2. الصراع الفارسي الاغريقي

ثورة المدن الأيونية ضد الفرس 499 ق.م:

كانت أثينا تمر بمرحلة تهور سياسي نتيجة لتعصبها لنظامها الديمقراطي ورغبتها في نشره بين كافة المدن الإغريقية وخاصة تلك الني كان الطغاة لا يزالون يحكمونها وثار الأيونيون ضد طغاتهم الموالين للفرس، وأرسلت أثينا قوات لمساعدتهم جيث أحرقت مدينة سارديس تماما مما أدى إلى اشتعال النيران في قلب الملك دارا الذي لم ينس ذلك وقد قيل أنه أوصى أحد عبيده لكي يهمس في أذنيه كل مساء "مولاي لا تنسى الأثينيين".

لقد عاش الأيونيون مع الفرس في سلام لمدة طويلة وتقدما حضارتهم المادية والمعنوية فقدموا للحضارة الإغريقية عباقرة مثل الفيلسوف طاليس أحد مواطني مدينة ميليتوس (640-546 ق.م) والذي سجل مواعيد خسوف الشمس ووضع أسس علم الأجرام السماوية للإغريق، ومثل العلامة فيثاغورس مواطن جزيرة ساموس وكان أحد كبار علماء الرياضيات.

وكان طاليس عالما وسياسيا فنادى بقيام إتحاد بين مدن أيونيا واقتراح أن ترسل كل مدينة ممثليها لمجلس يتكون من كافة المدن ويقرر شؤونها، بينا تبقى كل مدينة مستقلة تكاكا ولكن هذا المشروع فشل وسقطت المدن الأيونية في حوزة الإمبراطوريات الآسيوية لمملكة ليديا ثم الفرس.

وأدرك الأيونيون أن دارا قد شدد قبضته فقد أعاد عذا الملك الذي حكم بلاد الفرس حتى عام 485 تقسيم الإمبراطورية إلى عشرين سترابية ( أي مقاطعة ) يكم كل منها ستراب .

وأقام نظام المراسلات البريدية بينها ليلم بأخبارها يوما بعد يوم، وبذلك أصبح دارا يعرف أخبار سارديس مثلا بعد أسبوع بدلا من ثلاثة شهور وعي المدة التي تستغرقها الرحلة من عاصمة بلاد الفرس سوسا إلى سارديس عاصمة ليديا، كما ساد الأيونيين الذعر من نظام إقامة الطغاة الإغريق الموالين للفرس من الضرائب التي كانوا يدفعونها مما دعاهم إلى الثورة بتحريض وبمساعدة أثينا ونكلف الفرس كثيرا في احباطها والقضاء عليها في عام 494 ق.م زعندما دمروا مدينة ميليتوس وتداعت المجن الثائرة بعد ذلك، لم ينس دارا ذلك فحاول معاقبة الأثينيين عام 492 ق.م عن طريق إرسال حملة بقيادة ماردونيوس ولكن هياج البحر وقيام العواصف أعاقت استمرار الحملة فعادت من حيث أتت ولكن في عام 490 ق.م نجح إثنان من قواده في انزال الجنود في سهل المارثون الذي يبعد ست وعشرون ميلا عن أثينا وكان من بين القادمين مع الفرس هيبياس العجوز.

موقعة سهل الماراثون:

هكذا نزلت القوات الفارسية بسهل الماراثون عام 490 ق.م بقيادة الجنرال داتيس  وارتافرنيس وكانت هذه الحملة قد أبحرت من جزيرة ساموس بعد أن دمرت جزيرتي ناكسوس واريتريا في طريقها، وصمم الأثينيون والإسبرطيون على تناسي خلافاتهم والدفاع عن بلاد اليونان، فلما دهب رسول ملك الفرس إلى أثينا مطالبا أن يسلم الأثينيون أرضهم ومياههم للفرس ألقى به الأثينيون من فوق صخرة الأريوباجوس حيث كانوا يلقى المجرمين قائلين "هده هي الأرض"، ولما ذهب رسول آخر إلى إسبرطة يحمل نفس المطالب ألقى به الاسبرطيون في بئر عميقة قائلين "هذه هي المياه"، وكان التعدي على الرسل تعدي على قداسة التقاليد التي تحميهم ولو كان الاثينيون والاسبرطيون قد هزموا في المعارك التي تلت ذلك لنسبوا هزيمتهم لغضب الآلهة نظير قتلهم الرسل لأنه تعدي على حدود الآلهة.

