2. المطلب الثاني : الحالات التي لا تشملها حماية القانون الدولي الإنساني :
إذا كنا فيما سبق قد تعرضنا لأحكام القانون الدولي الإنساني فيما يتعلق بالنزاعات المسلحة سواء كانت دولية أو غير دولية وخلصنا إلى أن هذه النزاعات تدخل ضمن نطاق الحماية القانونية للقانون الدولي الإنساني ، فإن التوترات والإضطرابات الداخلية قد إستثنت تماما من نطاق إتفاقيات "جنيف" وبروتوكوليها الإضافيين
ونصت المادة الأولى من البرتوكول الثاني في فقرتها الثانية صراحة على مايلي : " لا يسري هذا البروتوكول على حالات الاضطرابات والتوترات الداخلية " وجميع بلدان العالم مهما كانت درجة تقدمها العلمي والثقافي والإقتصادي ونظام الحكم السائد فيها ليست بمنأى
عن التوترات والإضطرابات الداخلية وهي حالات متعددة الأسباب وتتم معالجتها وفق ظروف كل بلد ومعطياته الداخلية .
تعريف الإضطرابات والتوترات الداخلية :
لا يوجد صك من صكوك القانون الدولي يقدم تعريفا دقيقا للظاهرة التي يطلق عليها بصفة عامة إسم ((الإضطربات والتوترات الداخلية)).فالفقرة الثانية من المادة الأولى من البروتوكول الإصافي الثاني والسالف الإشارة إليها قد تضمنت حالات الفوضى أعمال العنف المعزولة والمتفرقة والإعمال الأخرى ذات الطابع الماثلة وهي لا تعدو أن تكون بمجرد أمثلة للتوضيح وليست تعريفا إذ ان العبارة التي جرى عليها النص(( مثل الشغب او أعمال العنف... إلخ)).
وإذا حولنا إيجاد تعريف(( الإضطربات الداخلية)) نجد أن اللجنة الدولية للصليب الاحمر قد صاغت في تقرير عرضته على الخبراء الحكوميين في مؤتمر جنيف لعام 1971 وصفا الإضطربات الداخلية بأنها (( الحالات التي دون ان تسمى نزاعا مسلحا غير دولي بمعنى الكلمة،توجد فيها على المستوى الداخلي، واجهة على درجة من الخطورة او الإستمرار وتنطوي على أعمال عنف قد تكتسي أشكالا مختلفة بدء بإنطلاق أعمال ثورة تلقائيا حتى الصراع بين مجموعات منظمة شيئا ما والسلطات الحاكمة قوات شرطة كبيرة وربما قوات مسلحة حتى تعيد النظام الداخلي إلى نصابه. وعدد الضحايا المرتفع جعل من الضروري تطبيق حد أدنى من القواعد الإنسانية)).
وحول التوترات الداخلية تضمن التقرير نفسه لعض الخصائص التي تميزها مثل الإيقافات الجماعية وإرتفاع عدد المعتقلين السياسيين او المتعلقين بسبب آراءهم ومعتقداتهم وظروف الإعتقال الإنسانية و المعاملة السيئة وتعطيل الضمانات القضائية الأساسية عند إعلان حالة الطوارئ مثلا وظهور حالات الإختفاء. وقد تكون هذه الظواهر منفردة او مجتمعة لكنها تعكس رغبة النظام الحاكم في تطويق آثار التوتر من خلال اللجوء إلى وسائل وقائية للسيطرة على الأوضاع.
ولا يعني إستثناء حالات التوترات والإضطربات الداخلية من مجال تطبيق القانون الإنساني أن القانون الدولي يتجاهله بل إن مواثيق حقوق الإنسان تعالج آثارها وتضمن المعاملة الإنسانية للموقوفين بسبب الأوضاع الناجمة عن التوتر او الإضطراب الداخلي، فصلا عما في الدساتير والقوانين الداخلية من حقوق وضمانات جماعية وفردية.
ومن الطبيعي عند البحث عن أساس لحماية الافراد ضد العنف والمعاملة التعسفية أن تنظر اولا إلى النظام القانوني الوطني. فبدون شك يجب على القانون الوطني مع مؤسساته وأجهزته العديدة لمنع وقمع المخالفات، ان يكفل الضمان الفعال لحقوق الفرد. ومع ذلك على الأقل منذ ان صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1949، أصبح من المسلم ب هان حماية (( الكرامة الطبيعية المتأصلة لجميع أفراد الأسرة البشرية)) واجب يقع أيضا على عاتق المجتمع الدولي. والتعبير القانون عن ذلك الواجب وهو التشريع الدولي لحقوق الغنسان بمختلف معاهداته المستكملة بقواعد العرف. وتنطبق في جميع الأوقات الاحكام المتعلقة بحقوقالغنسان وتلك التي أقر بها قانةن العرف. بل إن السلطات تلتزم بإحترامها حتى في حالات الأزمة الداخلية إلا إذا حدث(( في زمن الطوارئ العامة التي تهدد حياة الامة)) ( الفقرة الأولى من المادة الرابعة من العهد الدولي لعام 1966 الخاصة بحقوق المدنية السياسية) أن أعلنت حالة الطوارئ .وللدول عندئذ أن تتخذ إجراءات تخالف إلتزاماتها المتعهد بها بمقتضى معاهدات حقوق الإنسان ، ولكنها تظل ملزمة بأن تحترم في جميع الأوقات وفي جميع الظروف عددا من الحقوق الأساسية أي (جوهر) حقوق الإنسان الذي هو (المستوى الأدنى )المطلوب لحماية كرامة الإنسان حتى في أوقات الأزمات الحادة .
