محتوى المحاضرة الثانية
Site: | Plateforme pédagogique de l'Université Sétif2 |
Cours: | الفلسفة العربية الإسلامية |
Livre: | محتوى المحاضرة الثانية |
Imprimé par: | Visiteur anonyme |
Date: | Saturday 23 November 2024, 03:21 |
Description
تمهيد:
1. تمهيد
يذكر المؤرخون أنّ أقدم سفر يوناني جاءت فيه كلمة "فلسفة "بمعنى الرغبـة في المعرفة هو كتاب " هيرودوت "المـؤرخ حيـث يـروي أنّ "كريتس "قال لسولون -أحد الحكماء السبعة -:"إنّي سمعت أنك جبت ً كثيرا مـن الأقطـار متفلسفاً "أي راغباً في المعرفة.كما يروي مؤرخو الفلسفة أنّ هذه الكلمة قد جرت على لسان بعـض الفلاسـفة حيث نسب هؤلاء المؤرخون إلى فيثاغورث أنّه قال: لا حكيم إلا الله، وإنّمـا الإنسـان.فيلسوف، كما عزوا إلى سقراط أ نّه أطلق على منهجه كلمة "فلسفة "وإلى بـريكليس أنّـه قال:نحن نتفلسف بدون هوادة.
أما لغة فلفظة الفلسفة يونانية قديمة، مركبة من مقطعين هما " فيلو "بمعنى حب أو محبة،و"سوفيا "بمعنى حكمة .وهي فيلاسوفيا وتفسيرها: محبة الحكمـة فلمـا ع رّبـت قيـل :فيلسوف، ثمّ اشتقت الفلسفة منه .ومعنى الفلسفة: علم حقائق الأشياء، والعمل بمـا هـو أصلح.([1] (
وكلمـة فيلسـوف مكونـه من مقطعيـن همــا": فيلـوس" بمعنـى محـب، و"سوفوس" بمعنى حكمة، فالفيلسوف هو محب للحكمة. وقـد أطلـق على الفيلسوف اسم الحكيم "ولكن سقراط لم ترق هذه التسمية، فقال:أنا لست ً حكيما ولك نّني محب الحكمة فحسب.وقيل إنّ فيثاغورس كان يقول:لا حكيم إلا الله وحده، وإنّما الإنسان فيلسوف فحسب " أي محب للحكمة. ([2])
وحكي إن فيثاغورس من أهل شاميا وهو أول ما سمى الفلسفة.والمقصود بالحكمة: المعرفة العقلية الراقية، والإدراك الكلي لحقائق الوجود وقد أطلق على الشخص المتأمل عقلياً لحقائق الوجود وقضاياه الكبرى اسم الفيلسوف ً تمييـزا له عن غيره من عامة الناس.
إذاً يطلق الفعل "تفلسف "على الإنسان الذي يـرى ظـواهر الأشـياء المختلفـة فيتصورها ثم يُكَّون له فيها رأياً، ثم يجتهد في تعرف علل الظواهر الكونيـة، وعلاقـة الكون بظواهره.فالذي يتفلسف هو الذي يفكـر في شـيء خاص ذاتاً كان أو معنى.([3])وبعبارة أخرى معنى يتفلسف:الإنسـان الذي يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض .ولمّا كان الإنسان من طبيعته أن يفكر ويبحث على هذا النحو، فإنّ كلمة فيلسوف لم تطلق على كل إنسان، بل أطلقت على المرء الذي من أهم أهدافه في حياتـه دراسـة طبائع الأشياء وتعقلها، وكانت لديه قدرة إدراك الأشياء بسـرعة ً معتمـدا علـى فكـره الخاص، وزاول هذا العمل، وأصبح وكأنه مهنة أو صنعة له سـيطرت عليـه معظـم حياته.([4])
ولقد كان اليونانيون قبل ذلك يطلقون كلمة "سوفوس "على كل من كمل في شيء عقلياً كان أو مادياً، حيث أطلقوها على النجار والبحار والطاهي وغيرهم مـن أربـاب الحرف، ثم قصرت في الإطلاق على :من منح عقلاً راقياً وتفكيراً سامياً.([5] )
وبعد انتقال الفلسفة إلى المسلمين، ودخول مصطلحي الفلسفة والفيلسوف في اللغة العربية، صاغ العرب من ذلك الفعل بأنواعه، فقالوا: تفلسف، يتفلسف، ثـمّ قـالوا:هـو متفلسف، وهم متفلسفة، كما جعلوا الحكمة مرادفة للفلسفة فقالوا:حكماء الإسلام، بمعنـى فلاسفة الإسلام. وصفا لأولئك الراغبين في معرفة الحقائق الكلية.
معنى الفلسفة اصطلاحا:
اختلفت أقوال الفلاسفة القدامى والمحدثين في تحديد معنى للفلسفة، فمعناها عنـد فيلسوف يختلف عن معناها عند فيلسـوف آخـر، ومعناهـا في عصر ما يختلف عـن معناها في عصر آخر.وسبب ذلك:-
-1 أن الفلسفة مرَّت بعدة أدوار، اختلفت فيها موضوعاتها إلى حد بعيد.
-2 اختلاف مناهج الفلاسفة وطرائقهم في التفكير.
-3 اختـلاف بيئة وعصـر ومجتمع كل فيلسوف عن الآخر، ولأنّ الفلسـفة تصـطبغ
بالتجارب الشخصية للفيلسوف وعاداته الفردية.
ونذكر هنا طائفة من تعريفات الفلسفة حسب العصور التي مرّت بها:
أولاً:تعريف الفلسفة عند فلاسفة اليونان القدماء:
استعمل اليونان كلمة الفلسفة منذ القرن السادس قبل الميلاد، ولم يكـن معناهـا محدداً ولا مضبوطاً في أول الأمر، فكانوا يطلقون كلمة فلسفة على المعارف الإنسـانية المعروفة في زمانهم، فشملت الطب والفلك والهندسة والكيمياء والطبيعة والتنجـيم ثـم قصرت في الإطلاق على من تأمل في الوجود تأملاً عقليا. ومع ذلك فإنّ معناها كان يختلف من عصر إلى آخر ومن فيلسوف إلـى آخـر على النحو التالي:
-1 عصر ما قبل سقراط: إنّ موضوع الفلسفة في هذا العصر يتناول الكون الطبيعـي، ولذا فمحاولاتهم هي: معرفة الأصل الذي نشأ عنه هذا العالم الطبيعي المحسوس .فتعريف الفلسفـة إذاً في هذا العصر:هو "البحث فـي الوجـود الطبيعـي، وغايتــه ومصيره وعلل ظواهر الأشياء".
