1. إشكالية الأنواع السردية العربية القديمة

تكاد الثقافة العربية تختزل ضمن نمط واحد من الإبداع الأدبي، وهو الشعر، ليغدو بذلك هذا الفن القولي الظاهرة الأدبية الكبرى المميزة لحياة العرب وأمزجتهم وأخيلتهم، وليستأثر بكل احتفاء واهتمام، وذلك رغم كل التحولات العميقة والهزات العنيفة التي شهدها التاريخ العربي الإسلامي في كل الأمكنة التي تعاقبت فيها الدول الإسلامية الكبرى على الحكم شرقا وغربا.

ورغم ما اشتمل عليه القرآن الكريم من جوانب سردية خصبة، فإنه لم ينظر إلى السرد القرآني المعجز إلا من حيث الجوانب المتصلة بالحكمة والموعظة وضرب الأمثال، بغية التوجيه الرشيد للسلوك البشري.

وإذا كان القدماء قد أهملوا السرد فإن إهمالهم لنقد السرد كان آكد وألح، إذ غطت عليه أدبية الشعر والنثر الفني التي عمل النقاد على ترسيخها والتنظير لها في مؤلفات مخصوصة معروفة.

وقد ساهم هذا الموقف الذي يحط من شأن السرد على تكوين تيار مناوئ للسرد والسردية، وترسيخ نظرة متعالية تقرنهما بطبقة العوام والدهماء. وكأن السرد من خلال هذ الموقف المضاد لا يرقى إلى مستوى اللغة العالية الرصينة التي استبد بها الشعر والنثر الفني، مع العلم أن السرد مثله مثل الشعر لا يمكن أن يكون إلا نتيجة طبيعية لتقلبات مجتمع بكامله، فيس أوضاع وأحوال زمانية ومكانية خاصة.

قال المسعودي عن ألف ليلة وليلة: ” وقد ذكر كثير من الناس ممن لهم معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب  للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب هزار أفسانة، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة، والخرافة بالفارسية يقال لها أفسانة، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة …” ص 259، 260 ” مروج الذهب ومعادن الجوهر للرحالة والمؤرخ أبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي ت 346هج. تحقيق محي الدين عبد الحميد.ج2 _ ص 259، 260، باب ذكر الأخبار عن بيوت النيران وغيرها ، فصل ألف ليلة وليلة.

ثم جاء ابن النديم فحدد موقفا عاما من السرد، قال عن كتاب ألف ليلة ، وينطبق كلامه عاى كتاب كليلة ودمنة وعلى السرد الخرافي عامة قال: ” والصحيح إن شاء الله أن أول من سمر بالليل الإسكندر، وكان له قوم يضحكونه، ويخرفونه، لا يريد بذلك اللذة، وإنما يريد الحفظ والحرس،، واستعمل لذلك بعده الملوك كتاب هزار أفسان، يحتوي على ألف ليلة، وعلى دون المائتي سمر، لأن السمر ربما حدث به في عدة ليال. وقد رأيته بتمامه دفعات، وهو بالحقيقة كتاب غث بارد الحديث.” الفهرست، ص 363، 364 ، النديم، أبي الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف بالوراق. تحقيق رضا تجدد، منقول من دستوره وبخطه.

وكأنه ها بهذا القول الموجز يختزل وعي النقد القديم بالسرد، ويرسم حدود موقفه العام تجاهه.

وربما كان السبب الرئيسي في تشكل هذا الموقف، أن الشعر مرتبط في الغالب، بأشخاص معروفين، فالشاعر في الغالب الأعم معروف، ومن يقصده بالشعر معروف أيضا سواء أكان موضوعا للممدح أو الرثاء أو الهجاء أو الغزل أو الوصف أو غير ذلك مما درج عليه شعراء العربية منذ فجر التاريخ، في أغراض شعرية ثابتة المعالم والخطوط والدوائر.

يضاف إلى هذا أن السرود عندما تنشأ، في أي مجتمع، فهي تنشأ وقد طبعتها المشافهة بسمات معينة، تتصل بطبائع الناس العاديين وبأوهامهم وخرافاتهم ومجمل تصرفاتهم الحياتية، في صور ولوحات متتالية أقرب ما تكون إلى نمط عيش الطفولة الساذج.

ومع أن كثيرا من السرود العربية قد دونت في مراحل لاحقة متأخرة، غير أن صلتها لم تنقطع بمجالها الشفاهي الخصب الذي هو سر جمالها وجاذبيتها.

ويمكن أن نذكر هنا، على سبيل المثال، المعري، فهو من شعراء وكتاب العربية الكبار الذين استغلوا طاقة السرد الهائلة، في كثير من أشعاره وكتاباته، وخاصة في رسالته المشهورة والمعروفة ب”رسالة الغفران”، بالإضافة إلى ابن شهيد الأندلسي في “التوابع والزوابع”  وركن الدين الوهراني في “المنام الكبير”..

ولا ينبغي هنا أن نتجاوز هذه القضية دون أن نشير إلى كتاب “ألف ليلة وليلة”، فهو نتاج أمة كاملة، ولذلك استطاع لوحده أن يختزل هموم الإنسان العربي خصوصا، والإنسانية عموما، رغم التحفظات الكثيرة التي واجهها هذا الكتاب قديما وحديثا،ربما بسبب هذا الموقف القديم الذي أشرنا إليه.