الأرضيات الفلسفية الثلاث لابستيمولوجيا علم السياسة

Site: Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2
Cours: إبستيمولوجيا علم السياسة
Livre: الأرضيات الفلسفية الثلاث لابستيمولوجيا علم السياسة
Imprimé par: Visiteur anonyme
Date: Friday 22 November 2024, 18:34

Description

يتضمن هذا الكتاب أهم مضامين المحاضرة

1. الوضعية في العلوم السياسية

     في القرن الرابع عشر والخامس عشر كانت المعرفة تبنى على أساس لاهوتي، ميتافيزيقي، حيث كان رجل الدين في أوروبا، يدعي أن الله يخبره بوسائل الوصول إلى المعرفة، مثل أن نقول أسباب نزول المطر بالمرجعية الميتافيزيقيية عند رجل الدين الأوروبي آنذاك يتم تفسيرها على أنها تعبير عن رضا الرب أو سخطه، لكن يبدو أن شغف العلماء بوضع حد لتلك القرون من الظلام العلمي، فكرو في تغيير المرجعية العلمية اللاهوتية الميتافيزيقية (الذاتية) في الوصول إلى المعرفة إلى مرجعية يضعونها كعلماء (ومنه جاءت كلمة وضعية أي وضع البشر العلماء وليس السماء) بشكل موضوعي، أي البحث عن الأسباب الحقيقية الموضوعية الخالية من الذاتية في تفسير الظواهر الطبيعية. هذا المنطلق الفلسفي العلمي جعل العلماء ينخرطون في هذا المنحى الوضعي الجديد، وتأسيس العلوم الوضعية القائمة على قواعد ونظريات يضعها العلماء البشر بشكل موضوعي وليس بالاعتماد على نظريات لاهوتية ظلامية.

    لكن يبدو أن علماء السياسة انتظروا إلى غاية القرن العشرين، وفي محاولة منهم لانتزاع الاعتراف بعلمية علم السياسة، حاولوا استنساخ المرجعية الوضعية في العلوم الطبيعية نحو علم السياسة، ونقلو تلك الافتراضات التي تقول:

-       الظاهرة محل دراسة تتميز بالثبات ويمكن دراستها بأدوات بحث علمية.

-       يمكن توظيف نظريات وأدوات بحث علمي تتميز بقدرة تفسير مثل ما هو في العلوم الطبيعية بل يمكن حتى الوصول إلى نتائج دقيقة.

-       مثل العلوم الطبيعية، هناك أسباب تؤدي إلى نتائج، وبالتالي يمكن الاستعانة بالتجريب على الظواهر السياسية.

الوضعية في علم السياسة عرفت تيارين أساسيين، 1/ الوضعية النوعية  2/ الوضعية الكمية التجريبية.

1-              الوضعية النوعية qualitative positivisme ، تمثل التيار الأول الذي انخرط في أبحاث علم السياسة، مثل  المدرسة القانونية والنظرية المثالية، الواقعية الكلاسيكية، يعتقد هذا التيار أن علم السياسة علم وصفي ملاحظاتي observational، لذلك جاءت كتاباتهم ومؤلفاتهم دراسات قانونية، وصفية، تتعامل مع ماهو كائن  وإعطاء قراءة للوضع القائم.

2-              الوضعية  الكمية التجريبية quantative postivism (experimentalist)، جاء هذا التيار كانتقاد للتيار النوعي، حيث يجادل أن أبحاث علم السياسة في التيار الوصفي جاءت غير دقيقة النتائج وكانت وصفية سردية، غلب عليها طابع قانوني. ويجادلون بأن علم السياسة بحاجة إلى شحنة علمية، تتمثل في تطبيق المناهج التجريبية، حقيقة لم يكن التيار التجريبي متطرف إلى ذلك الحد من التجريب المحض، لكنه حاول تكييف التجريب على الظواهر الاجتماعية. يمثل هذا التيار بشكل بارز المدرسة السلوكية، وإلى حد ما الواقعية الكلاسيكية، فقد إنخرط عدد مهم من علماء الواقعية الكلاسيكية في النهج التجريبي الكمي. لذلك عرفت تلك الفترة تغير في بنية السوق العلمية، من خلال غلبة المؤلفات، الكتب، والأبحاث الكمية، التجريبية.

