2. ما بعد الوضعية

    ما المقصود بــ ما بعد الوضعية؟ نظرة فلسفية للعلم تعتقد بأن العلوم الإجتماعية هي حقل خاص متميز عن العلوم الطبيعية. يعتقد هذا التيار أن الظواهر الإجتماعية هي غيرها في العلوم الطبيعية، يجادلون بأن الظواهر الإجتماعية هي ظواهر تشكلية يشكلها الفاعل الإنسان (المتغير) وهو يتفاعل مع الظاهرة - البنية – وهي متغيرة بشكل مستمر حسب عناصر الخطاب السائد، إذا قلنا بنية فوضوية هذا يعني أن الخطاب السائد يحمل لغة تكرس الفوضى، وإذا قلنا بنية تعاونية هذا يشير إلى خطاب تعاوني.

    إنخرطت كل من مدرسة باريس (ميشال فوكو، جاك دريدا...) والمدرسة البريطانية (نيكولا أونوف، ألكسندر وندت، مارثا فاينمور ..) وآخرون في الدفاع عن نظرياتهم في علم السياسة.

إن نظرية ما بعد السلوكية نشأت في مرحلة جنينية للمدرسة السلوكية ثم نمت وتطورت,وأصبحت مصدر الهام لنقد السلوكية,وكشف ثغراتها,ومواطن قصورها حتى ادا ما بدا الحديث عن وجوب تجاوز السلوكية والبحث عما بعدها.أثير الانتباه نحو هده النظريات التي كانت في بدايتها ضد السلوكية لتصبح وريثة لها.ومن ثم أطلق عليها ما بعد السلوكية,لدلك فان فان عددا من هده النظريات كان مستخدما جنبا إلى جنب مع نظريات المرحلة السلوكية.ولكن انطلاقا من نموذج معرفي آخر وتأسيسا على منظور مختلف,فهده النظريات لم تكن متلبسة تماما بتحولات الوضعية المنطقية وتجلياتها في المدرسة السلوكية.فإلى أي احد استطاعت مدرسة ما بعد السلوكية تجاوز ثغرات المدارس السابقة؟وما هي أوجه التشابه والاختلاف ما بين المدرسة ما بعد السلوكية وغيرها من المدارس السابقة؟
وفي إطار معالجتنا لمدرسة ما بعد السلوكية ولاهم الأفكار التي جاعت بها سنتناول الموضوع على الشكل التالي:

المبحث الاول:مفهوم مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
المطلب الأول :مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
المطلب الثاني :العوامل المساهمة في ظهور مدرسة ما بعد السلوكية
المبحث الثاني :أهم أفكار مدرسة ما بعد السلوكية في تحليل العلاقات الدولية
المطلب الأول :أوجه التشابه والاختلاف بين المدرسة ما بعد السلوكية وبين المدرسة الواقعية وبين السلوكية
المطلب الثاني :انسجام أفكار ما بعد السلوكية مع النظرية المثالية
المبحث الأول:مفهوم مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
المطلب الأول:مدرسة ما بعد السلوكية واهم منظريها
إدا كانت مرحلة الستينات شهدت ظهور يسمى بالنظريات العلمية او النظريات الجزئية,واستفادة علم العلاقات الدولية من الفروع العلمية الأخرى في دراسة بعض جوانب العلاقات الدولية,فان تطور وابتداع مناهج بحث جديدة جعل من علم العلاقات الدولية يحتل مكانة مرموقة كحقل مستقل من حقول الدراسة والمعرفة.لدلك فان أهم سمة لهده المرحلة الجديدة من مراحل تطور علم العلاقات الدولية من ناحية وتحديد مجال وطبيعة العلاقات الدولية بشكل أكثر وضوحا من ناحية أخرى.
كما تتميز مرحلة ما بعد السلوكية بقيام تنظير في العلاقات الدولية يهتم ببناء النظريات وجعلها أكثر قدرة على التفسير والتنبؤ والتمييز بين الظواهر المحددة والربط بين مستويات التحليل الكلية والجزئية.
والى جانب دلك فمرحلة ما بعد السلوكية تتميز أيضا نتيجة لتحولات السبعينات,وبأنها تعطي اهتماما اكبر للمتغيرات الاقتصادية وتأثيرها على العلاقات الدولية,بحيث شهدت هده المرحلة اتساع نطاق دراسات العلاقات الدولية لتتضمن موضوعات اقتصادية لم تكن من صميم الاهتمام التقليدي لهدا الفرع من العلوم السياسي,وعلى نوع يفرض تخطي الحدود الرسمية بين علمي السياسة والاقتصاد.وهكذا أبرزت أهمية الموضوعات والقضايا الاقتصادية في العلاقات الدولية,سواء على صعيد العلاقات بين الدول الغربيةاو على صعيد العلاقات بين الشرق والغرب,أو على صعيد العلاقات بين الشمال والجنوب.
أما فيما يخص منظري مدرسة ما بعد السلوكية الدين هم أنفسهم دعاة المدرسة السلوكية فنجد على رأسهم( رتشارد سنا يدر) و(ديفيد أستون),هدا الاخيرالدي سبق (رتشاردسنايدر) في التمهيد للثورة العلمية التي اسماها بالثورة ما بعد السلوكية,كما انه يعدمن الدين خاضوا ثورة ضد السلوكية والتي تتنكر للقيم والاعتبارات الأخلاقية بحجة الموضوعية العلمية,وفي هدا الاطاريرى( ايستون) إن البحث السياسي لايمكن إن يكون مجرد من القيم ويدعو إلى عكس دلك,اد يعتبر مثلا ان الباحثين والاكادميين عامة عليهم مسؤولية تاريخية خاصة لحماية قيم الحضارة الانسانيةوداك بوضع المعرفة في خلاصة هدا القيم,وبدلك تتقاطع النظرية ما بعد السلوكية مع الفكر التقليدي للنظرية السياسية الذي عبر عنها( ليوشتاوس) في أواخر الخمسينات عندما اعتبر إن الهدف الأساسي للبحث السياسي وهو الحصول على المعرفة الضرورية لبناء مجتمع العدل والحق.
وقد عدد( سيوم براون) و(ريتشارد )القيم والأهداف التي تهم الإنسانية والتي يفترض العمل على تحقيقها وهي التغلب على العنف للتوصل إلى إلغاء النزاعات والحروب وزيادة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي[1]
المطلب الثاني: العوامل التي اسهمت في ظهور المدرسة ما بعدالسلوكية

