق.

[10]-   أنظر: المواد 26 و 27 و 35، من القانون رقم 06-01، المعدل والمتمم، المصدر السابق..

[11] –  إن الشفافية، من العوامل التي تحقق المنافسة الشريفة بين الأعوان الاقتصاديين المتدخلة في السوق بما يضمن السير العادي لآلياته.

-    Voir : Nachida BOUZIDI, )Gouvernance et développement économique, une introduction au débat(, Revue Idara ,Vol 15, NO 2, 2005, P 110.      

[12]  أنظر: المادة 53، من القانون، رقم 06-01 المعدل والمتمم، المصدر السابق.

-      المادة 18 مكرر من الأمر، رقم 66- 156 المعدل و المتمم، المصدر السابق.

[13]-  وردت هذه الجنحة في الفقرة الأولى من المادة 26 من القانون، رقم 06-01، المصدر السابق، التي حلت محل المادة 128 مكرر من قانون العقوبات، المعدل و المتمم: بنصها على أنه "يعاقب بالحبس من سنتين إلى عشر سنوات، و بغرامة من 200.000دج إلى 1.000.000دج، كل موظف عمومي يقوم بإبرام عقد أو يؤشر أو يراجع عقدا أو اتفاقية أو صفقه أو ملحقا مخالف بذلك الأحكام التشريعية و التنظيمية الجاري العمل بها بغرض إعطاء امتيازات غير مبررة للغير"، وقد حددت القانون رقم 06-01 المذكور، العقوبات المقررة لهذه الجنحة، في المواد التالية: 05 و 09 و 26 الفقرة الأولى و 48 و 49 الفقرة الأولى والثانية. من القانون.

[14]-  تناولت هذه الجنحة، الفقرة الأولى من المادة 26 من القانون، رقم 06-01، المصدر السابق، التي حلت محل المادة 128 مكرر من قانون العقوبات المعدل والمتمم: التي تنص على أنه: "يعاقب بالحبس من سنتين إلى 10 سنوات و غرامة من 200 ألف دج إلى 1.000.000 دج، كل تاجر أو صناعي أو حرفي أو مقاول من القطاع الخاص أو بصفة عامة كل شخص طبيعي  أو معنوي يقوم و لو بصفة عرضية بإبرام عقد أو صفقة مع الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات أو الهيئات العمومية الخاضعة للقانون العام أو المؤسسات العمومية الاقتصادية أو المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي و التجاري و يستفيد من سلطة أو تأثير أعوان الهيئات المذكورة من أجل الزيادة في الأسعار التي يطبقونها عادة أو من أجل التعديل لصالحهم في نوعية المواد أو الخدمات أو آجال التسليم  أو التموين"،  وتعد هذه الجريمة الصورة العكسية لجنحة المحاباة.

[15] -  تجد جنحة الرشوة في مجال العقود الإدارية أساسها القانوني، في المادة 27 من القانون، رقم 06-01، المصدر السابق، التي حلت محل المادة 128 مكرر1 من قانون العقوبات المعدل والمتمم، والتي تنص على أنه "يعاقب بالحبس من 10 سنوات إلى 20 سنة، و بغرامة من مليون إلى 2 مليون، كل موظف عمومي يقبض أو يحاول أن يقبض لنفسه أو لغيره بصفة مباشرة أو غير مباشرة، أجرة أو منفعة مهما كان نوعها بمناسبة تحضير أو إجراء مفاوضات قصد إبرام أو تنفيذ صفقة أو عقد أو ملحق، باسم الدولة أو الجماعات المحلية أو المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري أو المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي والتجاري أو المؤسسات العمومية الاقتصادية"، للتوسع راجع: عادل مستاري، موسى قروف، (جريمة الرشوة السلبية للموظف العام في ظل قانون 06-01 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته)، )مجلة الاجتهاد القضائي(، العدد الخامس، 2009، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر،  بسكرة، ص: 167 وما بعدها.