ما بعد الوضعية في العلوم السياسية  post-positivisme in political science

     واصل التيار الوضعي هيمنته على حقل علم السياسة إلى غاية نهاية الثمانينات، وقد خلف كم كبير من الكتب، المقالات، المؤلفات، مجلات، أبحاث... التي تتبنى منطق وضعي في التحليل. إن هذا التراكم المعرفي الوضعي أعطى إنطباعا بصلاحية  (الأصلح) هذا التيار في علم السياسة.

     لكن مع نهاية الثمانينات مجموعة من العلماء بدو أكثر تشكيكا في صلاحية الفلسفة الوضعية العلمية في علم السياسة، وطرحو التساؤل: هل هناك إنفصال بين الفاعل والبنية؟ هل يؤدي الخطاب أدوارا تشكيلية في البنية؟ هل استطاع علم السياسة أن يكتسب هوية علمية؟

إن هذه الأسئلة أحدثت إنفصالا تاما بين الوضعيين وما بعد الوضعيين، لقد أصبحنا أمام نظريات في علم السياسة تتحدث لغة مختلفة تماما، تفتقد لأرضية حوار محايدة لتحكيم النقاش بينهما. إنه نوع من الشرخ الابستيمولوجي والأنطولوجي.

2. ما بعد الوضعية

    ما المقصود بــ ما بعد الوضعية؟ نظرة فلسفية للعلم تعتقد بأن العلوم الإجتماعية هي حقل خاص متميز عن العلوم الطبيعية. يعتقد هذا التيار أن الظواهر الإجتماعية هي غيرها في العلوم الطبيعية، يجادلون بأن الظواهر الإجتماعية هي ظواهر تشكلية يشكلها الفاعل الإنسان (المتغير) وهو يتفاعل مع الظاهرة - البنية – وهي متغيرة بشكل مستمر حسب عناصر الخطاب السائد، إذا قلنا بنية فوضوية هذا يعني أن الخطاب السائد يحمل لغة تكرس الفوضى، وإذا قلنا بنية تعاونية هذا يشير إلى خطاب تعاوني.

    إنخرطت كل من مدرسة باريس (ميشال فوكو، جاك دريدا...) والمدرسة البريطانية (نيكولا أونوف، ألكسندر وندت، مارثا فاينمور ..) وآخرون في الدفاع عن نظرياتهم في علم السياسة.

إن نظرية ما بعد السلوكية نشأت في مرحلة جنينية للمدرسة السلوكية ثم نمت وتطورت,وأصبحت مصدر الهام لنقد السلوكية,وكشف ثغراتها,ومواطن قصورها حتى ادا ما بدا الحديث عن وجوب تجاوز السلوكية والبحث عما بعدها.أثير الانتباه نحو هده النظريات التي كانت في بدايتها ضد السلوكية لتصبح وريثة لها.ومن ثم أطلق عليها ما بعد السلوكية,لدلك فان فان عددا من هده النظريات كان مستخدما جنبا إلى جنب مع نظريات المرحلة السلوكية.ولكن انطلاقا من نموذج معرفي آخر وتأسيسا على منظور مختلف,فهده النظريات لم تكن متلبسة تماما بتحولات الوضعية المنطقية وتجلياتها في المدرسة السلوكية.فإلى أي احد استطاعت مدرسة ما بعد السلوكية تجاوز ثغرات المدارس السابقة؟وما هي أوجه التشابه والاختلاف ما بين المدرسة ما بعد السلوكية وغيرها من المدارس السابقة؟
وفي إطار معالجتنا لمدرسة ما بعد السلوكية ولاهم الأفكار التي جاعت بها سنتناول الموضوع على الشكل التالي:

