1. التطور التشريعي لقواعد التهيئة والتعمير منذ الاستقلال إلى غاية 1990

قبل الاستقلال كان التنظيم العمراني مبينا على التضامن الاجتماعي والتكامل بين كل مناطق الوطن ليمحي المستعمر هذا المنطق ويكيّف بناءا وعمرانا حسب ما تقتضيه ظروف الاحتلال ليصل سنة 1962 إلى عمران ريفي مدمّر، وورثت الجزائر بعد الاستقلال قاعدة إقليمية مختلة نجد فيها السهول الساحلية ومناطق الاستغلال المكثف للسكان الأوربيين تتمركز فيها معظم الهياكل الأساسية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد باقي البلاد موزّع بين مناطق ذات استغلال فلاحي تقليدي والجهات المصدّرة لليد العاملة الفلاحية الجزائرية المهمشة والضعيفة.

فأوّل ما واجه الدولة الجزائرية هو إعادة التوازن والتكامل بين كامل ربوع الوطن وفق نظام عمراني جديد، وذلك من خلال أحكام جديدة تتلاءم مع بلد مستقل حديثا، وعليه سنتناول القوانين الصادرة في مجال التهيئة والتعمير في الفترة الممتدة بين 1962 إلى غاية 1978، والمرحلة من 1978 إلى غاية 1990.

الفرع الأول: مرحلة التوازن الجهوي (1962 إلى غاية 1978)

   بموجب الأمر 62-157 المؤرخ في 31/12/1962 قرّر المشرع الجزائري تمديد العمل بالقوانين الفرنسية السائدة باستثناء ما يتعارض مع السيادة الوطنية أو يشمل قواعد التمييز العنصري، وبذلك تمّ الاستمرار في العمل بالمرسوم الفرنسي الصادر في 31/12/1958 الذي دخل حيّز التطبيق في الجزائر بموجب المرسوم رقم 60-650 الصادر بتاريخ 06/09/1960 وصدر الأمر رقم 74-26 المؤرخ في 20/02/1974 ([1]) أين كان مخطط التعمير الأصلي الخاص بعمران البلدية يضعه المجلس الشعبي البلدي ويصادق عليه الوزير المكلّف بالبناء حسب المادة 156 من الأمر رقم 67-24 المؤرخ في 18/01/1967 ([2]) ومخطط التعمير المؤقت PUP كأدوات عمرانية تظهر في شكل مخططات إعلانية ([3])،  والتي تم التخلّي عنها بسبب الفشل في تطبيقها لعدّة أسباب أهمها ضعف أجهزة تسيير المدن والنسيج العمراني بصفة عامة من جهة، وإطغاء القرار السياسي على النظرة التقنية والمعمارية على المستوى المحلي من جهة أخرى([4])،وبعدها صدر الأمر 75-67 المؤرخ في 26/09/1975 ([5]) وهو أوّل نص تشريعي يصدر عن الدولة الجزائرية في مجال التهيئة والتعمير.

وقد اعتمد المشرع الجزائري سياسة التوازن الجهوي الذي نصّت عليه المادة 18 من دستور 1976حيث تقضي بأنّه: "تشكل الثورة الثقافية والثورة الزراعية والثورة الصناعية والتوازن الجهوي والأساليب الاشتراكية للتسيير المحاور الأساسية لبناء الاشتراكية" وفصّلت فيه المادة 22 حيث أقرّت أنه: "سياسة التوازن الجهوي اختيار أساسي وهي ترمي إلى محور الفوارق الجهوية وبالدرجة الأولى إلى ترقية البلديات الأكثر حرمانا من أجل تأمين تنمية وطنية منسجمة".