-2 عصر السوفسطائيين وسقراط: إنّ موضوع الفلسفة في هذا العصر قاصـر علـى الإنسان ومعرفة الحقيقة، والحق والعدل والخير، ودراسة هذه القيم مبنية على التصـور العقلي وحده ولا علاقة للحواس بها . أي أن الفلسفة عند سقراط قد اشتملت علـى بيـان وتوضيح معاني الحق الخير والعدل.فتعريف الفلسفة إذاً عند سقراط:"البحث عن الحقائق بحثاً نظريـاً، وخاصـة الحقـائق والمبادئ الخلقية من خير وعدل وفضيلة ".
-3 عصر أفلاطون وتلميذه أرسطو:
أ -موضوع الفلسفة عند أفلاطون: جواهر الأشياء وحقائقها الثابتة التي لا تتغير. ويطلق عليها أفلاطون "عالم المثل " فتعريف الفلسفة عند أفلاطون هي:" البحث عن الأمور الأزلية، أو معرفة حقائق الأشياء، ومعرفة الخير للإنسان.
ب –موضوع الفلسفة عند أرسطو : يشمل كل المعرفة الإنسـانية، أو بعبـارة أخـرى أصبحت الفلسفة مرادفة لمعنى العلـم، فتحـت الفلسـفة تنـدرج جميـع العلـوم مـن المنطق،والرياضة، والطبيعة، والأخلاق والسياسة .وتعرف الفلسفة عند أرسطو:"العلم بالمبادئ الأولى التي تفسر بها طبيعة الأشيـاء ".أو هي البحث عن علل الأشياء وأصولها الأولى .أي العلّة الأولى التي هي علة العلل .
-4 عصر ما بعد أرسطو: في هذا العصر جمد موضوع الفلسفة، ولم يبتكر الفلاسفة شيئاً بل كانوا مقلدين حاكين، وظهرت فيه مدرستا الأبيقوريين والرواقيين.
-5 موضوع الفلسفة عند الأبيقوريين والرواقيين: صـارت المباحـث عنـد هـاتين المدرستين الفلسفية قاصرة على بعض جوانب الإنسان من ناحية أخلاقه وسعادته وسلوكه في هذه الحياة، وقيمته فيها، وإن اختلفت المدرستان في تحديد الغاية التي تريد كل منهما الوصول إليها.
أ -فالأبيقوريون مثلاً:كانوا يطلبون السعادة ويرونها في الحصول على اللّذة. وتعريف الفلسفة عندهم:هي القدرة على السعادة بواسطة العقل والفطنة.
ب -أما الرواقيين:فكانوا يطلبون الواجب لذاته مهما كلفهم عمل الواجب من تضـحيات في المال أو النفس أو غيرهما، وقد توصلوا لذلك بعمل الفضيلة..وتعريف الفلسفة عندهم:السعي وراء الفضيلة، وما يجب أن يسـير عليهـا الإنسان فـي حياته.
أما تعريف الفلسفة عند الفلاسفة المسلمين فسوف نتعرض علها في المبحث القادم.
2. المبحث الأول:تعريف الفلسفة عند الفلاسفة الإسلاميين
يرى بعض الفلاسفة أنها مجموعة الأفكار التي ارتآها الكندي والفارابي وابن سينا ومن سار على نهجهم في الله والعالم والنفس الإنسانية،.ويرى ابن رشد (ت 595هـ، 1198م) في فصل المقال ¸أن النظر في كتب القدماء ـ يقصد بالقدماء هنا فلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو ـ واجب بالشرع، إن كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها ـ وهو الذي جمع بين أمرين: أحدهما: ذكاء الفطرة، والثاني: العدالة الشرعية، والفضيلة العلمية والخلقية ـ فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس، إلى معرفة الله، ، وهو باب النظر المؤدّي إلى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى·. فالفلسفة عند ابن رشد تفتح باب العلم بالله ومعرفته حق المعرفة.
ويرى ابن خلدون (ت 808هـ، 1406م(في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن ويعرِّفها قائلاً: ¸بأن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تُدرك أدواته وأحواله، بأسبابها وعللها، بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قِبَل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوَّموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق.· ويحذّر ابن خلدون الناظرين في هذا العلم من دراسته قبل الاطلاع على الشرعيات من التفسير والفقه، فيقول: ¸وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يُكبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلْو من علوم الملة فقلَّ أن يَسلَمَ لذلك من معاطبها
ولعل ابن خلدون وابن رشد اتفقا على أن البحث في هذا العلم يستوجب الإلمام بعلوم الشرع حتى لا يضل العقل ويتوه في مجاهل الفكر المجرد لأن الشرع يرد العقل إلى البسيط لا إلى المعقد وإلى التجريب لا إلى التجريد. من هنا كانت نصيحة هؤلاء العلماء إلى دارسي الفلسفة أن يعرفوا الشرع والنقل قبل أن يُمعنوا في التجريد العقلي.
ويذهب الكندي (ت نحو 260هـ، 873)) إلى أن الفلسفة هي علم الحق الأول الذي هو علة كل حق، ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشرف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف لأن علم العلة في نظره أشرف من علم المعلول، والعلم التام هو علم العلة. ويرى الفارابي (ت 339هـ، 950م) أن الفلسفة هي العلم بالموجودات بما هي موجودة ويقسمها إلى حكمة إلهية وطبيعية ورياضية ومنطقية. ويعطيها الشيخ الرئيس ابن سينا (ت428هـ، 1037م)طابعًا نفسيًا فيقول: الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية. ويقسم الحكمة كذلك إلى نظرية يتعلمها الإنسان، ولا يعمل بها، وحكمة عملية مدنية ومنزلية وأخلاقية. وحول هذه المفاهيم، كان يتناول فلاسفة الإسلام الفلسفة مقتفين أثر الأساتذة القدماء من حكماء اليونان. فكانوا تارة يقتربون من أساتذة اليونان وتارة يبتعدون عنهم، ولم ينتهجوا منهجًا مستقلاً في التفلسف ولم يخالفوا رأي القدماء إلا في المسائل التي تخرجهم من ملة الإسلام، وظلوا أساتذة في هذا العلم في ظل أساتذة الفلسفة السابقين.