ولما سمع الاثينيون بوصول الفرس أعدوا جيشا سريعا بلغ تعداده ما بين تسعة آلاف وعشرة آلاف مقاتل بقيادة القائد كاليماخوس يساعده الجنرال مليتياديس والذي كان يقود فرقة تتكون من ألف متطوع جاءوا من بؤتيا، كما أرسل الاثينيون عداء اسمه فيديبيديس ليقطع رحلة طولها مائة وأربعين ميلا عبر مناطق وعرة وعي المسافة بين أثينا وإسبرطة، وتقول الروايات الشعبية أن هذا العداء قطع الرحلة في يومين أي سبعين ميلا في اليوم الواحد ولكنه عاد يخفي حنين لأن الاسبرطيين كانوا يحتفلون بأعياد دينية تحرم القتال وتسيير الجيوش، وقبل الاثينيون التحدي والمقامرة بمواجهة الجيوش الفارسية وحدهم معتمدين على أنفسهم وبعض حلفائهم وقاتلوا بشراسة منقطعة النظير وأنزلوا بالفرس خسائر فادحة بلغت 6400 قتيل بينما خسروا عم 192 قتيلا فقط حسب ادعائهم لقد كان انتصار الاثينيين ناتجا عن ارتفاع روحهم المعنوية إذ أنهم كاموا يخوضون حربا دفاعية عن نسائهم وأولادهم وبيوتهم وبالقرب من موطنهم، كما كانوا يحاربون وهم يدافعون عن نظامهم "الديمقراطي" الذين التفوا حوله لحمايته لأنهم أدركوا أن الفرس إذا ما انتصروا سوف يقيمون هيبياس طاغية عليهم وبذلك يفقدون حريتهم ونظامهم الديمقراطي.

وبالرغم من هزيمة الفرس في البر إلا أن أسطولهم كان لا يزال متأهبا بالقرب من الشواطيء الأثينية وكان هيبياس على ظهر إحدى سفنه ينتظر إشارة للنزول وجاءت إشارة من إحد عملاء هيبياس إلى الأسطول الفارسي أن "اهجموا على أثينا فورا" وأبحر الأسطول الفارسي ولكن الأثينيين كانوا في انتظاره وأدرك الفرس أن القوات الأثينية قد انتقلت بسرعة من سهل الماراثون إلى العاصمة وحصنتها، فتردد الفرس في النزول واستدار أسطولهم عائدا وهكذا ضاعت أحلام هيبياس في العودة إلى الحكم  مرة أخرى وأعلن الأثينيون النصر وهتفوا ببطل المعارك ميليتياديس ولكن هذا  البطل تهور وأسرع في حملة ضد جزيرة باروس فشلت تماما وعند عودته حوكم بسبب ذلك ولكنه لم يعش طويلا بعد محاكمته

الحملة الفارسية الثانية ضد بلاد اليونان:

مات دارا الأول عام 486 ق.م وهو لم يشف غله من الأثينيين بعد وكان قبل موته بدأ الإعداد لحملة حربية ثانية تفوق الأولى عددا وعدة وبعد موته أشرف ابنه كسيركسيس  والذي يعرف بالفارسية باسم خشيارشاي على هذه الحملة التي شملت جيشا وأسطولا جمع من كافة الأجزاء التي تتكون منها الإمبراطورية الفارسية بما في ذلك قوات من إغريق أيونيا الموالين للفرس، كما شملت أثيوبيين في زيهم الوطني الذي يتكون من جلد الفهود وهنود من أقصى حدود الإمبراطورية بزيهم القطني الأبيض الخفيف ومن الشمال جاء أهل سكيثيا بجواربهم الطويلة وخوذاتهم المدببة ونبالهم الشهيرة وسار كسيركسيس في المقدمة ممتطيا عربة حربية تحيط به كوكوبة من الفرسان المعروفين "الخالدين" وكان واثقا من نفسه فقد أعد لكل شيء عدته حتى المؤن والعتاد فقد أمن وصولها بقواته وأقام جسرا من السفن عبر مضيق الدردنيل ولكن العواصف دمرته ما أثار غضب الملك الفارسي فلم يستطع السيطرة على عواصفه الشرقية فأمر بجلد البحر ثلاثمائة جلدة وأن تصب عليه لعنات كهنة الفرس، أما الذين أشرفوا على بنائه فقد أمر الملك بقطع رقابهم جزاء فشلهم.