فالتوازن الجهوي هو مبدأ ثابت في السياسة التنموية الجزائرية يهدف بالأساس إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بين كافة أفراد الشعب، وذلك عن طريق توزيع الدخل الوطني وتوفير فرص الترقية بكيفية متساوية للجميع والقضاء على الفوارق الجهوية الصارخة بين مختلف جهات الوطن، وبالخصوص بين مناطق الشمال والهضاب العليا والجنوب. وقد شهدت هذه المرحلة ظهور المخطط العمراني الموجه PUD بموجب الأمر رقم 73-29 المؤرخ في 08/07/1973، ثم صدور المنشور الوزاري رقم 1181/PU/2174 المؤرخ في 16/10/1974 الذي أسّس رسميا المخطط العمراني الموجّه وحدّد إجراءات إعداده والمصادقة عليه ([6]).

تميّزت هذه المرحلة بأن الإصلاحات تركّزت على المناطق الساحلية والتلية وبالتالي دعّمت وبصورة غير مباشرة التوجّه العمراني والاقتصادي الموروث عن الفترة الاستعمارية وزادت في حدّة الفوارق بين المناطق الشمالية والجنوبية للبلاد وعمّقت الفجوة، وهذا يدل على غياب إستراتيجية واضحة المعالم للتهيئة العمرانية في الجزائر آنذاك وأنّ كل الإجراءات المتخذة كانت تتسم بغياب خطة متكاملة للتهيئة العمرانية ومن سلبيات هذه الإجراءات كذلك أنّها مسّت المدن الكبرى فقط واستهلكت أراضي زراعية خصبة لتوقيع الأقطاب الصناعية مثل سهول متيجة، عنابة، وهران، وقد فشلت هذه الأقطاب في لعب الدور المنوط بها، فعوض أن تحقق التنمية في محيطها تحوّلت إلى مناطق استقطاب وجلب للسكان خاصة النازحين من المناطق الداخلية وزيادة تضخم المدن وانتشار البيوت القصديرية على حواف المدن والتي تحوّلت فيما بعد إلى بؤر للفقر والحرمان والتهميش.

الفرع الثاني: مرحلة سياسة التهيئة والتعمير من 1978 إلى 1990

نتيجة السلبيات السابقة ومع بداية الثمانينات زاد الوعي بالمخاطر التي أنتجتها الإختلالات الموجودة بين أرجاء الوطن، فظهرت التهيئة العمرانية للمرة الأولى ضمن صلاحيات دائرة وزارية، وذلك بإحداث فرارة التخطيط والتهيئة العمرانية سنة 1980، وتمّ إنشاء المركز الوطني للدراسات والبحث العمراني وفقا للمرسوم رقم 80-276 المؤرخ في 12/11/1980 قصد تأطير ووضع سياسات للتهيئة والتعمير من شأنها التغيير من الأوضاع المجالية السائدة آنذاك، وقد تزامن هذا مع ووضع المخطط الخماسي الأول (1980-1985) الذي يهدف إلى تنمية المناطق الداخلية للبلاد وكذا إعادة هيكلة القطاع الصناعي.

وفي سنة 1981 تأسست الوكالة الوطنية للتهيئة العمرانية وتمّ تعديل قانوني الولاية والبلدية بموجب الأمر رقم 81-09 المؤرخ في 04/07/1981 وتضمن التعديل صلاحيات الجماعات المحلية وتزويدها بأدوات خاصة للتهيئة متمثلة في كل من المخطط الولائي للتهيئة PAW ([7]) والمخطط البلدي للتهيئة PAC وهذا من أجل تخطيط النمو على مستوى كل الوحدات الإدارية وضبط عمليات التهيئة على المستوى المحلي للولاية والبلدية. لكن هذه المخططات فشلت في علاج المسائل المتعلقة بالبناء أمام ظاهرة النمو الديمغرافي الكبير والتوسع العمراني الضخم والبناء الفوضوي اللامسؤول فتدخّل المشرع الجزائري وأصدر القانون رقم 82-02 المؤرخ في 06/02/1982 المتعلق برخصة البناء ورخصة التجزئة ([8]) والذي ألغى جميع الأحكام القانونية المخالفة له، والملاحظ أنّ هذا القانون جاء لظروف ملحّة وهي تنظيم مسألة جزئية في مجال التعمير والتحكم نسبيا في الوعاء العقاري.