3. المبحث الثاني:عوامل نشأة وتطور الفلسفة الإسلامية.
تمهيد حول نشأة التفكير الفلسفي :
اختلف الباحثون حول نشأة وبداية التفكير الفلسفي إلى فريقين اثنين:
-1 الرأي الأول: ذهب فريق من الفلاسفة والعلماء الباحثين والمستشرقين إلى أنّ التفكير الفلسفي في بلاد الشرق أقدم ظهوراً من بلاد اليونان إلى أن التفكير الفلسفي بدأ أولاً فـي بـلاد الشرق قبل القرن السادس ق. م، حيث شهدت بلاد الشرق القديم مجموعـة مـن أنمـاط التفكير الفلسفي مثل :الفلسفة المصرية والفلسـفة الفارسية،والفلسـفة البابليـة، والفلسـفة الهندية،والصينية .وعلى رأس هؤلاء المؤرخ الإغريقي" دبوجين لاإرس" الذي قال فـي كتابه "حياة الفلاسفة ":" إن الفلسفة الإغريقية ليست إلا تراثاً ً شرقيا ً متغلغلا في القـدم . واستدلّوا على ذلك بوجود كثير من النصوص والأساطير البابلية والمصرية التـي جـاء فيها حديث عن أصل العالم.فمثلاً قيل إنّ طاليس قال:بأنّ أصل العالم هو الماء، ولقـد جاء في الأساطير والنصوص القديمة أنّ العالم في البدء كان ماءً وهذا يـدلّل علـى أنّ طاليس قد استفاد قوله من تلك الأساطير.
ويؤكّد هذا الرأي أنه في مجال العلوم الكونية والرياضية وجدت بعـض هـذه العلوم عند القبائل الناشئة في بلاد الصين القديم على نحو ما هو موجود في بلاد اليونان.فمثلاً :الصينيون أسبق إلى معرفة المثلث القائم الزاوية وخصائص وتره .
الرأي الثاني: ذهب فريق آخر إلى أن اليونان هم أوّل من ظهر فيهم التفلسـف، فأرسـطو يـرى أنّ طاليس اليوناني هو أول فيلسوف حاول أنّ يفسر الكون تفسيراً عقلياً.والخيال والبداهـة، ولم يكن مسلكهم في التفكير خاضعاً لمنهج علمي أو أسلوب فلسفي معين . لكنّ اليونان هم أوّل من قدّم المنهج والمصطلح الذي سارت عليه الفلسفة حتى اليوم، والتفكير الفلسـفي عند اليونان كان تفكيراً منظماً يعتمد على الاستدلال العقلي والتأمـل الفلسـفي والنظـر المنطقي.
التوفيق:وخروجاً من هذا الخلاف يمكن القول: بأنّ التفكيـر الفلسـفي نشـأ أولاً فـي حضارات الشرق القديم، ولكنه كان مجموعة من الأساطير أو الملاحظات التجريبية التي دفعتهم إليها حاجتهم إلى الشراب والطعام والمسكن، واعتمدوا فيها على الأوهام، ورغم اختلاف الباحثين في نشأة الفلسفة إلاّ أ نّهم أجمعوا على أنّ الفلسفة اليونانية كانت أعمق الفلسفات بحثاً، وأوسعها موضوعاً، وأحسنها تنظيماً وترتيباً.
3.1. المطلب الأول:العوامل الداخلية
تمهيد:
أخذت الفلسفةُ مُسمَّياتٍ عدة، من قبيل "الحكمة" و"العرفان". وعُدَّتْ بعضُ المسمَّيات محاولةً من أصحابها للابتعاد عن دائرة التشوش والممانعة التي لفَّت مصطلح الفلسفة، ونوعًا من المقاربة مع المفاهيم الإسلامية المتسالَم عليها، كمصطلح "العرفان" الذي يجد قبولاً عند المدارس الإسلامية أكثر من مصطلح "الفلسفة"، نتيجة لتراكم مفاهيم مغلوطة عن الفلسفة بخاصة، والفلسفة الإسلامية بعامة – ما أوجد شرخًا غير صغير بين علماء المسلمين أنفسهم عن أصل الفلسفة ومنشئها ومساربها. وقد زادت دراسات المستشرقين من رقعة هذا الشرخ من خلال محاولات بعضهم والبعض ممَّن تأثر بهم من الفلاسفة العرب والمسلمين، اختزال قرون عدة من الإبداع العربي والإسلامي. ولكن أين الخلل في هذا القصور المعرفي عن الفلسفة الإسلامية وعن الإحاطة بإبداعات المسلمين؟
و دور القرآن الكريم في صياغة العقلية الإسلامية، بحيث أصبحت هذه العقلية مهيأة للنظر والإبداع الفلسفي". فالعقلية الإسلامية، ثمرة للمنهج القرآني الذي حثَّ على النظر والاعتبار والتأمل في آفاق الكون ومكنونات النفس". و قد كثر البحث في العصر العباسي في العقائد و اتخذ ألواناً لم تكن أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولا الأولين من صحابته، وأخذت هذه البحوث تتركز ليتكون منها علم جديد يسمى علم الكلام. ولنشأته أسباب داخلية وأخرى خارجية.
العوامل الداخلية:
لقد كان للحروب الداخلية في المجتمع الإسلامي أثر هامّ في تطوير النقاش في الموضوعات العقائدية، وتوالد أسئلة جديدة تتمحور حول حكم مرتكب الكبيرة، وخلق أفعال العباد، وحرية واختيار المكلّف.. وغيرها. كذلك عملت الفتوحات على إدخال شعوب عديدة في الإسلام، لبثت مدّة طويلة في نحل كتابية أو وثنية، ولم تستطع حركة الدعوة العاجلة تحرير وعي هؤلاء المسلمين من ترسبات أديانهم ونحلهم السابقة، فنجم عن ذلك شيوع مناخ فكري مضطرب يموج برؤى متقاطعة، و سجالات صاخبة، غذّتها في فترة لاحقة أفكار ومقولات المنطق والفلسفة، والتي تدفقت من مراكز الترجمة خاصة في عصر المأمون العباسي.
تعرض القرآن بجانب دعوته إلى التوحيد لأهم الفرق والديانات التي كانت منتشرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليهم ونقض أقوالهم. فكان طبيعياً أن يسلك علماء المسلمين مسلك القرآن في الرد على المخالفين، وكلما جدد المخالفون وجوه الطعن جدد المسلمون طرق الرد.
