1. التطور التاريخي لعـلم الأوبئة:

تمهيد

كان أبقراط(460-370 ق.م) أول من استخدم في العصر القديم مصطلحي "وبائي" و "متوطن" في كتابيه "الهواء والماء والأمكنة" و" الأوبئة"، كما كان أول من أشار إلى توزع المرض وفقاً للزمان والمكان والأشخاص المصابين، وتحدث عن احتمال العلاقة بين المرض والبيئة. وقد تضمن الكتابان مشاهدات وبائية هامة.

وقد تعرض أطباء الحضارة العربية الإسلامية لموضوع الأوبئة بالتفصيل وأغنوا الوبائيات بدراساتٍ قيمة يأتي في مقدمتها ما كتبه الرازي عن الجدري والحصبة، وما كتبه ابن سينا في ''القانون''، وعلي بن العباس المجوسي في '' كامل الصناعة الطبية الضرورية ''، وغيرهم.

أما في العصر الحاضر فقد تطور مفهوم الوبائيات عبر عدة مراحل إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن. ويمكن إيجاز هذه المراحل على النحو التالي، علماً بأن حدودها الزمنية متداخلة، لذا فإن سياقها الزمني ليس دقيقاً، وكذلك الأمر بالنسبة لمحتوى كل مرحلة من الأفكار والممارسات الوبائية 

 مراحل تطور علم الأوبئة:

1.1-مرحلة تطور استخدام الطرق الكمية في التحليل الوبائي:

فقد قام جون غرونت Graunt (1620-1674) بدراسة قوائم الوفاة في لندن واستخدمها لإجراء الدراسات التحليلية الأولى في إحصاءات الأحوال المدنية، وكان لبيار تشارلز الكسندر لويسP.C.A. Louis (1787-1872) أثر كبير في تطور الإحصاء وتطبيقاته في البيولوجيا والطب، ثم قام وليام فار W.Farr (1807-1883) بوضع الطرق المتبعة حالياً في إحصاءات الأحوال المدنية وبين أهمية استخدامها كمصدر أساسي للمعلومات الوبائية.

2.1-مرحلة الاستقصاءات الوبائية التقليدية:

وهي واحدة من أهم المراحل وأغناها، وتم فيها استخدام الطرائق الوبائية لدراسة المشكلات الصحية وأوبئة الأمراض المعدية قبل اكتشاف الجراثيم، وكان أبرز رجال هذه المرحلة إدوارد جينر  E.Jenner (1749-1823) الذي قام بأول تجربة وبائية للتلقيح ضد الجدري، وجون سنو J.Snow (1813-1858) الذي قام باستقصاء وباء الكوليرا في لندن عام 1854 واستخدم في ذلك الطرائق الوبائية الوصفية والتحليلية والتجريبية، وإغنار فيليب سيميلويز (1818-1865) الذي درس حمى النفاس وتحدث عن عاملها المعدي، وبيتر لودفيغ بانوم L. Panum (1820-1885) الذي درس وباء الحصبة في جزر الفارو وقدم تقريراً هاماً حول استجابة الصغار للعدوى.

3.1-مرحلة التركيز على الأمراض المعدية:

وهي مرحلة هامة أخرى في تطور الوبائيات، وقد واكبت هذه المرحلة الاكتشافات الجرثومية الأولى التي كان أهم رجالاتها لويس باستور L. Pasteur (1822-1895) وروبرت كوخ R.Koch (1843-1910)، وحفلت هذه المرحلة باكتشاف العديد من العوامل الممرضة وأصبح كل الانتباه مركزاً على الأحياء الدقيقة ودورها في تسبيب المرض، واعتبرت مسلمات كوخ مرشداً لإقامة البرهان على سببية المرض، كما لعب الفكر الوبائي دوراً أساسياً في وضع الأسس لمكافحة

الأمراض المعدية والقضاء عليها.

4.1-مرحلة دراسة الأمراض غير المعدية: ويعتبر جوزيف غولدبرغر J. Goldberger (1874-1927) رائداً في هذه المرحلة، فقد بين من خلال مجموعة ممتازة من التجارب الغذائية أن البلاغرا(التهاب وخشونة الجلد) تنجم عن عوز غذائي وليست مرضاً معديا. وقد أدى النجاح الأولي في مكافحة الأمراض المعدية في بداية القرن العشرين وتغير نمط المرض في الثلاثينات والأربعينات وبروز مشكلة الأمراض الحديثة كأمراض الجهاز القلبي الوعائي والسرطان والحوادث إلى قيام الوبائيين بإجراء دراسات عديدة حول سببيات هذه الأمراض أدت إلى كشف العديد من عوامل الاختطار وإلى تطوير مفهوم المراضة.

5.1-مرحلة استخدام التجارب البشرية لدراسة سببيات المرض:

استندت أهم تطبيقات هذه المرحلة المتقدمة على الدراسة ذات الشواهد التي تعتبر من أهم العلامات في الوبائيات التجريبية، وقد شملت هذه المرحلة إسهامات بارزة عديدة في مجال التجارب السريرية حول فعالية اللقاحات والأدوية ودورها في مكافحة المشكلات الصحية.

6.1-مرحلة استخدام الوبائيات لتقييم الرعاية الصحية:

بدأ في النصف الثاني من القرن العشرين استخدام الوبائيات التجريبية لدراسة فعالية وكفاءة عدد كبير من نشاطات الرعاية الصحية، وكان الرائد في هذا المجال كوكران Chochrane الذي يعتبر كتابه "الفعالية والكفاءة" مرجعاً تقليدياً. وأصبحت الوبائيات أداة أساسية في تخطيط الخدمات الصحية وتقييمها.