2. المبحث الثاني:التباين بين الفلسفة والعقيدة الإسلامية

إنّ أوجه الخلاف والتباين الجوهرية بين الدين والفلسفة تكون موجودة بين الدين السماوي المنزل من الله عز وجل وبين الفلسفة التي هي ابتكار إنساني وصنعة بشرية.

 -1 العقيدة الإسلامية ربانية في مصدرها، فهي من عند الله المتصف بالكمال المطلـق ،خالق الكون والإنسان،"فهي تصور اعتقادي موحى به من الله سبحانه ومحصورة في هذا المصدر لا يستمد من غيره..وذلك تمييزاً عن التصورات الفلسفية التي ينشـئها الفكـر البشري حول الحقيقة الإلهية، أو الحقيقة الكونية، أو الحقيقـة الإنسـانية، والارتباطـات القائمة بين هذه الحقائق وتمييزاً له كذلك من المعتقدات الوثنية، التي تنشـئها المشـاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية".([1]) ومادامت ربانية متكاملة شاملة، فإنّ الخير والبركة وكذا السعادة ووفرة الإنتـاج من بركات الالتزام بها، وما دامت ربانية من عند الله عز وجل وتلبي أشـواق الـروح البشرية فإنّها مبرأة من النقص وخالية من العيوب، وبعيدة عن الظلم وبالتالي فإنّها وحدها تشبع الفطرة الإنسانية.

     بينما الفلسفة بشرية في مصدرها؛ أي هي من تفكير العقل البشري وحـده، مـع اعتماده على الخيال الذهني والتفكير المجرد، وهي أيضاً صدىً ً كبيراً للبيئة التي يعـيش فيها الفيلسوف إذ يتأثّر بها إلى حد كبير، لذا فإن هذه الفلسفة تعيش في أذهانهم فقط، أي لم تتفاعل مع مشاعر الناس ونفوسهم، ولم تترك آثاراً إيجابية في سلوك الناس وحيـاتهم ولكون الفلسفة بشرية فإن النقص والاضطراب وعدم الشمول مـن سـماتها وميزاتهـا الجوهرية، ولكونها بشرية لم تنفع البشرية، ولن تتقدم بها خطوة واحدة إلى الأمام.

2- العقيدة الإسلامية ثابتة بثبات مصدرها، وثبات مبادئها وثبات غايتها، قـال تعالى:"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَل ْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلمون". سـورة الروم: 30 ، وقال تعالى"لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه".، وثبات العقيدة لكونها من عند الله، ولقد انقطـع الـوحي بالتحـاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وبقيت نصوص الدين ثابتة إلـى يـوم الدين، وإذا كان الإنسان يتحرك ويتطور وينمو، وتتبدل حاجاته ومتطلباته وتتغير، فـإنّ ذلك يكون داخل إطار العقيدة الثابتة التي تتسع لحركة الإنسان وتطوره.

أمّا الفلسفة فإنّ أنماطها مختلفة ومتغيرة ومتطورة أو كل فيلسوف تختلف فلسفته عن غيره، كما أن فلسفة فترة زمنية معينة تختلف عن فلسفة الفترة التي سبقتها أو التـي تليها.

3 - العقيدة الإسلامية يرتضيها العقل ، ويطمئنّ لها القلب وتستقر في الوجدان وتتفاعـل مع المشاعر والأحاسيس البشرية، وبالتالي تنعكس على سلوك الإنسان وتصـرفاته فـي واقع الحياة ؛وتاريخنا الإسلامي يشهد كيف غيّرت العقيدة حياة الناس و أنماط سـلوكهم وواقعهم الاجتماعي والخلقي والثقافي، فلقد أحدثت العقيدة نقلة كبيرة وتغيراً شاملاً فـي حياة الإنسانية، وبدراسة واقع المجتمع الجاهلي ثم واقع المجتمع الإسلامي نـدرك ذلـك ببساطة وبكل وضوح.

إنّ هناك ً فرقا شاسعاً ً وكبيرا بين من يعبد الله ) الإله (الخالق المتصـف بصـفات الكمال المتصرف في الوجود كله، وبين من يعبد إلهاً مجرداً عن الصفات ليس له صـلة بالعالم، وفرق بين التصور الاعتقادي الرباني المستمد من كتاب الله وسنة نبيه - صـلى الله عليه و سلم –وبين التصور الفلسفي الذي يقوم على التخيلات والأوهام والذي يعتمد على مناهج التفكير الوثني اليوناني .