وأخيرا في ربيع عام 480 ق.م تمكن الجيش الفارسي من عبور البسفور والدردنيل واخترق إقليم تراقيا وعند وصوله إلى ثرما في مقدونيا انظم إليه الأسطول وكانت ذلك في أوائل شهر أغسطس من العام نفسه.

تبالغ الرويات والأقاصيص الإغريقية في تعداد الجيش الفارسي وتتحدث عن الملايين التي تكون منها ولكن المؤرخين المعاصرين يعتقدون أن هذا الديش لم يزد عن 300000 مقاتل وأن أسطوله لم يزد بأي حال من الأحوال عن 800 قطعة حربية.

وعندما أدرك الإغريق أن الخطر محدق بهم جميعا عقدوا اجتماعا عاما قرب خليج كورنثا عام 481ق.م تصالحوا فيه، وسمحت أثينا بعودة المنفيين السياسيين وعلى رأسهم أريستيديس العادل وانتخبت أسبرطة لما لها من قوة عسكرية رئيسا للحلف الدفاعي الجديد وحاولوا ادخال إغريق صقلية في هذا الحلف أيضا ولكن جيلون طاغية سيراكوزا أصر على أن يكون هو على رأس هذا الحلف الدفاعي وهذا لم يعجب لا الأثينيين ولا الإسبرطيين، وعلى أي حال يبدوا أن جيلون فتح جبهة جديدة صد الفرس في صقلية بإعلان الحرب ضد الفينيقيين والقرطاجيين في صقلية، وكان الفينيقيون حلفاء مخلصين للفرس ويمتون بصلة قرابة وثيقة للقرطاجيين، وقد أقام الفينيقيون مستوطناتهم في صقلية منذ وقت سابق على المستوطنات الإغريقية في هذه الجزيرة، ومن الغريب أننا لا نسمع عن مبادرة من جانب إغريق أيونيا لمساعدة وطنهم الأم بل تسمع عن مساعداتهم للجيش الفارسي الغازي لبلاد اليونان.

أدرك الإغريق أن المضايق والممرات الجبلية التي تمتلأ بها بلادهم سلاح دفاعي فعال إذا ما استخدم جيدا فبدأوا في تحصينها، فحصنوا ممر تمبي الشهير الذي يربط بين تساليا ومقدزنيا، وعند مضيق ثرموبيلاي الذي ينحصر بين الجبل والبحر وعسكر الملك الإسبرطي ليونيداس ومعه وقوة مكونة من 7000 رجل منهم 4000 من البيلوبونيسوس في انتظار الفرسن بينما وقف الأسطول الإغريقي الذي كان يتكون من 300 قطعة حربية متأهبا عند رأس أرتيميسيوم في شمال جزيرة يوبويا لحراسة الممر المائي بين القارة والجزيرة.

معركة مضيق الثرموبيلاي:

حاول الإغريق منع الفرس من اختراق المضايق الجبلية التي تربط بين تساليا شمالا وبلاد اليونان جنوبا، وبدأ الإلتحام بمعارك بحرية بين الطرفين لم يعرف نتائجها ولكن العواصف فتكت بجزء كبير من أسطول الفرس عند خليج مجنيزيا.

ثم حاول الفرس احتلا مضيق ثرموبيلاي الجبلي بالتسلل عن طريق ممر آخر حيث فاجأوا القوة الأسبرطية هناك والتي قاتلت حتى آخر رجل فيها ومن الواضح أن الخيانة لعبت دورا كبيرا في دذه الهظيمة لأن الفرس استعانوا بعدد كبير من المرشدين الإغريق هكذا سقط هذا الممر الحصين في أيدي الفرس ومجدت الروايات فيما بعد بطولة الملك الاسبرطي ليونيداس وتضحيته بنفسه وبرجاله من أجل الواجب.

