2. التداول على السلطة

الحقيقة أنه ليس هناك ديمقراطية ليبرالية أو تعددية سياسية من دون احتمال وقوع التناوب على السلطة، فالحكم ليس حكرا أبديا بيد أحد الأحزاب.

ومع خروج مصطلح التداول على السلطة من دائرة الواقع السياسي العربي ازداد الحديث عن إمكانات الانتقال الديمقراطي للحكم في البلاد العربية، وعن أهم معوقاته، لكن بقي مفهوم التداول أو على الأقل شق منه مبهما لا نستطيع تعريفه وحصره، وذلك لإشكالات تتعلق بمفارقات في علاقة السياسي L’Homme politique بالسياسة La politique من جهة، ومن جهة أخرى لتنوع أشكال تطبيقات التداول في الديمقراطية الحديثة.

أولا: مفهوم التداول على السلطة

إن محاولة تعريف مفهوم التداول على السلطة لا تخلو من صعوبات وإشكالات ترتبط بتعدد وجوه التداول، وتنوع لوازم إمكانه مما يعرقل عملية حصره في إطار مفهوم واحد، ولكن التأكيد على عملية التداول من حيث هو آلية لصعود قوى سياسية من المعارضة إلى السلطة ونزول أخرى من السلطة إلى المعارضة القادر على تحقيق أقدار من الإجماع والاتفاق على عملية التعريف. يعرف " شارل ديباش" التداول على السلطة بكونه" مبدأ ديمقراطي لا يمكن- وفقه- لأي حزب سياسي أن يبقى في السلطة إلى ما لا نهاية له، ويجب أن يعوض بتيار سياسي آخر". أما " جان لوي كرمون" فيعتبر أنه " وضمن احترام النظام السياسي القائم يدخل التداول تغييرا في الأدوار بين قوى سياسية في المعارضة أدخلها الاقتراع العام إلى السلطة وقوى سياسية أخرى تخلت بشكل ظرفي عن السلطة لكي تدخل إلى المعارضة ".

من التعريفين يتجلى التركيز على الجانب الوظيفي للتداول من حيث كونه آلية لإدارة الدخول والخروج إلى السلطة وإلى المعارضة بين تيارات سياسية مختلفة، لكن في حقيقة الأمر أن إشكالية التداول على السلطة هي أعمق من ذلك بكثير، فهي تكشف عن طبيعة الحالة الاجتماعية برمتها في صراعات أطرافها وتحالفاتهم وفي درجة الوعي السياسي العام، لذلك كان التحقق الفعلي لمبدأ التداول مرهونا بشروط مسبقة هي شرط إمكانه.

فمبدأ التداول على السلطة سلميا بين الاتجاهات السياسية المنظمة، مبدأ مركزي من مبادئ الدستور الديمقراطي، وتبادل السلطة يجب أن يكون وفق نتائج الاقتراع العام وما يسفر عنه من اختيارات الناخبين، وعلى أحكام الدستور الديمقراطي أن توجد المؤسسات وتخلق الآليات التي تسمح بتداول السلطة سلميا.

ثانيا: شروط التداول على السلطة

أ- التعددية الحزبية

يقصد بالتعددية الحزبية وجود حياة حزبية مستقرة، سواء أكانت متجسدة في نظام الثنائية الحزبية، كما هو عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية أو نظام متعدد الأحزاب المقرر في معظم الدول الأوربية و في بلدان أخرى ذات النهج الديمقراطي التعددي.

ولئن كان النظام الاستبدادي ومن أجل الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع، التجأ إلى قمع الاختلاف بين المكونات السياسية للمجتمع وتعويضها بنمطية واتجاه في الغالب يمر من ضمائر الجمع وتعويضها ما أمكن بضمير المفرد، فإن النظام الديمقراطي سعى جاهدا إلى الإبقاء على مبدأ الاختلاف قائما، ولكن مع تنظيمه وتقنينه لكي لا يتحول إلى خلاف. إن التعدد في الأحزاب والفئات السياسية هو من أهم شروط التداول على السلطة إذ تنعدم في نظام الحزب الواحد حرية الاختيار بين تيارات سياسية مختلفة، وأن الاعتراف بأوجه الاختلاف في المجتمع والتعامل السليم معه يتطلب في المقام الأول أن يكون لوجود التعددية معنى سياسي ملموس يتمثل في أن يكون لكل اتجاه سياسي حق دستوري في المشاركة السياسية، والتأثير في القرارات العامة، وهذا ما يجب أن يتضمنه الدستور الديمقراطي من خلال ضمانات تطبيق مبدأ تداول السلطة.