لقد تزامن ظهور مدرسة ما بعد السلوكية مع فترة الستينات ودلك بصدد الوقوف عند الثغرات التي اغفلتها المدرسة السلوكية لكي يكمل التحليل السلوكي للعلاقات الدولية وتزامن ظهورها مع بروز المحاورات الكبرى بين السلوكيين والتقليديين.
فثمة اتجاهات علمية لدراسة العلاقات من جوانب مختلفة,فلم تعد هده الدراسة وحدة مترابطة او وحدة متكاملة من الناحية الموضوعية فهناك تفريغ لهذه الدراسة امام تعقد العلاقات الدولية وتشعب موضوعاتها فالمهمة الاساسية للمدرسةما بعد السلوكية تكمن في محاولتها كسرحواجز الصمت التي ارستها المدرسة السلوكية وتوجيه العلوم السياسية نحو معالجة وتلبية الحاجيات الضرورية للبشرية في فترات الازمات والحروب1.و صيانة قيم الحضارة الانسانية والمحافظة عليها بوضع المعرفة في خدمة سلم القيم ففي ظل الاوضاع الاولية المتطورة سياسيا واقتصاديا منذ نهاية الستينات انتقل الاهتمام بدراسة المتغيرات الاقتصادية لدى الاتجاهات الحديثة في دراسة العلاقات الدولية من مجرد الاهتمام بهافقط الى
مستوى اخر وهومستوى النظر اليها كقوى مؤثرة في تطور النظام الدولي المعاصر,الذي يتسم بتزايد الروابط,وبدرجة عالية من الاعتماد اللامتكافئ آو التبعية بين دول الشمال ودول الجنوب.2
وهكذا أصبح المتخصصون في العلاقات الدولية يتناولون بالدراسة المشاكل والقضايا الاقتصادية العالمية مثل, اتفاقات التجارة العالمية, الإصلاح النقدي العالمي ,المساعدات,المديونية,ونقل التكنولوجيا وغيرها1.مما أكد الارتباط بين دراسة العلاقات الدولية والمتغيرات الاقتصادية التي أصبحت لحيويتها تثير الاهتمام مثلها مثل المشاكل السياسية والإستراتيجية.
إن التفاعل الموجود بين المتغيرات السياسية والاقتصادية في الدراسات الحديثة, يعكس حجم الاهتمام المتزايد بالاعتماد المتبادل الدولي(2.)الذي أصبح مصطلحا شائع الاستعمال ألان لوصف تطور النظام الدولي.فالمحيط الدولي المعاصر يشهد تزايد الروابط بين الإفراد والجماعات في الدول المختلفة,وفيما بين الحكومات وبين الأوضاع الداخلية والخارجية,وفيما بين الموضوعات السياسية والاقتصادية على نحول لم يعرفه التاريخ من قبل[2]
المبحث الثاني :أهم أفكار مدرسة ما بعد السلوكية في تحليل العلاقات الدولية
المطلب الأول :أوجه التشابه والاختلاف بين المدرسة ما بعد السلوكية وبين المدرسة الواقعية وبين السلوكية
ان مدرسة ما بعد السلوكية تنتقد السلوكية الكلاسيكيةفي انها تهتم فقط بدراسة وفهم وصف الظاهرة السياسية دون تجاوزهده الحدود الى إيجاد الحلول للمشاكل التي تعاني منها الانسانية وازمات العلاقات الدولية.ويقول (ديفيد ايستون)في هدا الصدد:"ان مدرسة ما بعد السلوكية تكمن في محاولتها كسر حواجز الصمت التي اقامتها المدرسة السلوكية ودفع العلوم السياسية لمعالجة الحالات الحقيقيةللبشرية في فترات الأزمات".