وسوف يساعد إستقصاء موجز للقانون الدولي الإنساني المنطبق في حالات النزاع المسلح ، على تحديد هذا الموجز المشترك للحقوق المنطبقة في جميع الأوقات وفي جميع الظروف .فهذا الجزء بالذات من القانون الدولي المدون لمجال مقيد إلى حد ما له له أيضا (جوهر للحقوق الأساسية )التي يجب أن تراعي في جميع أشكال النزاع المسلح .وهذه الحقوق مبينة في المادة الثالثة المشتركة بيت إتفاقيات جنيف الألابع والمنظمة في النزاعات التي ليس لها طابع دولي .زمن المسلم به بصفة عامة أن جوهر المادة الثالثة دات الطابع العرفي يشكل جزءا من القواعد الآمرة ولذا فهو ملزم لجمع الدول .وبالتالي تتجاوز الإلتزامات الواردة في المادة الثالثة مجال تطبيقهذه المادة .فهي سارية المفعول بالنسبة لجميع أشكال النزاع المسلح .وقد أكدت ذلك منذ عهد قريب محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في قضية نيكاراجوا ضد الولايات المتحدة .فالمحكمة قد توصلت إلى إستنتاج أن المادة الثالثة في شكلها العرفي تشكل (مقياسا للحد الأدنى) ينطبق على جميع النزاعات المسلحة
فهذا (المقياس للحد الأدنى) في القانون الدولي الإنساني والوارد في المادة الثالثة يطابق إلى حد كبير جملة الضمانات التي لا تستطيع الحكومات التحلل منها حتى في حالات الطوارئ.وهذه الأحكام ملزمة في النزاعات المسلحة ، بما في ذلك النزاعات المسلحة التي ليس لها طابع دولي ، ومنطقيا ملزمة أيضا بالتالي في حالات الاضطرابات والتوترات الداخلية .فالإستنتاج بناء على ذلك هو أن القانون الدولي (يلزم الدول في جميع الظروف ودون إستثناء أن تحترم الفرد عن طريق مراعاة أحكام أساسية معينة حتى في حالة الطوارئ العامة التي تهدد حياة الأمة ).
ونخلص من هذا إلى أن هناك هدفا مشتركا بين المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وإتفاقيات القانون الدولي الإنساني هو حماية حقوق الإنسان وحرياته والحفاظ على كرامته.وإن تميزت إتفاقيات القانون الدولي الإنساني بأنها تعمل على تأمين هذه الحقوق في ظروف النزاعات المسلحة . وهذا التمييز جعل إتفاقيات جنيف تشمل بحمايتها فئات لم تكن في بؤرة إهتمام القانون الدولي التقليدي لحقوق الإنسان كالجرحى والغرقى وأسرى الحرب . وتتضمن الصكوك الدولية لحقوق الإنسان أحكاما تسمح للدول لدى مواجهتها لخطر عام جسيم أن توقف العمل بالحقوق الواردة بهذه الصكوك وذلك وذلك بإستثناء حقوق أساسية معينة ،مبينة في كل معاهدة يجب إحترامها في جميع الأحوال ولا يجوز المساس بها بصرف النظر عن المعاهدة التي أوردتها وتشمل هذه الحقوق بصفة خاصة الحق في الحياة وحظر التعذيب والعقوبات أو المعاملة الإنسانية وحظر العبودية والإسترقاق ، ومبدأ الشرعية وعدم رجعية القوانين .ويطلق على هذه الحقوق الأساسية التي تلتزم الدول بإحترامها في جميع الأحوال حتى في أوقات النزاعات أو الإضطرابات إسم (النواة الصلبة le noyau dur لحقوق الإنسان .
ولما كان القانون الإنساني يسري في أوضاع إستثنائية بطبيعتها هي أوضاع النزاع المسلح فإن مضمون حقوق الإنسان التي يتعين على الدول الإلتزام بها في جميع الأحوال ، (النواة الصلبة)يتفق إلى حد بعيد مع الضمانات الأساسية والقانونية التي يكفلها القانون الإنساني .