ب- الانتخابات

يشترط التداول الديمقراطي على السلطة، الإجراء الدوري لانتخابات حرة ونزيهة، وإذا كان لفظ التداول يطلق على عملية الدخول والخروج من السلطة، فإن الانتخابات هي الأداة التي تتم بها العملية، وعلى العموم لابد أن يجري الاقتراع بشكل حر وعام ومباشر وسري، ويبقى اختيار طريقة الاقتراع المطبقتان حتى الآن في الديمقراطيات الحديثة، الاقتراع بأغلبية الأصوات والاقتراع بمبدأ النسبية، أمرا موكول إلى كل بلد حسب ما يرتضيه. خضعت الانتخابات في ظل الدولة الليبرالية إلى عدة تطورات، حتى أصبحت تنافسية تقتضي اختيارا حرا، من طرف الناخبين أو البرامج والأحزاب السياسية، كما يقوم الاقتراع على الحق في التنافس والاختلاف والصراع المبني على الاحترام المتبادل، وكل ما من شأنه أن يسمح سيادة الأغلبية المقابل لعدم هدر حقوق الأقلية.

إن الانتخابات هي الضامن الأساسي لعودة تيار سياسي إلى السلطة بعد الخروج منها، وهي تمثل إحدى أهم المحطات التي يمارس فيها الشعب سيادته ودوره كفيصل وحكم بين التيارات السياسية المتنافسة في البلاد.

ج- الاتفاق حول مؤسسات الدولة وحكم الأغلبية في ظل احترام الأقلية

يفترض التداول على السلطة اتفاقا أوليا على مؤسسات الدولة، إن التداول هو ليس تغيير للدولة وإنما هو تغيير في الدولة، وهو ليس تبديلا لنظام بقدر ما هو تغيير للنخبة الحاكمة فقط. إن التداول على تسلم أجهزة الدولة من أجل تطبيق قناعات وخيارات وبرامج الفئات والأحزاب السياسية الصاعدة إلى السلطة، من خلال المؤسسات القائمة ( مؤسسة الرئاسة، مؤسسة القضاء، مؤسسة الجيش...الخ)، هذه المؤسسات التي لا يمكن تحويرها في الغالب إلا بعد استشارة شعبية موسعة وتنقيحات دستورية عميقة بعد الحصول على إجماع داخل الطبقة السياسية، ويلاحظ بأن دساتير بعض البلدان تحضر أي تعديل على بعض موادها كالنظام الجمهوري في فرنسا أو فيما يتعلق بالحقوق الأساسية للمواطن في كثير من الدساتير الأخرى. ونظرا لأهمية التداول على السلطة ولدوافع سياسية طالب البعض، على الصعيد الدولي، صياغة مبدأ قانوني يمنع بمقتضاه الدول من الاعتراف بالحكومات التي تستولي على زمام السلطة عن طريق العنف، أي خلافا لما تقرره القواعد الدستورية. مما سبق إن مبدأ تداول السلطة هو تعبير عملي عن مبدأ الشعب مصدر السلطات، كما أنه تطبيق لمبدأ حكم الأغلبية، وقد توصلت الديمقراطية الدستورية إلى تقييد حق الأغلبية، بقيود دستورية ترتضيها الأقلية، عند التفاوض على نصوص الدستور، والهدف من هذه القيود منع استبداد الأغلبية وصيانة حق الأقليات، وإعطائها حقها في المعارضة الدستورية والنقد العلني لممارسات الأغلبية في الحكم.

ثالثا: أشكال التداول على السلطة

يتم تقسيم التداول عادة بالنظر إلى حجم سيطرة النخبة السياسية الصاعدة إلى الحكم على السلطتين التنفيذية والتشريعية والذي يتعلق عادة بتوقيت ونتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.