كاد ينتهي العصر الأول في إيمان خالص من الجدل، ولما فرغ المسلمون من الفتح واستقروا أخذوا ينظرون ويبحثون، فاستتبع هذا اختلاف وجهة نظرهم فاختلفت الآراء والمذاهب.
خلافهم في المسائل السياسية كان سبباً في الخلاف الديني. و أصبحت الأحزاب فرقاً دينية لها رأيها: فحزب "علي" تكون منه الشيعة، ومن لم يرض بعلي تكون منهم الخوارج، ومن كره خلاف المسلمين كون فرقة المرجئة وهكذا.
3.2. المطلب الثاني:العوامل الخارجية
1. كثير ممن دخل الإسلام بعد الفتح كان من ديانات مختلفة يهودية ونصرانية ومجوسية وصابئة وبراهمة وغيرها وقد أظهروا آراء دياناتهم القديمة في لباس دينهم الجديد.
2. جعلت الفرق الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة همها الأول الدفاع عن الدين، والرد على المخالفين، وكانت البلاد الإسلامية معرضاً لكل الآراء والديانات، يحاول كل فريق تصحيح رأيه وإبطال رأي غيره، وقد تسلحت اليهودية والنصرانية بالفلسفة فدرسها المعتزلة ليستطيعوا الدفاع بسلاح يماثل سلاح المهاجم.
3. حاجة المتكلمين إلى الفلسفة اضطرتهم إلى قراءة الفلسفة اليونانية والنطق والتكلم في شأنها والرد عليها.
4. المبحث الثالث:خصائص الفلسفة الإسلامية
عالجت الفلسفة الإسلامية المشاكل التقليدية الكبرى، وهي مشكلة الإله، والعالم، والإنسان، وفصّلت القول فيها، متأثرة أولاً ببيئتها والظروف المحيطة بها، ومستعينة ثانياً بما وصل إليها من دراسات فلسفية سابقة، شرقية كانت أو غربية. وانتهت إلى طائفة من الآراء التي إن اختلفت في بعض التفاصيل باختلاف رجالها، فإنها تلتقي في مذهب شامل ونظريات مشتركة . وتمتاز بوجه عام بالمميزات الآتية:
4.1. المطلب الأول:فلسفة دينية وروحية
1- فلسفة دينيــة وروحية:
تقوم الفلسفة الإسلامية على أساس من الدين، وتعول على الروح تعويلاً كبيراً. هي فلسفة دينية لأنها نشأت في قلب الإسلام، وتربى رجالها على تعاليمها، واشربوا بروحه، وعاشوا في جوّه. وهي إنما جاءت امتداداً لأبحاث دينية ودراسات كلامية سابقة. ومن الخطأ أن يظن أن الفكر الفلسفي الإسلامي لم يولد إلا في القرن الثالث للهجرة على أيدي الكندي فيلسوف العرب (865)، بل سبقه في مدرسة المعتزلة مكفرون آخرون ذوو مذاهب فلسفية مكتملة، أمثال النظام (845) وأبي الهذيل العلاّف(849) ، والدراسات الكلامية في صميمها باب من أبواب الفلسفة، والكندي نفسه يمكن أن يعدّ بين جامعة المعتزلة، وكثراً ما يحاول فلاسفة الإسلام بوجه عام- شأن المفكرين الإسلاميين الآخرين- أن يدعموا آراءهم بأسانيد من الكتاب والسنّة.
والفلسفة الإسلامية دينية في موضوعاتها، تبدأ بالواحد ، وتحلل فكرة الإلوهية تحليلاً شاملاً دقيقاً لم تسبق إليه. وكأنما كانت تباري المدارس الكلامية المعاصرة من معتزلة وأشاعرة، فتتدارك نقصها، ومع في تصوير البارئ جل شأنه تصويراً أساسه التجريد والتنزيه، والوحدة المطلقة والكمال التام، وعن الواحد صدر كل شيء، فهو المبدع والخالق، أبدع من لا شيء، وخلف العالم في الأزل، ونظمه وسيرّه، فالعالم معلول له في وجوده وبقائه، أبدعه بمحض فضله، ووعاه بعنايته، وأخضعه لقوانين ثابتة ونظم محكمة. وعلى هذا فالطبيعة والكسمولوجيا مرتبطتان في الفلسفة الإسلامية ارتباطاً وثيقاً بالمتافزيقا. ولا يخرج علم النفس والخلاق عن ذلك كثيراً، فالنفوس البشرية، مهما اختلف فلاسفة الإسلام في حقيقتها وخلودها، يسلمون جميعاً بأن فيها شيئاً نورانياً وإلهياً.
فهي لا تستطيع الكشف عن الحقائق الكلية إلا بمدد ساوي وفيض علوي، وبعبارة أخرى إلا بمعونة العقل الفعَّال إن شئنا أن نستعمل لغة الفارابي (950) وابن سينا(1037). وكمالها في أن تسمو عن طريق النظر والتأمل إلى مرتبة الاتصال بالعالم العلوي، ويسلم فلاسفة الإسلام جميعاً، بين مشارقه ومغاربه، بهذا الاتصال، حتى ابن رشد ( 1198) الذي يبدو عليه أنه يربط النفس بالجسم برابط أوثقن على نحو ما صنع أرسطو. وللفضائل قيم ذاتية، والحلال بين، والحرام بين، وفي وسع العقل البشري أن يكشف عن ذلك، ولكن الوحي يدعم العقل ويؤيده.
وما من فلسفة دينية إلا وللروح فيها نصيب ملحوظ، والأديان تخاطب عادة قبل أن تخاطب العقول. ويرى فلاسفة الإسلام أن الروح مصدر الحياة والحركة والإدراك. وسيلة البهجة والسعادة. ففي الكائنات الحية نفوس تغذيها وتحركها ، وتُعد بعضها بالعلم والمعرفة، فهناك نفوس نباتية، وأخرى حيوانية، وثالثة إنسانية، ولكل فلك من الأفلاك السماوية نفس خاصة به. مملوءة شوقاً ورغبةً في الكمال ، فتتحرك وتحرك فلكها، ورئيس المدنية الفاضلة أو الجمهورية المثلى بشر سمت نفسه وتخلصت من شوائب البدن، وأضحى نبيًّا فيلسوفاً يسوس الناس بالحكمة، ويدير شؤونهم بالعدل والقسطاس فعالم السماء وعالم الأرض محكومان عند فلاسفة الإسلام بالنفوس الفاضلة ونزعتهم الروحية أوضح من أن نطيل الحديث فيها.