وصدر المرسوم رقم 82-304 المؤرخ في 09/10/1982 المحدّد لكيفيات تطبيق القانون رقم 82-02 ([9]) وكذا القانون رقم 83-03 المؤرخ في 05/02/1983 المتعلق بحماية البيئة ([10]).

ثم بعدها حدّد المشرع الجزائري انتقاليا قواعد شغل الأراضي قصد المحافظة عليها وحمايتها بموجب الأمر رقم 85-01 المؤرخ في 13/08/1985 الذي حدّد قواعد وأحكام انتقالية ([11]) وريثما تنسجم القواعد الإدارية والتسيير العقاري في مجال التعمير والتهيئة العمرانية.

ليصدر في نفس التاريخ المرسوم رقم 85-211 المؤرخ في 13/08/1985 المحدّد لكيفيات تسليم رخصة البناء ورخصة تجزئة الأراضي المخصّصة للبناء، والمرسوم رقم 85-212 المؤرخ في 13/08/1985 المحدّد لشروط تسوية أوضاع الذين يشغلون فعلا أراضي عمومية أو خاصة كانت محل عقود و/أو مباني غير مطابقة للقواعد المعمول بها في إطار تسوية البناءات الفوضوية لتلبية التعليمة الوزارية المشتركة المؤرخة في 13 أوت 1985 المتعلقة بمعالجة البناء غير المشروع ليظهر اتجاه المشرع الجزائري إلى قطاع البناء بشكل أكثر شمولا ممّا كان عليه في القانون رقم 82-02.

وأخير صدر القانون 87-03 المؤرخ في 27/01/1987 المتعلق بالتهيئة العمرانية[12] الذي حدّد الإطار التطبيقي للسياسة الوطنية للتهيئة العمرانية الواردة في الميثاق الوطني، وبموجب هذا القانون تشكل التهيئة العمرانية الإطار الاستدلالي للحفاظ على المجال الجغرافي وحمايته واستعماله وتقيم علاقة بين نشاطات القطاعات المختلفة للاقتصاد الوطني وتهدف التهيئة العمرانية بموجب هذا القانون إلى الاستعمال الأمثل للمجال العمراني الوطني من خلال الهيكلة والتوزيع المحكمة للأنشطة الاقتصادية والموارد البشرية والاستغلال العقلاني للموارد الطبيعية.

وقد جاء هذا القانون بأداتين جديدتين هما المخطط الوطني للتهيئة العمرانية SNAT([13]) والمخطط الجهوي للتهيئة العمرانية SRAT([14])وقد كلّفت الوكالة الوطنية للتهيئة العمرانية التي أسّست سنة 1981 بإعداد هذين المخططين.

والملاحظ أن هذا القانون رغم أنه حاول وضع وتنظيم سياسة جديدة للتعمير إلاّ أنّه فشل في تنظيم عملية البناء في ظل تزايد عدد السكان والانتشار الواسع للأحياء القصديرية المخالفة لأحكام هذا القانون لعدم وجود الرادع القوي للالتزام بتطبيق أحكام القانون في ظل غياب المراقبة لأعمال البناء والمخالفات وكذا إشكاليات تنفيذ وتطبيق مخططات التعمير، ممّا استدعى وجود قانون أكثر فعالية يتماشى مع متطلبات البناء والتعمير وتجلّى هذا في صدور القانون رقم 90-29 المتعلق بالتهيئة والتعمير.



[1]- الأمر رقم 74-26 المؤرخ في 20/02/1974 المتعلق بالاحتياطات العقارية لصالح البلديات، ج.ر عدد 19.

