4. المبحث الثالث:خصائص الفلسفة الإسلامية
4.2. المطلب الثاني:فلسفة عقلية.
- فلسفة عقلية:
وبرغم هذا الطابع الديني والروحي تعتدّ الفلسفة الإسلامية، بالعقل اعتداداً كبيراً، وتعوّل عليه التعويل كله في تفسير مشكلة الإلوهية، والكون، والإنسان . فواجب الوجود عقل محض، بعقل ذاته بذاته، فهو عاقل ومعقول في آن واحد. وعنه صدر العقل الأول ، فهو أول شيء خلقه الله وفي سلسلة متلاحقة صدرت العقول الأخرى التي تدير شؤون السماء، فيما عدا العقل العاشر، أو العقل الفعّال، الذي يرعى شؤون الأرض. وليس بغريب أن تكون شؤون السماء أنظم وأحكم، لأن العقول المفارقة والنفوس الفلكية هي التي تشرف عليها. ولعالم السموات قداسة عرفها اليونان من قديم، وأيدتها الأديان السماوية. وعن العقل العاشر صدر عالم الكمون والفساد، فمنه استمدت العناصر الأولية، التي نشأ عنها المعدن ، والنبات ، والحيوان ، ثم الإنسان الذي هو أشرف الكائنات.
والعقل البشري قوة من قوى النفس ويسمى النفس الناطقة. وهو ضربان : عملي يسوس البدن، وينظم السلوك، ونظرى يختص بالإدراك والمعرفة. فهو الذي يتقبل المدركات الحسية، ويستخلص منها المعاني الكلية بعون من العقل الفعّال، الذي هو من نفوسنا بمثابة الشمس من أبصارنا، وفي وسع العقل البشري أن يسمو إلى مرتبة يستطيع أن يتصل فيها مباشرة بالعقول المفارقة، فتنكشف له المعقولات دفعة. ويخلص إلى عالم القدس واللذّة العليا، وهذه هي السعادة التي ليست وراءها سعادة.
بالعقل نعلّل ونبرهن، وبه نكتشف الحقائق العلمية فهو باب هام من أبواب المعرفة، وليست المعارف كلها منزلة، بل منها ما يستنبطه العقل ويستخلصه من التجربة. وفي منطق أرسطو ما يرسم طرائق الحدّ والبرهان، وقيمة البرهان فيما يعتمد عليه من مقدمات يقينية يقرها العقل ويسلم بها جميع الناس. وكم أعجب فلاسفة الإسلام بهذا المنطق وعنوا بشرحه وتلخيصه، وسموا صاحبه (( المعلم الأول)) لأنه بحق ((المنطقي الأول)). أفادوا من منطقته كثيراً في درسهم وبحثهم وطبقوه في جدلهم ومناقشاتهم ، واستعانوا به في إثبات كثير من القضايا الدينية على نحو ما صنع المعتزلة والأشاعرة. وقد عرف من الأشعري (935)، زعيم أهل السنة، أنه كثيراً ما لجأ إلى القياس الأرسطي في برهنته الدينية.
والواقع أن فلاسفة الإسلام بنزعتهم العقلية يلتقون بوجه خاص مع المعتزلة الذين سبقوهم إلى تعظيم العقل والنزول عند حكمه، وقد سموا ((مفكري الإسلام الأحرار)) . حكموا العقل في أمور كثيرة، فاتفقوا على أن الإنسان قادر بعقله على التمييز بين حسن الأشياء وقبحها، وعلى التفرقة بين الخير والشر قبل ورود الشرع، وقالوا بالصلاح والأصلح ، فلا يخلو فعل من أفعاله تعالى من الخير والصلاح. وقرروا حرية الإرادة وقدرة العبد على خلق أفعاله، كي يكون للثواب والعقاب معنى. وتأولوا النصوص الدينية التي لا تتمشى مع العقل، ولا يقرها المنطق. وأتوا بحجج عقلية بارعة في دفاعهم عن الدين وردهم على خصومه، ولهم في ذلك مجالس ومناظرات كانت مضرب المثل. وبالجملة يعد المعتزلة في مقدمة العقليين في الإسلام. وهم أقرب الفرق الإسلامية إلى الفلاسفة. ويقترب منهم في هذا أيضاً جماعة الإسماعيلية وبعض المتصوفين الفلاسفة ، أمثال السهروردي المقتول(1191)، وابن عربي(1240) ، وابن سبعين(1270). واستطاع هؤلاء جميعاً أن يبرزوا التيار العقلي في الإسلام، وان يدعموه ويؤيدوه، ووجدوا في الكتاب والسنة ما يتمشى معه ويغذيه.
وقد انتقل هذا التيار إلى الفلسفة المسيحية وكان فلاسفة الإسلام بوجه خاص حملة رايته وأثاروا في القرن الثالث عشر حركة فكرية قوية، فأيدهم بعض المدرسين وعارضهم آخرين. ونمت الدراسات العقلية نمواً كبيراً، وكانت الدراسات الفلسفية في القرون السابقة أقوى وأغلب . ويوم ان يتقابل العقل والنقل تقابلاً واضحاً في بيئة دينية، تثار الخصومة بينهما، وتمس الحاجة إلى تغليب احدهما على الآخر أو التوفيق بينهما. ويمتاز القرن الثالث عشر بكثرة ما صدر فيه من قرارات كنسية تحرم كتباً فلسفية أو دراسات عقلية بعينها، وإن لم تمنع عشّاق هذه الدراسات من التعلّق بها. ولا نزاع في أن ازدياد سلطان العقل يعدو على نفوذ الكنيسة ، ويفسح السبيل لبحث حقوقها وواجباتها، وأمر آخر يمكن لاحظته ، وهو أن مشكلة التوفيق بين الفلسفة والدين لم تثر من قبل في الفلسفة المسيحية مثلما أثيرت في القرن الثالث عشر على أثر اتصال اللاتينيين بالفلسفة العربية.