وبعد سقوط هذا الممر أصبح وسط بلاد اليونان تحت رحمة الفرس وتقدم كسيركسيس وجحافله جنوبا، وقرر الأثينيون اخلاء عاصمتهم ونقلوا النساء والشيوخ والأطفال إلى الجزر المجاورة مثل سلاميس وإيجينا حتى لا يسبيهم الفرس، وتقدم الفرس جنوبا محاولين احتلال دلفي ونهب خزائن معبد الإله أبوللون، ولكن كهنة هذه المنطقة المقدسة نظموا مقاومة عنيفة ساعدهم عليها هبوب عواصف شديدة مما جعل الفرس يولون الأدبار، أما أهل منطقة بيويتيا فقد سلموا عاصمتهم طيبة للفرس دون مقاومة بينما هجر الأثينيون عاصمتهم وانتظروا ماذا سيفعل بهم تميستوكليس وأسطوله الذي وضعوا فيه كل آمالهم. 

معركة سلاميس:

بينما كان أسطول الفرس راسيا عند رأس فاليروم قرب أثينا كان الأسطول الإغريقي المتحد يراقب المضيق المائي بين جزيرة سيلاميس وشواطيء أتيكا.

تقدمت جحافل الفرس واستولت على إقليم أتيكا ودخلت أثينا وأحرقتها بينما كان ثمستوكليس يحاول عبثا إقناع قائد الأسطول الأسبرطي بالهجوم على أسطول الفرس ولكن الحلفاء الاسبرطيين كانوا مهتمين بالدفاع عن البيلوبونيسوس بالرغم من أن أثينا ساهمت بمائة وثمانين سفينة من مجموع الأسطول المتحد البالغ 378 سفينة، وكان على تمستوكليس أن يفعل شيئا  فأرسل رسولا إلى ملك الفرس ليبلغه أن أسطول الإغريق واقع في مصيدة وأنه سوف يفلت منها بالهروب، واسرع ملك الفرس وأرسل قوة من فرقة مصرية كانت مع جيشه لتسد المضيق بين سلاميس وسواحل أتيكا لكي لايخرج منها أحد ودخل الجيش الفارسي المصيدة وهو لا يدري، فبالرغم من كثرة عدده إلا أن ضيق المكان وخفة حركة السفن التجارية حقق للإغريق نصرا كاملا في سبتمبر عام 480 ق.م، لقد كان انتصار الإغريق في سلاميس عظيما، واندفع المنفيون عائدين وعلى رأسهم أرستيديس العادل وتغنى الشاعر ايسخولوس بهذا الإنتصار في رواية سماها "الفرس" تحدث فيها عن عناية زيوس رب الأرباب وانتصاره على الفرس ولم يذكر شيئا عن ثمستوكليس على الإطلاق.

معركة بلاتيا البرية وموكالي البحرية:

انسحب ماردونيوس شمالا إلى طيبة عاصمة بيوتيا ولاحقته القوات الإغريقية المتحالفة وقرب مدينة بلاتيا تمكنت القوات الأسبرطية بالذات من اللحاق هزيمة ساحقة بالفرس عام 479 ق.م قتل فيها ماردونيوس وانسحب الجيش والحاميات الفارسية من بلاد اليونان كلها وكانت المرة الثانية والأخيرة التي حاول فيها الفرس وإن شئت فقل بلاد الشرق المتحد غزو أوروبا.

بعد ذلك تحالف ملك اسبرطة مع الفرس مما ادى بمحاكمته من طرف الاسبرطيين والتفافهم مه اثينا التي خرجت من معارك الفرس منتصرة وأصبحت سيدة على مياه بحر إيجه بلا منازع وجنت ثمار الصراع الطويل وحجها دون اسبرطة التي كلفها خيانة وغباء ملكها دماء رجالها بل واحترامها بين سائر الدويلات الإغريقية وسلطت الأضواء على أثينا كزعيمة لحرية بلاد الإغريق ضد الإستعباد الشرقي الفارسي، كما أن تحصين المدينة ومينائها جعلها تنافس اسبرطة في القوة البرية، في نفس الوقت الذي راحت فيه أساطيلها تحرس بحر إيجه وتحتكر التجارة فيه.

خريطة توضيحية حول الصراع والحروب بين الفرس والاغريق