بهذا الطابع الديني والروحي استطاعت الفلسفة الإسلامية أن تقترب من الفلسفة المدرسية، بل وأن تتلاقى مع بعض الفلسفات الحديثة والمعاصرة. وما كان لرجال الدين في القرون الوسطى أن ينكروا فلسفة تقول بالخلق والإبداع، وتبرهن على خلود الروح، وتؤمن بالجزاء والمسؤولية والبعث والسعادة الأخروية. ولقد وصل الأمر بروجر بيكون (1294) أنه كان معجباً (( بنظرية الخلافة والإمامة الإسلامية )) ، على نحو ما شرحها ابن سينا في كتاب الشفاء، إلى حد أنه شاء أن يطلق على البابا لقب ((خليفة الله في أرضه)).
4.2. المطلب الثاني:فلسفة عقلية.
- فلسفة عقلية:
وبرغم هذا الطابع الديني والروحي تعتدّ الفلسفة الإسلامية، بالعقل اعتداداً كبيراً، وتعوّل عليه التعويل كله في تفسير مشكلة الإلوهية، والكون، والإنسان . فواجب الوجود عقل محض، بعقل ذاته بذاته، فهو عاقل ومعقول في آن واحد. وعنه صدر العقل الأول ، فهو أول شيء خلقه الله وفي سلسلة متلاحقة صدرت العقول الأخرى التي تدير شؤون السماء، فيما عدا العقل العاشر، أو العقل الفعّال، الذي يرعى شؤون الأرض. وليس بغريب أن تكون شؤون السماء أنظم وأحكم، لأن العقول المفارقة والنفوس الفلكية هي التي تشرف عليها. ولعالم السموات قداسة عرفها اليونان من قديم، وأيدتها الأديان السماوية. وعن العقل العاشر صدر عالم الكمون والفساد، فمنه استمدت العناصر الأولية، التي نشأ عنها المعدن ، والنبات ، والحيوان ، ثم الإنسان الذي هو أشرف الكائنات.
والعقل البشري قوة من قوى النفس ويسمى النفس الناطقة. وهو ضربان : عملي يسوس البدن، وينظم السلوك، ونظرى يختص بالإدراك والمعرفة. فهو الذي يتقبل المدركات الحسية، ويستخلص منها المعاني الكلية بعون من العقل الفعّال، الذي هو من نفوسنا بمثابة الشمس من أبصارنا، وفي وسع العقل البشري أن يسمو إلى مرتبة يستطيع أن يتصل فيها مباشرة بالعقول المفارقة، فتنكشف له المعقولات دفعة. ويخلص إلى عالم القدس واللذّة العليا، وهذه هي السعادة التي ليست وراءها سعادة.
بالعقل نعلّل ونبرهن، وبه نكتشف الحقائق العلمية فهو باب هام من أبواب المعرفة، وليست المعارف كلها منزلة، بل منها ما يستنبطه العقل ويستخلصه من التجربة. وفي منطق أرسطو ما يرسم طرائق الحدّ والبرهان، وقيمة البرهان فيما يعتمد عليه من مقدمات يقينية يقرها العقل ويسلم بها جميع الناس. وكم أعجب فلاسفة الإسلام بهذا المنطق وعنوا بشرحه وتلخيصه، وسموا صاحبه (( المعلم الأول)) لأنه بحق ((المنطقي الأول)). أفادوا من منطقته كثيراً في درسهم وبحثهم وطبقوه في جدلهم ومناقشاتهم ، واستعانوا به في إثبات كثير من القضايا الدينية على نحو ما صنع المعتزلة والأشاعرة. وقد عرف من الأشعري (935)، زعيم أهل السنة، أنه كثيراً ما لجأ إلى القياس الأرسطي في برهنته الدينية.
والواقع أن فلاسفة الإسلام بنزعتهم العقلية يلتقون بوجه خاص مع المعتزلة الذين سبقوهم إلى تعظيم العقل والنزول عند حكمه، وقد سموا ((مفكري الإسلام الأحرار)) . حكموا العقل في أمور كثيرة، فاتفقوا على أن الإنسان قادر بعقله على التمييز بين حسن الأشياء وقبحها، وعلى التفرقة بين الخير والشر قبل ورود الشرع، وقالوا بالصلاح والأصلح ، فلا يخلو فعل من أفعاله تعالى من الخير والصلاح. وقرروا حرية الإرادة وقدرة العبد على خلق أفعاله، كي يكون للثواب والعقاب معنى. وتأولوا النصوص الدينية التي لا تتمشى مع العقل، ولا يقرها المنطق. وأتوا بحجج عقلية بارعة في دفاعهم عن الدين وردهم على خصومه، ولهم في ذلك مجالس ومناظرات كانت مضرب المثل. وبالجملة يعد المعتزلة في مقدمة العقليين في الإسلام. وهم أقرب الفرق الإسلامية إلى الفلاسفة. ويقترب منهم في هذا أيضاً جماعة الإسماعيلية وبعض المتصوفين الفلاسفة ، أمثال السهروردي المقتول(1191)، وابن عربي(1240) ، وابن سبعين(1270). واستطاع هؤلاء جميعاً أن يبرزوا التيار العقلي في الإسلام، وان يدعموه ويؤيدوه، ووجدوا في الكتاب والسنة ما يتمشى معه ويغذيه.
وقد انتقل هذا التيار إلى الفلسفة المسيحية وكان فلاسفة الإسلام بوجه خاص حملة رايته وأثاروا في القرن الثالث عشر حركة فكرية قوية، فأيدهم بعض المدرسين وعارضهم آخرين. ونمت الدراسات العقلية نمواً كبيراً، وكانت الدراسات الفلسفية في القرون السابقة أقوى وأغلب . ويوم ان يتقابل العقل والنقل تقابلاً واضحاً في بيئة دينية، تثار الخصومة بينهما، وتمس الحاجة إلى تغليب احدهما على الآخر أو التوفيق بينهما. ويمتاز القرن الثالث عشر بكثرة ما صدر فيه من قرارات كنسية تحرم كتباً فلسفية أو دراسات عقلية بعينها، وإن لم تمنع عشّاق هذه الدراسات من التعلّق بها. ولا نزاع في أن ازدياد سلطان العقل يعدو على نفوذ الكنيسة ، ويفسح السبيل لبحث حقوقها وواجباتها، وأمر آخر يمكن لاحظته ، وهو أن مشكلة التوفيق بين الفلسفة والدين لم تثر من قبل في الفلسفة المسيحية مثلما أثيرت في القرن الثالث عشر على أثر اتصال اللاتينيين بالفلسفة العربية.