 -4 إنّ الدّين كمال مطلق ويمتاز بالثبات في أصوله ومبادئه، والصدق في أحكامه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما الفلسفة في كل صـورها ومـذاهبها علـى اختلاف الدهور والعصور هي نتاج العقل الإنساني المحدود القاصـر القابـل للتغييـر والتبديل والتحول، وقد يقترب من الحق، وقد لا يقاربه أبداً .ولذا فإنّ التخالف والتعارض والتفاوت من سمات المذاهب الفلسفية، التي هي فبمجموعها فروض وتقديرات وآراء واجتهادات تدور في فلك الإمكان والاحتمـال، وقـد تقترب من دائرة الأسطورة والخيال كما في الفلسفة الهندية والصينية واليونانية القديمة .

-5 ومن أوجه التباين بين الفلسفة والدين : الاختلاف في طبيعة المنهج : فمـنهج الـدين مبني على الإيمان والتسليم، والمتابعة والانقياد لجملة أصوله وأركانه،والتطبيق العملـي لتشريعاته وأحكامه .أما الفلسفة فبحث عقلي صرف قوامه الحجة والمنطق والاسـتدلال سواء أدى إلى إثبات جملة من قضايا الفطرة – ومنها مبادئ أساسية أثبتهـا الـدين – أم أدى إلى إنكار جملة ما ثبت من الدين بالضرورة، فالفلسفة عبر تاريخها شهدت مـذاهب مؤمنة بوجود الإله الخالق البارئ، ومذاهب ملحدة تنكره وتنكر ما وراء المادة كـالروح والبعث.

 -6 إن العقيدة الإسلامية تعتمد في تقريرها على الأدلة السمعية والعقلية المـأخوذة مـن القرآن والسنة، وهي أدلة قطعية الثبوت والدلالة توصل إلى المطلوب بيسـر وسـهولة، وهي شفاء لما في الصدور، شفاء من ألوان الشبه والشكوك والشبهات، قال تعالى :(يـا أيها النَّاسُ قدْ جَاءَتْكم مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكمْ وَشِفَاءٌ لِمَـا فِـي الصُّـدُورِ وَهُـدًى ٌ وَرَحْمَـة لِلْمُؤْمِنِينَِ) سورة يونس: 57 ، وقـال تعالى: (وَنُنزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِـفَاءٌ ٌ وَرَحْمَـة لِلْمُؤْمِنِينَ (سـورة الإسراء:.82

بينما تعتمد الفلسفة في تصوراتها على الآراء العقلية البشرية القاصـرة، كمـا تعتمد على المصطلحات الغامضة والقضايا الذهنية المجردة التي يصعب فهمهمـا، وإن تيسـّر فهمهما للبعض فإنّهـا لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، لا تفيد علماً ولا عملاً، لا توصل من يدرسها إلى الحق واليقين، ولن تسلمه من الشكوك والشبهات والأهواء، بـل جعلتهم محلاً للطعن والإسقاط، وأدت ببعضهم إلى الضلال، لقد اسـتطاع الشـيطان أن يتطاول على الفلاسفة وأن يتخذهم مطية إلى الضلال والإضـلال مـن جهـة إفـرادهم بمعتقداتهم ومعقولاتهم، وقولهم بالظن، واعتمادهم على الخيال الذهني في مجال العقيـدة دون التفات منهم إلى مسلك الأنبياء وأتباعهم في إثبات العقيـدة وتقريرهـا.

        إنّ الحجـج والبراهين التي تسوقها العقيدة الإسلامية يستفيد منها جميع الناس:عامهم وعلمائهم، بينما براهين وحجج الفلسفة فإنّ فهمها مقصور على طائفة معينة من الناس وهي قليلة، وهـي تكلِّف العقل البشري العنت والمشقة، فلا تكاد تخلو من التعقيد والتكليف والتطويـل، لـذا فإنّها ولَّدت لبعض الناس أمراض الشبه المفسدة للعلم، والمفسدة للإدراك والتصور.

 -7 الواقعية: العقيدة الإسلامية تمتاز بالواقعية، فهي تصـور يتعامـل مـع الحقـائق الموضوعية ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي. لا كالفلسفة التـي تتعامل مع تصورات عقلية مجردة، أو مع مثاليات لا مقابل لها في عـالم الواقـع، أو لا وجود لها في عالم الواقع. ثمّ إن التصميم الذي تضعه العقيدة للحياة البشرية يحمل طابع الواقعيـة، لأنـه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية، ولكنها في الوقت ذاته واقعية مثالية، أو مثاليـة واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج، تملك البشرية أن تصعد إليه. ولا يضرب العقل البشري في التيه كما في الفلسفة ليتمثلها على هواه، في سلسـلة مـن القضايا المنطقية المجردة على طريقة "الميتا فيزيقا" التي لا تفيد شيئاً، لا علما ولا إيماناً.



[1]- خصائص التصور الإسلامي سيد قطب ص.7 -6