1. الرواية الشفوية
1.3. بعض إشكالات ، واشتراطات التأريخ بالرواية الشفوية
-إشكالات التأريخ بالرواية الشفوية:
صاحب موضوع الاستناد على الرواية الشفوية في تدوين تاريخ الشعوب وأحوال الجماعات البشرية سيل من النقاشات والردود، أفصح عنه العديد من المؤرخين المحدثين، بخصوص نوع الإضافة التي تتوفر عليها التسجيلات الشفوية لفائدة الكتابة التاريخية، فبعض من هؤلاء لم يستسغ القبول بالرواية الشفوية كمصدر له أهميته وسعى إلى تحييدها وربما التشكيك في مضامينها التاريخية رغم قيمتها. ولذلك ساد الاعتقاد لفترة طالت ولا تزال مستمرة إلى الآن، من أن الرواية الشفوية لا ترقى إلى مستوى النص المكتوب كوثيقة، كونها تعتمد على الذاكرة البشرية التي قد تتعرض للنسيان والخلط في الوقائع والأحداث، أو للاجتزاء أو للإضافة أو الانتقاص. كما أن الرواية حسب زعم هذا الفريق – تنطوي على كثير من المبالغات والمزج بين ما هو واقعي وما هو أسطوري أو مزاجي … فالمأثورات والمرويات الشفوية، لن تكون دائما ذات مصداقية تجعلها مستساغة، فضلا عن أن تكون مقبولة لتدوين التاريخ حسب نظرهم.
وبما أننا اليوم بتنا نتطلع إلى كتابة تاريخنا المحلي أو الجهوي في أفق إنجاز أطلس شامل للتاريخ الوطني – وهو مشروع نادى به الكثير من المؤرخين الجدد – فإننا نجد أنفسنا مضطرين في بعض المواضيع خصوصا بالمجالات القروية المغربية إلى جمع الروايات من شفاه الرجال نظرا لانعدام الوثائق والأوراق المكتوبة اللازمة لمقاربة بعض الموضوعات التاريخية من ماضينا القريب، لكن الكثير من الطلبة الباحثين في التاريخ من يتساءل منهجيا : هل استجواب سكان مجال جغرافي معين كاف لكي نتعرف على تاريخهم ومقاربة الظواهر الإنسانية التي ترجع جذورها الأولى إلى أجدادهم ؟، وهل الرواية الشفوية فعلا أقل أهمية من الرواية المكتوبة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، نجد الجواب عند الفريق الثاني من المؤرخين المقتنعين بالاستناد على الرواية الشفوية وبنجاعتها في مسائلة الموضوعات التاريخية، فهذا الفريق يعتقد «بأن الظاهرة التاريخية ظاهرة معقدة وينبغي تناولها من زوايا متعددة، ومعارف متنوعة”، بمعنى الانفتاح على باقي فروع المعرفة، حقة كانت أم إنسانية، حيث مكن -حسب رأيهم- انفتاح التاريخ على هذه العلوم تجاوز المفهوم الضيق للوثيقة. وكان من نتائج هذا الانفتاح إقبال المؤرخين المحدثين على استعمال الروايات المحفوظة المتوارثة كمصدر من المصادر التاريخية، لا سيما بعد اقتناعهم بأن أي موضوع اجتماعي لا يبحث فيه الدارس عن الأخبار من أفواه الرجال، يكون بالضرورة ناقصا من جهة ما، وأن الفهم الجيد لتاريخ الحياة اليومية، لا يمكن أن يتم دون اللجوء إلى البحث الميداني (7)، وبأن الرواية الشفوية لا يقتصر متنها على السياسي فقط بل تغطي الجوانب الاجتماعية والثقافية والحضارية لمجتمعات الماضي. “فهناك من الشواهد والروايات الشفوية ما تتعلق بتاريخ الذهنيات. ومنها ما يتعلق بالتاريخ الاقتصادي أو الاجتماعي ومنها ما تفيد في المغرب علاقة الشعب بالمخزن (كالروايات الشفوية التي تنطوي على المقاومة والصراع “(8)بل أن هناك من الروايات الشفوية ما “تمدنا بحقائق تحرمنا منها النصوص التاريخية المدونة أو مناقضة لما هو شائع في الحقائق التاريخية المكتوبة”(9).
فالرواية الشفوية حسب هؤلاء أصبحت تحظى بمكانة رفيعة واهتمام متزايد ضمن المصادر التاريخية، إذ في غياب الوثائق المكتوبة أصبح النص الشفوي في كثير من الموضوعات يشكل الذاكرة الجماعية لفئات اجتماعية معينة، ويندرج في هذا السياق كما أشرنا سابقا، التراث الشفوي من أمثال شعبية وأساطير وحكايات وأهازيج وفولكلور … وكلها فروع تمثل ملاذا وملجأ بالنسبة للجماعات المقهورة “أي مهمشي التاريخ “الذين يتم تغيبهم ونفيهم من الكتابة التاريخية المؤسساتية الرسمية (10). ذلك أن الوثائق المكتوبة حسب المؤرخين المتنورين “ومعظمهم من المنحازين إلى كتابة تاريخ الطبقات الشعبية المسحوقة في نضالها ضد القوى التسلطية”(11)، لا تركز في الغالب سوى على أخبار الأفراد المرموقين كالملوك والزعماء