المبحث الاول:مفهوم مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
المطلب الأول :مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
المطلب الثاني :العوامل المساهمة في ظهور مدرسة ما بعد السلوكية
المبحث الثاني :أهم أفكار مدرسة ما بعد السلوكية في تحليل العلاقات الدولية
المطلب الأول :أوجه التشابه والاختلاف بين المدرسة ما بعد السلوكية وبين المدرسة الواقعية وبين السلوكية
المطلب الثاني :انسجام أفكار ما بعد السلوكية مع النظرية المثالية
المبحث الأول:مفهوم مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
المطلب الأول:مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
إدا كانت مرحلة الستينات شهدت ظهور يسمى بالنظريات العلمية او النظريات الجزئية,واستفادة علم العلاقات الدولية من الفروع العلمية الأخرى في دراسة بعض جوانب العلاقات الدولية,فان تطور وابتداع مناهج بحث جديدة جعل من علم العلاقات الدولية يحتل مكانة مرموقة كحقل مستقل من حقول الدراسة والمعرفة.لدلك فان أهم سمة لهده المرحلة الجديدة من مراحل تطور علم العلاقات الدولية من ناحية وتحديد مجال وطبيعة العلاقات الدولية بشكل أكثر وضوحا من ناحية أخرى.
كما تتميز مرحلة ما بعد السلوكية بقيام تنظير في العلاقات الدولية يهتم ببناء النظريات وجعلها أكثر قدرة على التفسير والتنبؤ والتمييز بين الظواهر المحددة والربط بين مستويات التحليل الكلية والجزئية.
والى جانب دلك فمرحلة ما بعد السلوكية تتميز أيضا نتيجة لتحولات السبعينات,وبأنها تعطي اهتماما اكبر للمتغيرات الاقتصادية وتأثيرها على العلاقات الدولية,بحيث شهدت هده المرحلة اتساع نطاق دراسات العلاقات الدولية لتتضمن موضوعات اقتصادية لم تكن من صميم الاهتمام التقليدي لهدا الفرع من العلوم السياسي,وعلى نوع يفرض تخطي الحدود الرسمية بين علمي السياسة والاقتصاد.وهكذا أبرزت أهمية الموضوعات والقضايا الاقتصادية في العلاقات الدولية,سواء على صعيد العلاقات بين الدول الغربيةاو على صعيد العلاقات بين الشرق والغرب,أو على صعيد العلاقات بين الشمال والجنوب.
أما فيما يخص منظري مدرسة ما بعد السلوكية الدين هم أنفسهم دعاة المدرسة السلوكية فنجد على رأسهم( رتشارد سنا يدر) و(ديفيد أستون),هدا الاخيرالدي سبق (رتشاردسنايدر) في التمهيد للثورة العلمية التي اسماها بالثورة ما بعد السلوكية,كما انه يعدمن الدين خاضوا ثورة ضد السلوكية والتي تتنكر للقيم والاعتبارات الأخلاقية بحجة الموضوعية العلمية,وفي هدا الاطاريرى( ايستون) إن البحث السياسي لايمكن إن يكون مجرد من القيم ويدعو إلى عكس دلك,اد يعتبر مثلا ان الباحثين والاكادميين عامة عليهم مسؤولية تاريخية خاصة لحماية قيم الحضارة الانسانيةوداك بوضع المعرفة في خلاصة هدا القيم,وبدلك تتقاطع النظرية ما بعد السلوكية مع الفكر التقليدي للنظرية السياسية الذي عبر عنها( ليوشتاوس) في أواخر الخمسينات عندما اعتبر إن الهدف الأساسي للبحث السياسي وهو الحصول على المعرفة الضرورية لبناء مجتمع العدل والحق.
وقد عدد( سيوم براون) و(ريتشارد )القيم والأهداف التي تهم الإنسانية والتي يفترض العمل على تحقيقها وهي التغلب على العنف للتوصل إلى إلغاء النزاعات والحروب وزيادة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي[1]
المطلب الثاني: العوامل التي اسهمت في ظهور المدرسة ما بعدالسلوكية