أ- التداول المطلق

هو التداول الذي تدخل على إثره السلطة بكاملها إلى المعارضة، ويتأتى هذا النوع من التداول في النظام البرلماني، إثر فوز حزب أو تكتل حزبي متجانس من المعارضة بالأغلبية المطلقة من الأصوات في الاقتراع العام، مما يؤهله إلى تشكيل الحكومة بمفرده. كذلك، يمكن أن يحصل تداول مطلق على السلطة في النظامين الرئاسي ونصف الرئاسي إذ كان عقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في فترة زمنية واحدة مما يتيح للرئيس والأغلبية البرلمانية أن يكونا من تكتل أو حزب واحد قادر على أن يشكل الحكومة بمفرده. ويتواجد التداول المطلق خصوصا في نظام الحزبين le bipartisme، حيث يكون هناك حزبين كبيرين يتناوبان من أجل السيطرة على السلطة والحكم، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا( الحزبان العمالي والمحافظ)، إلى جانب الحزب الليبرالي، وحزب شيوعي صغير ومجموعات صغيرة، لكن لا أحد منها يستطيع الحصول على الأغلبية المطلقة من المقاعد البرلمانية. وحقيقة، يعتبر التداول المطلق على السلطة أعظم وأهم تغيير يمكن أن يحصل في نظام سياسي ما بشكل سلمي وديمقراطي.

ب- التداول النسبي

هو التداول الذي يدخل فيه قسم فقط من السلطة إلى صف المعارضة، ويوجد في النظامين الرئاسي ونصف الرئاسي حيث يتم انتخاب الرئيس والبرلمان في فترات زمنية متباعدة، إذ وعلى نقيض التداول المطلق، حيث تنتمي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية إلى كتلة أو حزب سياسي واحد حاصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات، فإن التداول النسبي يتيح سيطرة طرف من المعارضة على قسم فقط من السلطة، والحزب الحاكم على القسم الآخر، أي أن تنتمي أغلبية البرلمان إلى حزب أو كتلة سياسية في الوقت الذي ينتمي الرئيس إلى حزب أو كتلة سياسية أخرى.

ويوجد هذا النوع من التداول خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ عادة ما لا يكون الرئيس من الأغلبية المسيطرة على الكونجرس، ففي الفترة الفاصلة بين 1944 وسنة 1988، لم يحصل تداول مطلق على السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية إلا مرة واحدة، وذلك في سنة 1952 في عهد الرئيس " إزنهاور".

ج- التداول عبر وسيط

يوجد هذا النوع من التداول على السلطة خصوصا في ألمانيا، إذ بحكم عدم حصول أي حزب على الأغلبية المطلقة في البرلمان يتم التداول عبر ترجيح حزب ثالث، كفة أحد الحزبين الرئيسيين،( الحزب الديمقراطي والحزب الاجتماعي الديمقراطي) من أجل تشكيل الحكومة، وقد لعب الحزب الليبرالي لفترات طويلة المرجح لكفة أحد هذين الحزبين من أجل السيطرة على السلطة.

وكثيرا ما يأخذ الحزب الثالث بالبرلمان في هذا النوع من التداول حجما أكبر مما هو عليه في حقيقة الأمر، وغالبا ما يفرض على الحزب الذي اختار ترجيحه من أجل تشكيل الحكومة تنازلات سياسية. إن الحكومة في هذا النوع من التداول كثيرا ما تكون غير قوية، وذلك إبعاد الشك التي تعتريها من أن ينفرط عقد التحالف بين الحزبين الذين يؤلفانها، على عكس ما هو موجود عادة في نظام الحزبين، حيث يكون للحزب الفائز في الانتخابات القدرة على تشكيل الحكومة بمفرده ودون الحاجة إلى الاستعانة بأقلية أخرى في البرلمان.

مما سبق هناك إجماع حاصل لدى الأنظمة السياسية على اعتبار التداول على السلطة آلية منظمة للحياة السياسية، بالإضافة إلى اعتبار التداول كونه اتفاقا على حل المشاكل السياسية والاجتماعية بطرق سلمية وتعاقدية، وهو ما تصبو إلى تحقيقه الديمقراطية. كما يعكس تنوع أشكال التداول على السلطة درجة الإجماع الحاصل إزاء النخبة السياسية الحاكمة، إذ يعتبر التداول المطلق رغبة إلى تغيير جذري في السلطة لدى الناخب، في حين يعكس التداول النسبي رغبة في تغييرات جزئية وأكثر بطئا، أما التداول عبر وسيط فيعبر عن رفض الناخبين لنظام الحزبين وهيمنة حزب أو اثنين فقط على الحياة السياسية. كما يعتبر تعدد أشكال التداول على السلطة، عن تنوع وجوه النظام الديمقراطي من حيث هو نظام وتعاقد سياسي واجتماعي وليد تجربة تاريخية وفضاء ثقافي معينين.