1. مشاكل التنظيم في العالم الثالث
في السنوات الأخيرة تغير اهتمام الباحثين في مجال الإدارة العامة والممارسين حيث بعد أن كان الاهتمام ينصب حول "ماذا نفعل" اليوم أصبح الاهتمام موجها نحو "كيف نفعل"، ولهذا عرفت المنظمات العامة والإدارات العمومية ثورة حقيقية في مجال تسييرها ،حيث انتقلت من عقلانية قانونية والمعروفة أكثر في الإدارة العامة التقليدية إلى العقلانية التسييرية .
أولا-مشاكل التنظيم في العالم الثالث :
1-أسباب فشل الإدارة العامة في دول العالم الثالث: منذ نهاية الخمسينيات وحتى بداية التسعينيات من القرن الماضي دار جدل حول مشاكل التنظيم وأسباب فشل الإدارة في دول العالم الثالث، وبرزت هناك ثلاث مجموعات من المدارس أو الاتجاهات التي كان لها آراء متباينة حول أسباب فشل الإدارة في الدول النامية.
فالمجموعة الأولى قد نسبت الفشل في الدول النامية إلى تقليد النماذج الغربية بإحضارها معه عندما كان مستعمرا لهذه الدول.
غير أن المجموعة الثانية رفضت هذا الإدعاء وعللت الأسباب بأنها تكمن في عوامل البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الدول وليس لها علاقة البتة في تلك النماذج الغربية التي تم تبنيها.
أما المجموعة الثالثة فقد أكدت أن النماذج الغربية وكذلك طبيعة العالم الثالث الخالية من التجربة في العامل أو العوامل لتخلف وفشل الإدارة في هذه الدول.
أخذ الاختلاف في وجهات النظر يلعب دوراً هاماً في البحوث والدراسات التي تدور حول فعالية الإدارة العامة في دول العالم الثالث (الدول النامية) وانقسموا كتاب هذه البحوث والدراسات العلمية إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى ويمثلها الكاتب المعروف في مجال الإدارة المقارنة "فيرل هيدي" الذي يرجع بالأساس فشل الإدارة بالدول النامية إلى تقليدها للنماذج الغربية المستوردة، لذا فإن المشكلة في نظره، أن يكون لها حل إلا بالخلاص من هذه النماذج واستبدالها بأخرى تتم صياغتها من داخل البلد نفسه.
أما الكاتب الشهير في مجال الإدارة "فرد رجز" الذي مثل وجهة نظر المجموعة الثانية فقد قال: »إن عدم فعالية أو فشل الإدارة بدول العالم الثالث ليس له علاقة بتبني النماذج الغربية ولا بتعديل صياغتها، بل أن ذلك ناتج عن وجود عوامل بيئية لم يحددها وإنما أشار إليها على أن لها علاقة بالبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة «.
أما وجهة نظر المجموعة الثالثة والأخيرة فيمثلها الكاتب "ميلتون أسمان" الذي آثر أن يكون بين المجموعتين في تحليله الذي وضح فيه أن إعادة صياغة النماذج الغربية وتعديلها بما ينطبق مع طبيعة البلد قد يقلل من المشكلة والسؤال الذي ينبغي طرحه على حد قوله يمكن في الكيفية التي يستطيع من خلالها الإداريين في دول العالم ثالث أن يكيفوا النماذج الغربية لتتمشى مع طرقهم وثقافاتهم المختلفة.
وسوف نوضح بعض التفاصيل الموجزة عن كل مجموعة على حده، علما بأن لكل مجموعة من هذه المجموعات كتاب ومنظرين يؤيدون هذه المجموعة أو تلك في داخل الوطن العربي وخارجه.
2-الاطر التحليلية لأسباب فشل الإدارة في العالم الثالث:
ا-المجموعة الأولى:
هذه المجموعة التي يمثلها "فيرل هيدي" تؤكد أن الدول النامية جميعها سواء المستقلة منها أو التي نالت استقلالها مؤخرا من الاستعمار الغربي تتمتع بسمات عامة منها:
- أن هذه الدول تعودت على استعمال بعض المفاهيم للإدارة البيروقراطية الغربية وعلى هذا الأساس، إن القاعدة الأساسية التي تتكون منها إجراءات وتنظم الإدارة العامة في هذه الدول مقلدة ومستوردة وليست نابعة من مفاهيم أو احتياجات البلد نفسها.
- هذه الدول النامية تستطيع أن تختار ما يتناسب مع تاريخها وتقاليدها وعاداتها حتى لا تكون تلك النماذج سببا في فشلها، وأعطى مثال على ذلك، ما حصل من تأثير النمط الإداري للولايات المتحدة على الفلبين، ورغم المداولات والكتابات والبحوث التي دارت حول هذا الموضوع واختلاف الرأي إلا أن هيدي استمر في التأكيد على وجهة نظره من جديد ومحاولة ترسيخ هذا المفهوم مرة أخرى عند إعادة طبع كتابه الأخير عام 1991م، ففي ظل تلك الاختلافات التي ظهرت في أدبيات الإدارة العامة والتي لا تطبق لبعضها البعض مع ما أكد عليه هيدي في كتابه الأول.