لقد تزامن ظهور مدرسة ما بعد السلوكية مع فترة الستينات ودلك بصدد الوقوف عند الثغرات التي اغفلتها المدرسة السلوكية لكي يكمل التحليل السلوكي للعلاقات الدولية وتزامن ظهورها مع بروز المحاورات الكبرى بين السلوكيين والتقليديين.
فثمة اتجاهات علمية لدراسة العلاقات من جوانب مختلفة,فلم تعد هده الدراسة وحدة مترابطة او وحدة متكاملة من الناحية الموضوعية فهناك تفريغ لهذه الدراسة امام تعقد العلاقات الدولية وتشعب موضوعاتها فالمهمة الاساسية للمدرسةما بعد السلوكية تكمن في محاولتها كسرحواجز الصمت التي ارستها المدرسة السلوكية وتوجيه العلوم السياسية نحو معالجة وتلبية الحاجيات الضرورية للبشرية في فترات الازمات والحروب1.و صيانة قيم الحضارة الانسانية والمحافظة عليها بوضع المعرفة في خدمة سلم القيم ففي ظل الاوضاع الاولية المتطورة سياسيا واقتصاديا منذ نهاية الستينات انتقل الاهتمام بدراسة المتغيرات الاقتصادية لدى الاتجاهات الحديثة في دراسة العلاقات الدولية من مجرد الاهتمام بهافقط الى
مستوى اخر وهومستوى النظر اليها كقوى مؤثرة في تطور النظام الدولي المعاصر,الذي يتسم بتزايد الروابط,وبدرجة عالية من الاعتماد اللامتكافئ آو التبعية بين دول الشمال ودول الجنوب.2
وهكذا أصبح المتخصصون في العلاقات الدولية يتناولون بالدراسة المشاكل والقضايا الاقتصادية العالمية مثل, اتفاقات التجارة العالمية, الإصلاح النقدي العالمي ,المساعدات,المديونية,ونقل التكنولوجيا وغيرها1.مما أكد الارتباط بين دراسة العلاقات الدولية والمتغيرات الاقتصادية التي أصبحت لحيويتها تثير الاهتمام مثلها مثل المشاكل السياسية والإستراتيجية.
إن التفاعل الموجود بين المتغيرات السياسية والاقتصادية في الدراسات الحديثة, يعكس حجم الاهتمام المتزايد بالاعتماد المتبادل الدولي(2.)الذي أصبح مصطلحا شائع الاستعمال ألان لوصف تطور النظام الدولي.فالمحيط الدولي المعاصر يشهد تزايد الروابط بين الإفراد والجماعات في الدول المختلفة,وفيما بين الحكومات وبين الأوضاع الداخلية والخارجية,وفيما بين الموضوعات السياسية والاقتصادية على نحول لم يعرفه التاريخ من قبل[2]
المبحث الثاني :أهم أفكار مدرسة ما بعد السلوكية في تحليل العلاقات الدولية
المطلب الأول :أوجه التشابه والاختلاف بين المدرسة ما بعد السلوكية وبين المدرسة الواقعية وبين السلوكية
ان مدرسة ما بعد السلوكية تنتقد السلوكية الكلاسيكيةفي انها تهتم فقط بدراسة وفهم وصف الظاهرة السياسية دون تجاوزهده الحدود الى إيجاد الحلول للمشاكل التي تعاني منها الانسانية وازمات العلاقات الدولية.ويقول (ديفيد ايستون)في هدا الصدد:"ان مدرسة ما بعد السلوكية تكمن في محاولتها كسر حواجز الصمت التي اقامتها المدرسة السلوكية ودفع العلوم السياسية لمعالجة الحالات الحقيقيةللبشرية في فترات الأزمات".
اما فيما يتعلق بنقد ما بعد السلوكية للمدرسة الواقعية فيتجلى من خلال تركيز هده الاخيرة على فكرة ان الدولة فاعل وحيد في العلاقات الدولية ,وهدا غيرصحيح بالنسبة لها وهو تحليل تعوزه الدقة.فبالنظر الى واقع العلاقات الدولية نجد ان هناك فواعل اخرى مؤثرة وموازية للدولة.وتؤدي ادوارا في بعض الاحيان اكثر تاثيرا من الدولة نفسها1 .
ومن ابرز الكتاب في هدا المجال( روبرت كوهين وجوزيف كاي وسيوم براون)وقد اعتبر هؤلاء انه مع تزايد الترابط الدولي والتداخل والاختراقات المتبادلة صار من الصعب ان لم يكن من شبه المستحيل اعتبالر الدولة تعمل بوحي المصلحة القومية ,وبالتالي اعتبر و ان هدا المفهوم الاخير لم يعد صالحا لتفسير سلوكية الدولة نتيجة لازدياد المصالح "غير الدولة"وفوق الدولة"وتشعبها لان مفهوم المصلحة القومية صار غامضا ,وباختصار فالنظرية ما بعد السلوكية تنتقد الواقعية لسببين 2 : اولهما تحليلي اكاديمي :وهو ان الواقعية لا تاخد بعين الاعتبار تاثير للترابطات عبر الدول والترابطات الكونية والاعتماد المتبادل على السياسة العالمية.
ثانيهما :ان الواقعية تركز على قضايا الأمن ولا تحاول إيجاد سياسات تساعد البشرية على التغلب على الأزمات الكونية التي تهدده1 .
المطلب الثالث:انسجام ما بعد السلوكية مع النظرية المثالية
جاءت النظرية مابعد السلوكية لتعيد التوازن في نظرية العلاقات الدولية وتلطف من تطرف كل من النظرية الواقعية والنظرية السلوكية في تجريدهما لنظرية العلاقات الدولية من الاعتبارات الإنسانية,فهي بدلك تلتقي مع النظرية المثالية في المسلمة الرئيسية التي تقول بان هناك انسجام في المصالح بين الأفراد وبين المجتمع الكوني وأيضا بين المصلحة القومية والمصلحة العالمية في شؤون التنمية والأمن والحفاظ على المصادر"فوق قومية"2لاداراة النزاعات التي تنشا بين الدول والمساهمة في حلها وكذلك لإدارة واستغلال المصادر الطبيعية وتامين توزيعها بشكل عادل بين مختلف الدول وإعطاء شرعية للحاجة القصوى لإقامة مثل هده المؤسساتفيما تشترك هده المدرسة مع المثالية في تفاؤلها من حيث الإيمان بإمكانية إقامة حكومة عالمية ,فهي تمثل نوعا م إعادة إحياء للمدرسة المثالية .
خاتمة
من خلال كل ما سبق نستنتج ان الاتجاه السلوكي بشقيه السلوكية وما بعد السلوكية قدم عدة إسهامات على المستويات التنظيرية,الفكرية والمفهوماتية للعلاقات الدوليةفهل هده الإسهامات الغنية للمدرسة ما بعد السلوكية تؤهلها لمسايرة التطورات والمتغيرات الدولية؟,أم أنها غير قادرة على دلك؟وهل يشكل ظهور مدارس أخرى جديدة نهاية لمدرسة ما بعد السلوكية؟