4.3. المطلب الثالث:فلسفة توفيقية.
- فلسفة توفيقيــة:
- فلسفة توفيقيــة:
توفق بين الفلاسفة بعضهم وبعض، وقد عرف العرب شيئاً من الفلسفات الشرقية القديمة، كما عرفوا شيئاً عن السابقين لسقراط، والسفسطائيين ، والسقراطيين، وأنصاف السقراطيين، والرواقيين والأبيقوريين، وجماعة الشكاك ، ورجال مدرسة الإسكندرية. ولكنهم عنوا خاصة بأفلاطون وأرسطو، فترجموا للأول أهم محاوراته ، وهي : الجمهورية ، والنواميس ، وطيماوس، والسوفسطائي، والسياسي، وفيدون، واحتجاج سقراط. وترجموا للثاني مصنفات الكهولة كلها تقريباً، من منطقية وطبيعية وميتافزقية ، وأخلاقية ، وكانت الخطابة والشعر، وهما كتابان فنيان ، يعدّان عندهم بين الكتب المنطقية. ولم يفتهم إلا كتبه السياسية، وقد احلوا محلها جمهورية أفلاطون، وبعض كتبه الأخلاقية . وأضافوا إل هذا مؤلفات منحولة ليست من عمل أرسطو، مثل السماء والعالم ، وكتاب الربوبية، ولم يقنعوا بترجمة الكتب الأرسطية وحدها، بل حرصوا ما استطاعوا على أن يترجموا معها شروحاً ، وكانت لهذه الشروح شأن كبير في نظرهم، وعرفوا من الشرائح تاوفرسطس(287ق.م) خليفة أرسطو الأول، والإسكندر الأفروديسي(211) الذي كان يسميه ابن سينا ((فاضل المتأخرين)). وعرفوا من شراح مدرسة الإسكندرية عدداً غير قليل، أمثال : أمونيوس سكاس(أوائل القرن الخامس) ، ويحيى النحوي ( 643). وربما كان هؤلاء أعظم أثراً من المشّائين الأول، لأنهم كانوا إلى العرب أقرب، وفي نظريتهم الدينية ما يلائم بين فلسفتهم والفكر الإسلامي ، وهم على كل حال مصدر هام من مصادر الأفلاطونية والافلوطينية في العالم العربي .
فعرف العرب إذن أفلاطون وأرسطو معرفة مباشرة، عن طريق مؤلفاتهما، إلى جانب ما نقله عنهما المؤرخون، أمثال فلوطوخس(125) وجالينوس(200)، وما نقله عنهما حنين بن إسحق (877) في كتابه نوادر الفلاسفة والحكماء. وقد أثر تأثيراً كبيراً في كثير من المدارس الإسلامية وحولهما بوجه خاص دار التوفيق بين الفلاسفة. وللفارابي في هذا موقف واضح، فهو يؤمن بوحدة الفلسفة، وأن كبار الفلاسفة يجب أن يتفقوا فيما بينهم، ما دامت الحقيقة هدفهم جميعً. ولا شك في أن أفلاطون وأرسطو هما زعيما الفلسفة، وضعا أصولها، وفضلا القول فيها، وبلغا بها الغاية، ولا سبيل لأن يتصور خلاف بينهما.
ولا يمكن أن ننتظر نجاح محاولة أساها خاطئ، فالأفلاطونية شيء والأرسطية شيء آخر. ولكن لهذه المحاولة شأناً كبيراً في تاريخ الفلسفة الإسلامية، فهي نقطة بدء سار عليها الفلاسفة اللاحقون. ونلاحظ أن ابن سينا لم يعن بالتفرقة بين أفلاطون وأرسطو، وفي فلسفته جانب أفلاطوني واضح.. ونلمح لدى ابن باجّة(1138) وابن طفيل(1185) ، اتجاهات أفلاطونية وأفلوطينية قوية، وإذا كان ابن رشد قد اخذ على عاتقه العودة إلى أرسطو وتخليص أرسطية مما لحق بها من عناصر أجنبية، فإنه لمن سليم هو نفسه من هذه العناصر، وبدت فلسفته في جملتها استمراراً للفلسفة التي قال بها الفارابي وابن سينا. وعلى هذا تربط الفلسفة الإسلامية الأفلاطونية بالأرسطية، وتوفق بينهما وتنسقهما وتضيف إليهما أموراً أخرى، وبذا أصبحت هي نفسها مذهباً جديداً ذا شخصية مستقلة.
إذ كان التوفيق بين أفلاطون وأرسطو يعد أساساً من الأسس التي قامت عليها الفلسفة الإسلامية، فإن أساسها الثاني هو التوفيق بينها وبين الدين. وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أنها فلسفة ذات طابع ديني واضح. حاولت في جد التوفيق بين النقل والعقل. ونستطيع أن نقرر أن فلاسفة الإسلام دون استثناء شغلوا بهذا التوفيق، من الكندي إلى ابن رشد، وبذلوا فيه جهوداً ملحوظة، وأدلوا بآراء لا تخلو من جدة وطرافة. وكان لمجهودهم أثر في انتشار الفلسفة، ونفوذها إلى صميم الدراسات الإسلامية الأخرى.
والتوفيق تقريب بين جانبين، وجمع بين طرفين،وفي الفلسفة نواح لا تتفق مع الدين، وفي بعض النصوص الدينية ما قد لا يتمشى مع وجهة النظر الفلسفية، لذلك عني فلاسفة الإسلام بأن يصبغوا الفلسفة بصبغة دينية، وأن يسكوا بعض التعاليم الدينية بكساء فلسفي ويكاد يدور توفيقهم حول هذين البابين.