فقد حاول في كتابه الجديد أن يشير إلى أن أسبقية البيروقراطية الغربية التي شكلت البيروقراطية المتطورة في الدول النامية لا تعني أنها أقل ملائمة من تلك التي تنشأ داخل هذه الدول نفسها ولكنها تؤكد أهمية التكيف بعد الاستقلال كحالات متغيرة وخاصة لتعزيز الشرعية لتلك السلطات التي تحاول التقدم نحو تحقيق الهدف التنموي.
لذا فإن استمرار تقليد الدول النامية – على حد قوله – لتلك النماذج الغربية قد نتج عنه عدة عوامل ومنها عجز الحكومة عن إيجاد القوى البشرية الماهرة التي يسند إليها تطوير البرامج التنموية ونقص في قدرة الإدارة وتدريبها للرؤساء الإداريين على هذه النماذج المستوردة بالإضافة إلى ظهور فساد مستفحل داخل الإدارات الحكومية في هذه الدول النامية مما أدى بالتالي إلى فشل الإدارة في هذه الدول.
ومن رواد هذه المجموعة "أيم ايككوي" الذي نشر مقالة بعنوان (تطوير الإدارة العامة والنظام الرأسمالي)، نسب فشل الإدارة في العالم الثالث إلى الدول الرأسمالية، التي كانت هذه الدول تخضع لسيطرتها، حيث أكد في طرحه أن دول العالم الثالث كانت معاقة من قبل الدول الرأسمالي التي تمتلك القوة في تكوين النظم والأسس الإدارية داخل إداراتها لخدمة مصالحها في هذه الدول المستضعفة، لذا فإن هذه النظم والنماذج التي خلفها النظام الرأسمالي الاستعماري بحاجة إلى تغيير محتوياتها لأنها لم تعد صالحة لدول العالم الثالث المستقلة، كما أنها لم تعد فعالة في المجال التنموي لهذه الدول.
ومن هذه المجموعة أيضا "رالف بريبانتي" الذي سبق ايككوي في بحوثه وافتراضاته التي أخذت دورها في بداية الستينات، والتي أوضحت أم المشكلة تكمن في كون الدول النامية تسرعت في عملية التنمية الشاملة للنهوض بشعوبها.
ونظرا لذلك فقد أخفقت في تحقيق ما تود تحقيقه لأسباب الآتية:
- استعملت هذه الدول نماذج غربية معقدة.
- ظهور فجوة كبيرة بين ما تمليه هذه النماذج من أسس وقوانين وبين الطريقة العملية لتطبيقها.
- إن هذه الأسس والقوانين التي استعملتها الخدمة المدنية في الدول الاستعمارية المتقدمة والتي تقوم الدول النامية بتقليدها قد لا تكون صالحة من الأساس لأنها عملت تحت نظام مختلف لعلاج مشاكل مختلفة.
ولقد كانت وجهة نظر المجموعة الأولى معبرة عن نظريات اجتهادية واستنتاجات تقديرية باستثناء البحث "رالف بريبانتي" الذي استطاع في بحثه المكثف أن يشير إلى الفجوة بين المكونات القانونية للنماذج الغربية وطريقة تطبيقها على أرض الواقع في الدول النامية، وهو بهذا قد انفرد عن مجموعته في تلمس الحقيقة وذلك من خلال تطبيقات على نظام الخدمة المدنية الباكستاني، غير أنه لم يوضح لنا العوامل البيئية التي أدت إلى وجود هذه الفجوة، بل اعتمد التعميم إلى أن النماذج الغربية كانت معقدة وليس من السهل تطبيقها.
وهذه النظرة يختلف معه فيها "فرد رجز" الممثل لنظرة المجموعة الثانية الذي حاول أن يشير إلى العوامل البيئية في إطارها الصحيح، حيث نبه في مجادلته إلى أن الفشل في الإدارة العامة معظم الدول النامية لم يأتي نتيجة لتبنيها النماذج الغربية المعقدة كما ذكر "بريانتي" لأن هذه الدول لم تحسن الاختيار كما أشار "هيدي"، بأن هذا الفشل قد جاء نتيجة عوامل بيئية واجتماعية وسياسية واقتصادية استطاعت أن تحول دون تطبيقها الفعال، كما أن هذه العوامل تحول دون التغيير أو التكيف لكل جديد بصرف النظر من أين كان مصدره وحتى لو كان من داخل الدولة نفسها.
