3. جسر الهوة

ظهرت البنائية في العلاقات الدولية في نهاية الثمانينات كانتقاد للاتجاهات التي كانت سائدة في العلاقات الدولية، كان Nicholas Onuf أول من استعمل المصطلح في كتابه world of our making) ) حيث ركز على انتقاد أعمال الواقعية البنيوية " .

و أيضا مع المقال المرجع لـ Alexandr Wendt الملقب بأبي البنائية ، الصادر سنة 1992 و المعنون بـ ( Anarchy Is What States Make of It: The Social Construction of Power Politics) .

حيث تزامن ظهورها مع نهاية الحرب الباردة، التي شكلت عقبة فشل أمام العديد من النظريات وخاصة النظرية الواقعية باتجاهيها، في التنبؤ بنهاية هذه الحرب بطريقة سلمية،كما ساهمت هذه الحرب في إضفاء الشرعية على النظريات البنائية لأن الواقعية والليبرالية أخفقتا في استباق هذا الحدث كما أنهما وجدتا صعوبة كبيرة في تفسيره، بينما تمتلك البنائية تفسيرا له، خصوصا ما يتعلق بالثورة التي أحدثها ميخائيل غورباتشيف في السياسة الخارجية السوفيتية باعتناقه أفكارا جديدة "كالأمن المشترك" .

زيادة على ذلك، وبالنظر إلى التحدي الذي تتعرض له الضوابط التقليدية بمجرد تحلل الحدود، وبروز القضايا المرتبطة بالهوية، فإنه ليس من المفاجئ أن نجد الباحثين قد التجؤوا إلى مقاربات تدفع بمثل هذه القضايا إلى الواجهة وتجعل منها محور الاهتمام.

إن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي بروز قضايا جديدة على مستوى أجندة السياسة العالمية وخاصة صعود البعد الثقافي في العلاقات الدولية وتزايد الصيحات الدولية حول تنامي دور هذا البعد ( القيمي)، ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتشكل الطريقة التي تنظر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك.

كذلك بروز قضايا الأقليات، والإرهاب والتنظيمات الإرهابية، أو مايعرف بالفاعل الخفي، وتركيزه على قوة الخطاب الموجه إلى المجتمع المدني سواء الوطني أو الدولي، واللعب على مستوى النعرات الذاتية والانتماءات الثقافية للأفراد، بالإضافة إلى تزايد التركيز على الشعور بالهويات في عالم مابعد الحرب الباردة، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور النزاعات العرقية التي كانت سمتها الأساسية دور الهويات داخلها وشعورها بضرورة ممارسةدورها في السياسة العالمية كفاعل مستقل، وبالتالي إعطاء الصيغة الجديدة للتفاعل العالمي داخل النظام الدولي،والذي يشهد بروز العديد من الفواعل.

عموما النظريات البنائية : متعددة حتى داخل المنظور الواحد، و يوجد هناك أكثر من اتجاه داخل هذا "البرادايم".و يبدو أن العامل الابستومولوجي هو المؤشر الرئيسي للتمييز بين هذه الاتجاهات المختلفة. و هنا قد نجد البنائيين الوضعيين أو كما يسمون " البنائيون الحداثيون Constructuvist Modernists" أمثال Alexandr Wendt ، و "البنائيين النيوكلاسيين"، أمثال F. Kratochwill ، N.Oneuf، E.Adler إلى جانب Peter Katzenstein . و معظم هؤلاء يميلون إلى تبني ابستومولوجية وضعية. أما "البنائيون بعد الحداثيون" أو "بعد-البنيويون"، أمثال: Rechard Ashley، David Campbell، J. Der Darian إلى جانب R B. J Walker فهم يتبنون ابستومولوجية بعد وضعية .

لكن عموما ما يجمع هؤلاء المنظرين هو أن كل من الاتجاهين المذكورين داخل المنظور البنائي كونهما جاءا كرد فعل على الإتجاه السائد (الواقعي، الليبرالي) حيث يتحدث الجميع- داخل المنظور البنائي- عن المعايير، والهوية، والعوامل المثالية. وكما ذكر "جيفرى شيكل" ، فإن معارك الحركة البنائية مع النظريات السائدة ليست معرفية و لكنها وجودية .

في الوقت الذي تميل فيه كل من الواقعية والليبرالية إلى التركيز على العوامل المادية فإن المقاربات البنائية تركز على تأثير الأفكار، وبدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق والافتراض أنها تعمل من أجل بقائها، يرى البنائيون أن المصلحة والهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية (تاريخية) كما يولون أهمية كبيرة للخطاب السائد في المجتمع، لأن الخطاب يعكس ويًشكلً في الوقت ذاته المعتقدات والمصالح، ويؤسس أيضا لسلوكيات تحظى بالقبول. إذن، فالبنائية تهتم أساسا بمصدر التغير أو التحول. وهذه المقاربة حلت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية. " .

بالإضافة لهذا فعجز كل من الواقعية و اللبرالية على تقديم تفسير مقبول فتح المجال للبنائية كمنظور بديل لتفسير التحولات في هذه المرحلة.

ومن وجهة نظر بنائية، فإن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي كيفية إدراك المجموعات المختلفة لهوياتها ومصالحها. ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتشكل الطريقة التي تنظر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك. ومن خلال ما سبق، يتضح أن معرفة ما إذا كان الأوروبيون ينظرون إلى أنفسهم بمنظور وطني أم بمنظور قاري، ينطوي على أهمية تحليلية كبيرة، وينسحب الأمر ذاته عما إذا كان الألمان واليابانيون سيعملون على إعادة النظر في ماضيهم، بحيث يتبنون أدوارا خارجية فاعلة، وعما إذا كانت الو.م.أ. ستعتنق أو سترفض هوية تقضي بأن يلعب الأمريكيون دور دركي العالم. " . ومهما يكن، فإن الموضوع المشترك بين كل هذه الاتجاهات يتمثل في قدرة الخطاب على صياغة الكيفية التي يحدد بها الفاعلون هويتهم ومصالحهم وبالنتيجة يقومون بتعديل سلوكاتهم. " .

إذا يبدو أن البنائية بهذا البناء النظري المقدم حاولت أن تكون بمثابة حلقة وصل أو Bridge Gaps تملأ الفراغ الناجم عن الانتقال من مرحلة الفلسفات الوضعية ممثلة في النظريات العقلانية إلى مرحلة ما بعد-الوضعية ممثلة في المقاربات التهديمية Deconstructuvism أو التأمالية Reflectivism (النظريات النقدية و ما بعد حداثية أو ما يطلق عليها البعض المقاربات الراديكالية كونها اعتمدت على قطيعة مع مستويات البحوث الوضعية، وتبرز هذه السمة أكثر بالنسبة البنائيون الحداثيون Constructuvist Modernists" خاصة مع كتابات Alexandr Wendt و بالخصوص على مستوى منهج البحث لديه المعتمد على المعطيات التجريبية Emperical Data كما سنوضح ذلك لاحقا.

لذا فالبنائية هي محاولة تركيب أكثر من أنها شكلت تحدي أو انتقاد لأبحاث neo-neo synthesis ( الواقية الجديدة والليبرالية الجديدة)

لذا يعتقد البعض أن الأهمية النظرية للبرنامج البنـائي تكمن في مــواقفه الإبستمــولوجية و الأنطولوجية و المعيارية الوسطية ، إذ تمثل البنائية تصورا وسطيا.