[2]-  الأمر رقم 67-24 المؤرخ في 18/01/1967 المتضمن القانون البلدي ج.ر عدد 06.

[3]- Chaabane Ben Akzouh, de la loi d’orientation foncière du droit de l’urbanisme, Revue IDARA, N° 22, 2001, Alger, P05.

[4]- ديرم عائدة، الرقابة الإدارية على أشغال التهيئة والتعمير في التشريع الجزائري، دار قانة، باتنة، 2011، ص 13.

[5]- الأمر 75-67 المؤرخ في 26/09/1975 المتعلق برخصة البناء ورخصة التجزئة لأجل البناء ج.ر عدد 83.

[6]- خصّص المخطط العمراني الموجّه للمدن الكبرى والمتوسطة وهو يرسم الحدود العمرانية للمدينة ويهدف إلى توضيح مجالات التوسع العمراني ويحدّد استخدامات الأرض مستقبلا حسب الاحتياجات الضرورية للتجمع السكاني ويعد هذا المخطط العمراني الموجّه أوّل مخطط وأداة قانونية لتنظيم المجال على مستوى كل بلدية مدته الزمنية من 10 إلى 15 سنة ويصبح بمثابة قانون عمراني بمجرّد المصادقة عليه من طرف الوزراة الوصية.

[7]- مخطط التهيئة الولائيPAW باعتباره الإطار المرجعي للتنمية المحلية، فإن الولاية تعتبر إطار التماسك الطبيعي الذي يساعد على تنمية الأقاليم حسب التوجهات المحدّدة في مخطط SNAT وخطط SRAT ويهدف إلى توضيح التوجيهات في المخطط الجهوي للتهيئة العمرانية أما مخطط التهيئة البلدي PAC باعتبار أن البلديات مجالات قاعدية فهي المجالات التي ينبغي أن تنفذ وتتجسّد فيها الأساسيات التي تحملها إستراتيجية التهيئة العمرانية.

[8]- القانون رقم 82-02 المؤرخ في 06/02/1982 المتعلق برخصة البناء ورخصة التجزئة ج.ر عدد 06 (ملغى)

[9]- المرسوم رقم 82-304 المؤرخ في 09/10/1982 يحدد كيفيات تطبيق القانون رقم 82-02، ج.ر عدد 41.

[10]- القانون رقم 83-03 المؤرخ في 05/02/1983 المتعلق بحماية البيئة، ج.ر عدد 6 (ملغى)

[11]- الأمر رقم 85-01 المؤرخ في 13/08/1985 يحدّد انتقاليا قواعد شغل الأراضي قصد المحافظة عليها، ج.ر عدد 34.

[12]- القانون رقم 87-03 المؤرخ في 27/01/1987 المتعلق بالتهيئة العمرانية، ج.ر عدد 05 (ملغى).

[13]- وهو مخطط يرسم الخطوط العريضة للسياسة الوطنية للتهيئة والتعمير من أجل إيجاز المشاريع الكبرى ذات البعد الوطني ويحدّد توجيهات أساسية في مجال تنظيم التراب الوطني وتنمية وتحديد الإستراتيجية العامة لعملية شغل التراب الوطني كتحديد أماكن المناجم والحقول البترولية وتفرض المشاريع نفها على المخططات الأخرى جهوية كانت أو ولائية

[14]- يعتبر أداة إستراتيجية لتنفيذ المخطط الوطني للتهيئة العمرانية يتولى شرح وتوضيح التوجيهات والمبادئ المخطط لها في المخطط الوطني، ويبين كل مخطط جهوي تفاصيل الصور المستقبلية للإقليم أو الجهات وهذا حسب المعطيات الجهوية لكل منطقة حيث يجمع عدة ولايات ذات طابع اقتصادي واجتماعي موحّد لهدف تثمين الإقليم الجهوي وتفرض المشاريع نفسها على مخططات ذات البعد الولائي والمحلي