ب-المجموعة الثانية:
جاء "فرد رجز" في مقدمة الناقدين لوجهة نظر المجموعة الأولى ولم يكتفي برفض ما ذكرته هذه المجموعة من أسباب فشل الإدارة في الدول النامية بل تعدى ذلك إلى انتقادهم في استعمال التعريفات والتعبيرات السياسية الجيولوجية في المقارنة، كتعبير يشير إلى عدم ملائمة استعمالها في (East and west) المقارنة بين الغرب والشرق بخصوص هذا المجال، إلا إذا كنا كل ما يعبر عنه غربيا أو شرقيا في أساسه، لأنه يخالف الحقيقة في نظره وقد وضح ذلك في مقاله المشهور الذي أشرنا إليه سابقا والذي يقول "عندما نتتبع خلفية اكتشاف المؤسسات البيروقراطية الحديثة نجدها بالفعل ليست غربية الأصل وإنما جاءت إلى أوروبا من الصين عن طريق الهند".
لذا فإن المجموعة الثانية يمكن اعتبارها أنها معبرة عن الغرب والشرق فهذا الافتراض يعتبر غير ملائم ويؤدي إلى ضياع المعنى وعدم جدوى المقارنة، ويرى أن الخيارات الأخرى لوضع المقارنة الصحيحة تعتمد بالدرجة الأولى على المعرفة الشاملة للتركيبة الحكومية والعوائق البيئية التي تؤثر على الإنجازات والتنفيذ داخل أي بلد من بلدان العالم.
بالإضافة إلى أهمية وجود إطار نظري يساعد على معرفة العوامل الكامنة والتي هي بالحقيقة سبب وراء فشل الإدارة بدول العالم النامي.
ج-المجموعة الثالثة:
حاولت هذه المجموعة أن تكون في الوسط بين هاتين المجموعتين وفي مقدمتهم "ميلتون اسمان" الذي يرفض أن يكون هناك خطأ في تقليد دول العالم الثالث للممارسات العلمية الغربية، حيث تبلورت وجهة نظرها حول إمكانية استعمال النماذج الغربية في الدول النامية لأنها قد تساعد على التنمية في هذه الدول لكونها مناسبة وأكثر فعالية، عندما تحدد التكنولوجيا السلوكيات ويكون هناك إجماع على المعنى والهدف وتكون الفعالية والقدرة والعمل الجاد هي المسيطرة على هذه السلوكيات.
هذه المجموعة تؤكد أن المشكلة ليست في تقليد النماذج الغربية ولكن المشكلة تكمن في صياغة المادة وتعديلها مما ينطبق مع طبيعة البلد، لقد غاب على الجهات الإدارية في دول العالم الثالث تكييف هذه النماذج الغربية مع ما يتماشى مع عاداتها وثقافاتها المختلفة، وعلى هذا الأساس فقد أخذت الدراسات والبحوث التي خصصت مجال الإدارة المقارنة في الدول العربية وخارجها في التنقيب عن بعض المشاكل التي تتعرض لها الإدارة في الدول النامية بشكل عام دون وجود دراسات ميدانية تحليلية لحالات خاصة في بلدان معينة، وفيما يلي سوف نستعرض بعض الكتابات التي تحاول التنويه عن بعض المشاكل الإدارية في الدول النامية.
من بين هؤلاء الكتاب الذين يرجعون فشل الإدارة في الدول النامية إلى السياسة العامة لهذه الدول "ستيفن أوما" الذي فسر في مقاله بأن انتشار الفساد في الدول النامية يعود إلى استغلال البيروقراطيين في هذه الحكومات لسلطتهم النظامية أو القانونية في مكاسبهم الشخصية التي تتعارض كليا مع المصلحة العامة، هذا التصرف أدى في النهاية إلى عدم فعالية الإدارة العامة بهذه الدول.
أما "هرفي تيلر" الذي زار ثلاث دول إفريقية وهي "تنزانيا وكينيا وزيمبابوي" فقد أوضحت دراسته التي ركزت على الموظفين في القطاع العام لهذه الدول، أن المحادثات التي تدور بين المواطنين في هذه الدول بالإضافة إلى الإعلام بشكل عام قد عبرت عن عدم انتشار الرشوة والفساد، وعليه فقد اقترح أن يكون هناك تغيير إصلاحي لإعادة تنظيم هذه المؤسسات حتى تتساير مع متطلبات التنمية، إن افتقار معظم البلدان النامية إلى أكثر الأسس أهمية من أجل وجود بيروقراطية مهنية تستند إلى القواعد النظامية الرسمية، جعل القادة الذين يحبذون الإصلاح في هذه الدول لا يستطيعون ترجمة أهدافهم إلى واقع ملموس لأن الآلية التي تربط بيانات السياسة بالأداء الفعلي توقفت عن العمل، وكنتيجة لذلك نشأت فجوة واسعة بين ما تقوله الدولة سوف تفعله أي بين القواعد الرسمية للمؤسسات العامة وبين القواعد الفعلية، لذا فإن العبرة تكمن في كيفية إغلاق هذه الفجوة وإعادة إرساء المصداقية لسياسات الحكومة والقواعد التي تعلن أنها تطبقها والتأكد من أنه يجري تطبيقها بالفعل