3. جسر الهوة

ظهرت البنائية في العلاقات الدولية في نهاية الثمانينات كانتقاد للاتجاهات التي كانت سائدة في العلاقات الدولية، كان Nicholas Onuf أول من استعمل المصطلح في كتابه world of our making) ) حيث ركز على انتقاد أعمال الواقعية البنيوية " .

و أيضا مع المقال المرجع لـ Alexandr Wendt الملقب بأبي البنائية ، الصادر سنة 1992 و المعنون بـ ( Anarchy Is What States Make of It: The Social Construction of Power Politics) .

حيث تزامن ظهورها مع نهاية الحرب الباردة، التي شكلت عقبة فشل أمام العديد من النظريات وخاصة النظرية الواقعية باتجاهيها، في التنبؤ بنهاية هذه الحرب بطريقة سلمية،كما ساهمت هذه الحرب في إضفاء الشرعية على النظريات البنائية لأن الواقعية والليبرالية أخفقتا في استباق هذا الحدث كما أنهما وجدتا صعوبة كبيرة في تفسيره، بينما تمتلك البنائية تفسيرا له، خصوصا ما يتعلق بالثورة التي أحدثها ميخائيل غورباتشيف في السياسة الخارجية السوفيتية باعتناقه أفكارا جديدة "كالأمن المشترك" .

زيادة على ذلك، وبالنظر إلى التحدي الذي تتعرض له الضوابط التقليدية بمجرد تحلل الحدود، وبروز القضايا المرتبطة بالهوية، فإنه ليس من المفاجئ أن نجد الباحثين قد التجؤوا إلى مقاربات تدفع بمثل هذه القضايا إلى الواجهة وتجعل منها محور الاهتمام.

إن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي بروز قضايا جديدة على مستوى أجندة السياسة العالمية وخاصة صعود البعد الثقافي في العلاقات الدولية وتزايد الصيحات الدولية حول تنامي دور هذا البعد ( القيمي)، ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتشكل الطريقة التي تنظر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك.

كذلك بروز قضايا الأقليات، والإرهاب والتنظيمات الإرهابية، أو مايعرف بالفاعل الخفي، وتركيزه على قوة الخطاب الموجه إلى المجتمع المدني سواء الوطني أو الدولي، واللعب على مستوى النعرات الذاتية والانتماءات الثقافية للأفراد، بالإضافة إلى تزايد التركيز على الشعور بالهويات في عالم مابعد الحرب الباردة، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور النزاعات العرقية التي كانت سمتها الأساسية دور الهويات داخلها وشعورها بضرورة ممارسةدورها في السياسة العالمية كفاعل مستقل، وبالتالي إعطاء الصيغة الجديدة للتفاعل العالمي داخل النظام الدولي،والذي يشهد بروز العديد من الفواعل.