اما فيما يتعلق بنقد ما بعد السلوكية للمدرسة الواقعية فيتجلى من خلال تركيز هده الاخيرة على فكرة ان الدولة فاعل وحيد في العلاقات الدولية ,وهدا غيرصحيح بالنسبة لها وهو تحليل تعوزه الدقة.فبالنظر الى واقع العلاقات الدولية نجد ان هناك فواعل اخرى مؤثرة وموازية للدولة.وتؤدي ادوارا في بعض الاحيان اكثر تاثيرا من الدولة نفسها1 .
ومن ابرز الكتاب في هدا المجال( روبرت كوهين وجوزيف كاي وسيوم براون)وقد اعتبر هؤلاء انه مع تزايد الترابط الدولي والتداخل والاختراقات المتبادلة صار من الصعب ان لم يكن من شبه المستحيل اعتبالر الدولة تعمل بوحي المصلحة القومية ,وبالتالي اعتبر و ان هدا المفهوم الاخير لم يعد صالحا لتفسير سلوكية الدولة نتيجة لازدياد المصالح "غير الدولة"وفوق الدولة"وتشعبها لان مفهوم المصلحة القومية صار غامضا ,وباختصار فالنظرية ما بعد السلوكية تنتقد الواقعية لسببين 2 : اولهما تحليلي اكاديمي :وهو ان الواقعية لا تاخد بعين الاعتبار تاثير للترابطات عبر الدول والترابطات الكونية والاعتماد المتبادل على السياسة العالمية.
ثانيهما :ان الواقعية تركز على قضايا الأمن ولا تحاول إيجاد سياسات تساعد البشرية على التغلب على الأزمات الكونية التي تهدده1 .
المطلب الثالث:انسجام ما بعد السلوكية مع النظرية المثالية
جاءت النظرية مابعد السلوكية لتعيد التوازن في نظرية العلاقات الدولية وتلطف من تطرف كل من النظرية الواقعية والنظرية السلوكية في تجريدهما لنظرية العلاقات الدولية من الاعتبارات الإنسانية,فهي بدلك تلتقي مع النظرية المثالية في المسلمة الرئيسية التي تقول بان هناك انسجام في المصالح بين الأفراد وبين المجتمع الكوني وأيضا بين المصلحة القومية والمصلحة العالمية في شؤون التنمية والأمن والحفاظ على المصادر"فوق قومية"2لاداراة النزاعات التي تنشا بين الدول والمساهمة في حلها وكذلك لإدارة واستغلال المصادر الطبيعية وتامين توزيعها بشكل عادل بين مختلف الدول وإعطاء شرعية للحاجة القصوى لإقامة مثل هده المؤسساتفيما تشترك هده المدرسة مع المثالية في تفاؤلها من حيث الإيمان بإمكانية إقامة حكومة عالمية ,فهي تمثل نوعا م إعادة إحياء للمدرسة المثالية .
خاتمة
من خلال كل ما سبق نستنتج ان الاتجاه السلوكي بشقيه السلوكية وما بعد السلوكية قدم عدة إسهامات على المستويات التنظيرية,الفكرية والمفهوماتية للعلاقات الدوليةفهل هده الإسهامات الغنية للمدرسة ما بعد السلوكية تؤهلها لمسايرة التطورات والمتغيرات الدولية؟,أم أنها غير قادرة على دلك؟وهل يشكل ظهور مدارس أخرى جديدة نهاية لمدرسة ما بعد السلوكية؟