ولاشك في أن التوفيق الذي حاوله الفلاسفة المسلمون يعد وشيجة من وشائج القربى بين الفلسفة العربية والفلسفية واللاتينية. ففي أخذ العرب عن أفلاطون ما قربهم من الأوغسطينيين ورجال المدرسة الفرنسسكانية بوجه خاص، وقد رأى هؤلاء في بعض النظريات الإسلامية ما يتلاقى مع آراء ألقوها منت قبل، فاستساغوها واطمأنوا إليها. وفي تعلق فلاسفة الإسلام بأرسطو ما وجه إليه أنظار المسيحيين، وحملهم على ترجمة كتبه، ودفع كثيرين من رجال القرن الثالث عشر إلى درسه والتعليق عليه وبخاصة القديس توما الأكويني (1274)، الذي يعتبر في هذه الناحية بين اللاتينيين بمثابة ابن رشد بين العرب.
وإذا كان المسيحيون في القرون الوسطى قد حرصوا الحرص حله على التفرقة بين الفلسفة والدين، فإن فلسفتم في أساسها دينية، ولم يترددوا في أن يستعينوا بالعقل والمنطق على إثبات كثير من القضايا اللاهوتية، ويرى ألبير الكبير (1280) أن التعاون بين الفلسفة واللاهوت ممكن ونافع، وأن العقل والنقل لا يتعارضان، وإن كان للنقل أمور خاصة به، وتلميذه القديس توما الأكويني في آن واحد شيخ الفلاسفة وشيخ اللاهوتيين في القرن الثالث عشر، وقد سار على نهج أستاذه في التوفيق بين الفلسفة والدين، فهو يرى أن كثيراً من الحقائق النقلية يزداد وضوحاً بالأدلة العقلية، وليس بلازم أبداً أن يكون كل ما فوق الطبيعة مخالفاً للعقل.
4.4. المطلب الرابع:فلسفة وثيقة الصلة بالعلم.
فلسفة وثيقـة الصلة بالعلـم:
وأخيراً الفلسفة الإسلامية وثيقة الصلة بالعلم تغذيه ويغذيها، وتأخذ عنه ويأخذ عنها، ففي الدراسات الفلسفية علم وقضايا علمية كثيرة، وفي البحوث العلمية مبادئ ونظريات فلسفية والواقع أن فلاسفة الإسلام كانوا يعتبرون العلوم العقلية جزءاً من الفلسفة ، وفد عالجوا مسائل في الطبيعة كما عالجوا مسائل في الميتافزقيا. ومن أوضح الأمثلة على ذلك كتاب الشفاء، أكبر موسوعة فلسفية عربية، فإنه يشتمل على أربعة أقسام: ينصب أولها على المنطق والثاني على الطبيعيات، والثالث على الرياضيات، والرابع على الإلهيات. وفي قسم الطبيعيات يدرس ابن سينا علم النفس، والحيوان، والنبات، والجيولوجيا. وفي قسم الرياضيات يدرس الهندسة والحساب والفلك والموسيقى.
وفلاسفة الإسلام علماء، ومن بينهم علماء مبرزون، فالكندي عالم قبل أن يكون فيلسوفاً، عني بالدراسات الرياضية والطبيعية، وكان يرى – كما رأى أفلاطون من قبل – أن الإنسان لا يكون فيلسوفاً قبل أن يدرس الرياضة. واجتهد في تطبيق الرياضيات في الفلك والطبيعة والطب، بل في الميتافزيقا حيث حاول أن يبرهن على وجود الله برهنة رياضية، وعوّل على التجربة، واستخدمها في بعض دراساته الكيميائية وكان في مقدمة الإسلاميين الذين أبطلوا دعوى صنع الذهب والفضة من غير معدنيهما، وعد في عصر النهضة واحداً من اثنى عشر قطباً من أقطاب الفكر في العالم. وللفارابي بحوث في الهندسة وعلم الحيل (الميكانيكي)، وهو دون نزاع أكبر موسيقي الإسلام، عرض الموسيقى في عدة كتب وخاصة في كتاب الموسيقى الكبير، وأدخل على الموسيقى اليونانية إضافات جديدة. وابن سينا حجة في الطب بقدر ما هو حجة في الفلسفة، تعلم الطب في سن مبكرة، وزاوله عملاً ولما يجاوز العشرين، وأحرز فيه شهرة فائقة، وتوسع فيه درساً وبحثاً، وكتابه القانون من أهم المؤلفات الطبية العربية، وقد بقى يتدارس في جامعات أوروبا إلى القرن السادس عشر، وفي بعض المعاهد الإسلامية إلى أوائل هذا القرن، ولم يخرج الأمر في الأندلس عن ذلك كثيراً، فقد كان فلاسفته الثلاثة الكبار: ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد أطباء وإن تفاوتت رتبهم، وكتاب الكليات في الطل لابن رشد، الذي ترجم إلى اللاتينية في منتصف القرن الثالث عشر مثال جيد لعرض القضايا الكلية والمبادئ العامة.
والواقع أن العلوم الطبيعية والرياضية وثيقة الصلة بالدراسات الفلسفية في الإسلام، ولا يمكن أن يفهم أحدهما بدون الآخر، ويوم أن ضعف البحث الفلسفي ضعفت معه الدراسات العلمية، وإذا كنا قد أشرنا إلى الفلاسفة العلماء، فإنا نستطيع أن نضيف إليهم العلماء الفلاسفة. ويمكن أن نذكر أن من بينهم محمد بن زكريا الرازي (320-932)ن وهو دون نزاع أكبر طبيب في الإسلام، بل في القرون الوسطى على الإطلاق، ويمتاز بالأصالة ودقة الملاحظة، واستطاع أن يكشف عن أمراض لم تكن معروفة من قبل، وكتابه الحاوي في مقدمة كتب الطب العربية، التي عول عليها اللاتين. وقد منح الكيمياء قسطاً كبيراً من عنايته، وهو في طبه وفلسفته واثق من نفسه كل الثقة، ينتقد جالينوس، ولا يتردد في أن يهاجم أرسطو، وأبو الحسن بن الهيثم (1039) من أعظم الرياضيين والطبيعيين في القرون الوسطى، انتهى في البصريات إلى آراء ونظريات أكبرها المدرسيون، وسبق بها علماء عصر النهضة والتاريخ الحديث، وشاء أن يطبق هندسته في مجرى النيل بمصر، وينظم الري، ويحول دون الفيضانات الطاغية، وأولع كذلك بالفلسفة، لأنها في رأيه أساس ينبغي أن تقوم عليه العلوم جميعها، وكان معجباً بأرسطو شأن المشائين العرب، فدرس كتبه وعلق عليها.