عموما النظريات البنائية : متعددة حتى داخل المنظور الواحد، و يوجد هناك أكثر من اتجاه داخل هذا "البرادايم".و يبدو أن العامل الابستومولوجي هو المؤشر الرئيسي للتمييز بين هذه الاتجاهات المختلفة. و هنا قد نجد البنائيين الوضعيين أو كما يسمون " البنائيون الحداثيون Constructuvist Modernists" أمثال Alexandr Wendt ، و "البنائيين النيوكلاسيين"، أمثال F. Kratochwill ، N.Oneuf، E.Adler إلى جانب Peter Katzenstein . و معظم هؤلاء يميلون إلى تبني ابستومولوجية وضعية. أما "البنائيون بعد الحداثيون" أو "بعد-البنيويون"، أمثال: Rechard Ashley، David Campbell، J. Der Darian إلى جانب R B. J Walker فهم يتبنون ابستومولوجية بعد وضعية .

لكن عموما ما يجمع هؤلاء المنظرين هو أن كل من الاتجاهين المذكورين داخل المنظور البنائي كونهما جاءا كرد فعل على الإتجاه السائد (الواقعي، الليبرالي) حيث يتحدث الجميع- داخل المنظور البنائي- عن المعايير، والهوية، والعوامل المثالية. وكما ذكر "جيفرى شيكل" ، فإن معارك الحركة البنائية مع النظريات السائدة ليست معرفية و لكنها وجودية .

في الوقت الذي تميل فيه كل من الواقعية والليبرالية إلى التركيز على العوامل المادية فإن المقاربات البنائية تركز على تأثير الأفكار، وبدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق والافتراض أنها تعمل من أجل بقائها، يرى البنائيون أن المصلحة والهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية (تاريخية) كما يولون أهمية كبيرة للخطاب السائد في المجتمع، لأن الخطاب يعكس ويًشكلً في الوقت ذاته المعتقدات والمصالح، ويؤسس أيضا لسلوكيات تحظى بالقبول. إذن، فالبنائية تهتم أساسا بمصدر التغير أو التحول. وهذه المقاربة حلت بشكل كبير محل الماركسية كمنظور راديكالي للشؤون الدولية. " .

بالإضافة لهذا فعجز كل من الواقعية و اللبرالية على تقديم تفسير مقبول فتح المجال للبنائية كمنظور بديل لتفسير التحولات في هذه المرحلة.

ومن وجهة نظر بنائية، فإن القضية المحورية في عالم ما بعد الحرب الباردة هي كيفية إدراك المجموعات المختلفة لهوياتها ومصالحها. ورغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتشكل الطريقة التي تنظر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك. ومن خلال ما سبق، يتضح أن معرفة ما إذا كان الأوروبيون ينظرون إلى أنفسهم بمنظور وطني أم بمنظور قاري، ينطوي على أهمية تحليلية كبيرة، وينسحب الأمر ذاته عما إذا كان الألمان واليابانيون سيعملون على إعادة النظر في ماضيهم، بحيث يتبنون أدوارا خارجية فاعلة، وعما إذا كانت الو.م.أ. ستعتنق أو سترفض هوية تقضي بأن يلعب الأمريكيون دور دركي العالم. " . ومهما يكن، فإن الموضوع المشترك بين كل هذه الاتجاهات يتمثل في قدرة الخطاب على صياغة الكيفية التي يحدد بها الفاعلون هويتهم ومصالحهم وبالنتيجة يقومون بتعديل سلوكاتهم. " .

إذا يبدو أن البنائية بهذا البناء النظري المقدم حاولت أن تكون بمثابة حلقة وصل أو Bridge Gaps تملأ الفراغ الناجم عن الانتقال من مرحلة الفلسفات الوضعية ممثلة في النظريات العقلانية إلى مرحلة ما بعد-الوضعية ممثلة في المقاربات التهديمية Deconstructuvism أو التأمالية Reflectivism (النظريات النقدية و ما بعد حداثية أو ما يطلق عليها البعض المقاربات الراديكالية كونها اعتمدت على قطيعة مع مستويات البحوث الوضعية، وتبرز هذه السمة أكثر بالنسبة البنائيون الحداثيون Constructuvist Modernists" خاصة مع كتابات Alexandr Wendt و بالخصوص على مستوى منهج البحث لديه المعتمد على المعطيات التجريبية Emperical Data كما سنوضح ذلك لاحقا.

لذا فالبنائية هي محاولة تركيب أكثر من أنها شكلت تحدي أو انتقاد لأبحاث neo-neo synthesis ( الواقية الجديدة والليبرالية الجديدة)

لذا يعتقد البعض أن الأهمية النظرية للبرنامج البنـائي تكمن في مــواقفه الإبستمــولوجية و الأنطولوجية و المعيارية الوسطية ، إذ تمثل البنائية تصورا وسطيا.