4. المبحث الثالث:خصائص الفلسفة الإسلامية
4.3. المطلب الثالث:فلسفة توفيقية.
- فلسفة توفيقيــة:
- فلسفة توفيقيــة:
توفق بين الفلاسفة بعضهم وبعض، وقد عرف العرب شيئاً من الفلسفات الشرقية القديمة، كما عرفوا شيئاً عن السابقين لسقراط، والسفسطائيين ، والسقراطيين، وأنصاف السقراطيين، والرواقيين والأبيقوريين، وجماعة الشكاك ، ورجال مدرسة الإسكندرية. ولكنهم عنوا خاصة بأفلاطون وأرسطو، فترجموا للأول أهم محاوراته ، وهي : الجمهورية ، والنواميس ، وطيماوس، والسوفسطائي، والسياسي، وفيدون، واحتجاج سقراط. وترجموا للثاني مصنفات الكهولة كلها تقريباً، من منطقية وطبيعية وميتافزقية ، وأخلاقية ، وكانت الخطابة والشعر، وهما كتابان فنيان ، يعدّان عندهم بين الكتب المنطقية. ولم يفتهم إلا كتبه السياسية، وقد احلوا محلها جمهورية أفلاطون، وبعض كتبه الأخلاقية . وأضافوا إل هذا مؤلفات منحولة ليست من عمل أرسطو، مثل السماء والعالم ، وكتاب الربوبية، ولم يقنعوا بترجمة الكتب الأرسطية وحدها، بل حرصوا ما استطاعوا على أن يترجموا معها شروحاً ، وكانت لهذه الشروح شأن كبير في نظرهم، وعرفوا من الشرائح تاوفرسطس(287ق.م) خليفة أرسطو الأول، والإسكندر الأفروديسي(211) الذي كان يسميه ابن سينا ((فاضل المتأخرين)). وعرفوا من شراح مدرسة الإسكندرية عدداً غير قليل، أمثال : أمونيوس سكاس(أوائل القرن الخامس) ، ويحيى النحوي ( 643). وربما كان هؤلاء أعظم أثراً من المشّائين الأول، لأنهم كانوا إلى العرب أقرب، وفي نظريتهم الدينية ما يلائم بين فلسفتهم والفكر الإسلامي ، وهم على كل حال مصدر هام من مصادر الأفلاطونية والافلوطينية في العالم العربي .
فعرف العرب إذن أفلاطون وأرسطو معرفة مباشرة، عن طريق مؤلفاتهما، إلى جانب ما نقله عنهما المؤرخون، أمثال فلوطوخس(125) وجالينوس(200)، وما نقله عنهما حنين بن إسحق (877) في كتابه نوادر الفلاسفة والحكماء. وقد أثر تأثيراً كبيراً في كثير من المدارس الإسلامية وحولهما بوجه خاص دار التوفيق بين الفلاسفة. وللفارابي في هذا موقف واضح، فهو يؤمن بوحدة الفلسفة، وأن كبار الفلاسفة يجب أن يتفقوا فيما بينهم، ما دامت الحقيقة هدفهم جميعً. ولا شك في أن أفلاطون وأرسطو هما زعيما الفلسفة، وضعا أصولها، وفضلا القول فيها، وبلغا بها الغاية، ولا سبيل لأن يتصور خلاف بينهما.
ولا يمكن أن ننتظر نجاح محاولة أساها خاطئ، فالأفلاطونية شيء والأرسطية شيء آخر. ولكن لهذه المحاولة شأناً كبيراً في تاريخ الفلسفة الإسلامية، فهي نقطة بدء سار عليها الفلاسفة اللاحقون. ونلاحظ أن ابن سينا لم يعن بالتفرقة بين أفلاطون وأرسطو، وفي فلسفته جانب أفلاطوني واضح.. ونلمح لدى ابن باجّة(1138) وابن طفيل(1185) ، اتجاهات أفلاطونية وأفلوطينية قوية، وإذا كان ابن رشد قد اخذ على عاتقه العودة إلى أرسطو وتخليص أرسطية مما لحق بها من عناصر أجنبية، فإنه لمن سليم هو نفسه من هذه العناصر، وبدت فلسفته في جملتها استمراراً للفلسفة التي قال بها الفارابي وابن سينا. وعلى هذا تربط الفلسفة الإسلامية الأفلاطونية بالأرسطية، وتوفق بينهما وتنسقهما وتضيف إليهما أموراً أخرى، وبذا أصبحت هي نفسها مذهباً جديداً ذا شخصية مستقلة.
إذ كان التوفيق بين أفلاطون وأرسطو يعد أساساً من الأسس التي قامت عليها الفلسفة الإسلامية، فإن أساسها الثاني هو التوفيق بينها وبين الدين. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أنها فلسفة ذات طابع ديني واضح. حاولت في جد التوفيق بين النقل والعقل. ونستطيع أن نقرر أن فلاسفة الإسلام دون استثناء شغلوا بهذا التوفيق، من الكندي إلى ابن رشد، وبذلوا فيه جهوداً ملحوظة، وأدلوا بآراء لا تخلو من جدة وطرافة. وكان لمجهودهم أثر في انتشار الفلسفة، ونفوذها إلى صميم الدراسات الإسلامية الأخرى.
والتوفيق تقريب بين جانبين، وجمع بين طرفين،وفي الفلسفة نواح لا تتفق مع الدين، وفي بعض النصوص الدينية ما قد لا يتمشى مع وجهة النظر الفلسفية، لذلك عني فلاسفة الإسلام بأن يصبغوا الفلسفة بصبغة دينية، وأن يسكوا بعض التعاليم الدينية بكساء فلسفي ويكاد يدور توفيقهم حول هذين البابين.
ولاشك في أن التوفيق الذي حاوله الفلاسفة المسلمون يعد وشيجة من وشائج القربى بين الفلسفة العربية والفلسفية واللاتينية. ففي أخذ العرب عن أفلاطون ما قربهم من الأوغسطينيين ورجال المدرسة الفرنسسكانية بوجه خاص، وقد رأى هؤلاء في بعض النظريات الإسلامية ما يتلاقى مع آراء ألقوها منت قبل، فاستساغوها واطمأنوا إليها. وفي تعلق فلاسفة الإسلام بأرسطو ما وجه إليه أنظار المسيحيين، وحملهم على ترجمة كتبه، ودفع كثيرين من رجال القرن الثالث عشر إلى درسه والتعليق عليه وبخاصة القديس توما الأكويني (1274)، الذي يعتبر في هذه الناحية بين اللاتينيين بمثابة ابن رشد بين العرب.
وإذا كان المسيحيون في القرون الوسطى قد حرصوا الحرص حله على التفرقة بين الفلسفة والدين، فإن فلسفتم في أساسها دينية، ولم يترددوا في أن يستعينوا بالعقل والمنطق على إثبات كثير من القضايا اللاهوتية، ويرى ألبير الكبير (1280) أن التعاون بين الفلسفة واللاهوت ممكن ونافع، وأن العقل والنقل لا يتعارضان، وإن كان للنقل أمور خاصة به، وتلميذه القديس توما الأكويني في آن واحد شيخ الفلاسفة وشيخ اللاهوتيين في القرن الثالث عشر، وقد سار على نهج أستاذه في التوفيق بين الفلسفة والدين، فهو يرى أن كثيراً من الحقائق النقلية يزداد وضوحاً بالأدلة العقلية، وليس بلازم أبداً أن يكون كل ما فوق الطبيعة مخالفاً للعقل.