ويمكن أن يلاحظ أن الحركات العلمية في الإسلام سبقت الدراسات الفلسفية، ولابد لنا أن نعيش قبل أن نتفلسف، ويوم استقر العرب في بلاد فارس ومصر، لفتت نظرهم حركات علمية في جنديسابور وحران والإسكندرية، فحاولوا أن يفيدوا منها، وشغلوا أولاً بما تقتضيه ظروف الحياة، وإنا لنرى خالد بن يزيد الأموي (704) يعنى في عهد مبكر بالكيمياء والطب والنجوم، ودعا في أثناء ولايته على مصر بعض المتخصصين لترجمة رسائل فيها عن اليونانية، أو القبطية، ويوم اتجه المنصور (775) نحو مدرسة جنديسابور، التي أسسها كسرى أنوشروان، إنما كان يبحث عن أطباء لا عن فلاسفة، وقد اهتدى إلى بني بخيشوع الذين كان لهم شأن في نشأة الدراسات الطبية العربية، وإسهام في حركة الترجمة الكبرى، وهذه الحركة مدينة بوجه خاص لرجال الصدر العباسي الأول، فقد جعلوا من بغداد مركزاً لحركة أكبر حركات الترجمة في التاريخ، والمترجمون أنفسهم رواد في ميدان البحث العلمي، فحنين ابن اسحق (877) شيخ المترجمين في الإسلام طبيب، وطبيب عيون بوجه خاص، وقد تخصص في ترجمة كتب أبقراط (370ق.م) وجالينوس (200)، وجمع منها اكبر عدد ممكن، وثابت بن قرة (901)رياضي مترجم، ويكاد يتخصص في ترجمة كتب إقليدس (285ق.م) وأرشميدس (212ق.م) وبطليموس (161)، ولم يكن غريباً أن يعنى الكندي، اول مشائي العرب، بالرياضية والفلك والكيمياء. كما بينا من قبل فقد عاصر هؤلاء المترجمين وعاش معهم.
وقد أسهمت بعض الجماعات السياسية في الحركات العلمية الناشئة، وللشيعة بوجه عام والإسماعيلية بوجه خاص شأن في تاريخ العلم والفلسفة في الإسلام، ففي أخريات القرن الثامن الميلادي، ظهرت في الكوفة حركة علمية ترمي إلى البحث عن خصائص المعادن والنبات، وقد تزعمها جابر بن حيان الوفي (776) الذي يمت إلى الشيعة بنسب، ويعد ((أبو الكيمياء العربية)) وإليه تعزى مجموعة كبيرة من الرسائل ترجمت كلها إلى اللاتينية، وقد عمرت مدرسته من بعده، وعززت التجربة واستخدمت الأجهزة والآلات، وإخوان الصفا الذين ظهروا في النص الأخير من القرن العاشر جماعة سرية سياسية ولهم صلة بالإسماعيلية، وقد مزجوا العلم بالفلسفة، ورسائلهم نموذج من الثقافة العامة السائدة، وجملتها 51 رسالة، وتنقسم إلى أربعة أقسام: رياضيات، وطبيعيات، وعقليات، وإلهيات. عدا الرسالة الحادية والخمسين التي تسمى ((الجامعة))، وهي توضح هدفهم وتجمل ما ورد في الرسائل الأخرى.
ولا نزاع في أن أرسطو قد غذّى الثقافة الإسلامية بعلمه، بقدر ما غذاها بمنطقه وفلسفته، وكان له ولوع كبير بعلم الأحياء إلى حد أنه أعد في ((اللوقيون)) متحفاً خاصاً لبقايا الحيوانات، ترجمت كتبه الطبيعية إلى العربية، وكانت مدداً للفلاسفة والعلماء على السواء، ولم يقف العرب عندما وضعه بنفسه، بل أضافوا إليه كتباً من صنع آخرين، مثل كتاب النبات (De plantis) الذي هو بيقين من تأليف تلميذه تاوفرسطس، وكتابه العالم (Du mondo) الذي يصعد في الغالب إلى بوزيد ونيوس (50) ، من أواخر رؤساء المدرسة المشائية، وفي تقسيم أرسطو المعروف للعلوم يضع الطبيعيات إلى جانب الرياضيات والإلهيات، فيربط العلم والفلسفة برباط وثيق تأثر به فلاسفة الإسلام وعلماؤه.
وكان لهذا التآخي صداه في الفلسفة المسيحية في القرن الثالث عشر، يدرس العلم مع الفلسفة جنباً إلى جنب، ويغذيان بغذاء أرسطي عربي، ومن مفكري هذا القرن من يعد فيلسوفاً وعالماً على السواء، فألبير الكبير يدعو إلى دراسة العلم والفلسفة معاً، ويفسح لهما المجال في دراساته اللاهوتية، ويدفع البحث العلمي دفعة قوبة، ويعنى مثل كثير فلاسفة الإسلام بالفلك والجغرافيا، والحيوان والنبات، والكيمياء والطب. وصبغ روبير جروسيت (1253) الدراسات اللاهوتية في جامعة أكسفورد بصبغة علمية قوبة، ولعله هو الذي وجهها هذه الوجهة منذ البداية، وله آراء هامة في الفلك والطبيعة، والبصريات والسمعيات، وعلى نهجه سار تلميذاه روجر بيكون الذي كان معجباً بمفكري العرب، وحذا حذوهم في الأخذ بالملاحظة ودراسة الطبيعة ووضع دعائم المنهج التجريبي، وكتابه الهام (Opus MajuS) محاكاة لشفاء ابن سينا الذي كان يعرفه جد المعرفة، ففيه دراسات علمية متنوعة رياضية وطبيعية إلى جانب دراساته الفلسفية واللاهوتية.
5. خاتمة
و من كل ما تقدم يمكننا أن نستنتج أن الفلسفة الإسلامية تشكلت، وصارت واحدة من الإبداعات المعرفية للحضارة الإسلامية، و انخرطت في دراستها وتدريسها والتأليف فيها قطاع كبير من العلماء المسلمين، منذ نهاية القرن الهجري الأول، وبلغت ذلك ذروتها في القرن الرابع، وصار تنوع الأقوال في الفلسفة الإسلامية هو الأساس لوجود الفرق و لاتجاهات المختلفة في الإسلام، فميلاد أية فرقة، ونموها، وتأثيرها في مسار الحياة الإسلامية، بات يتوقّف على بنائها آراء و تصورات مستدلة في القضايا العقائدية.