4. المظهر الثقافي (الكتابة)

من أهم مظاهر حضارة بلاد الرافدين اختراع الكتابة التي كانت بمثابة علامة بداية العصر التاريخي، ولم تكن هذه الكتابة متشابهة تماما في كل المدن وفي مختلف العصور بحيث احتفظت كل مدرسة بنمط معين من صور العلامات، فمثلا خطوط مدارس "أوما" تختلف عن غيرها من المدن المجاورة اختلافا واضحا.

لقد ظهرت الكتابة عند السومريين حوالي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، وفي ذلك الوقت كانوا يستعملون حوالي 2000 حرف تصويري إلا أن هذا العدد أخذ يقل تدريجيا نتيجة لتزايد نرابط الحروف بالأصوات حتة وصل إلى ما بين 600 و500 حرفا أو علامة خلال الألف الثانية قبل الميلاد، بعضها صور تعبر عما ترمز إليه والعض الآخر علامات صوتية للتدليل عما مثله كحروف نطق فمثلا لفظ "تي" استخدمت لتدل على سهم وفي الوقت نفسه على الحياة وللتمييز بين المعنيين كانت تضاف إلى علامة سهم رسم يرمز لقطعة خشبية لكي تدل على المقصود هو السهم المصنوع من الخشب وليس الحياة، لقد استطاع الكتبة الأقدمون أن يدونوا بهذه الكتابة التصويرية الأشياء المادية، أما المعاني المجردة فكان يصعب عليهم التعبير بالطريقة التصويرية المحضة، فاهتدوا بمرور الزمن إلى ابتكار الطريقة الرمزية أي طريقة التعبير عن الأفكار والمعاني المجردة بالصور بأن يرسموا الصورة المادية بهيئة مختصرة، ولا يردون بها صورة الشيء المادي، وإنما المعاني والأفكار المشتقة منه أو المتعلقة به، فمثلا أصبحت صورة القدم بحسب الطريقة الرمزية لا تستخدم لتدوين القدم أو الرجل بل للتعبير عن المعاني المتعلقة بعضو القدم مثل: القيام والمشي والوقوف والدخول والخروج، وصارت صورة الشمس لا تعني كوكب الشمس وإنما المعاني المشتقة منها كالحرارة والضوء، وبجمع الطريقة التصويرية المحضة والطريقة الرمزية صار بالإمكان التعبير بها عن المعاني المضبوطة لاحتمال التفسيرات وراءتها وتأويلها بحسب القراءة، فمثلا رسم العين لا يعني فقط جهاز البصر وإنما يعني أيضا مفاهيم اشتقاقية أخرى مثل وجه وأمام وسابق.

وقد أدى تعدد المعاني للرمز الكتابي الواحد إلى صعوبات كبيرة، فدعت الحاجة إلى تطوير الكتابة وتبسيطها وذلك استخدام أصوات الأشياء المادية المكتوبة بالصور وأصواتها لا لتدل على الأشياء المادية المكتوبة بالصور لكتابة الكلمات المختلفة وهذه هي الطريقة الصوتية فقد استخدم العراقيون الصور وأصواتها لا لتدل على الأشياء المادية التي تمثلها تلك الصور كما في المرحلة التصويرية، ولا على الآراء والأفكار المشتقة منها كما في الحالة الرمزية بل لاستخدامها في كتابة الكلمات والجمل على هيئة أصوات فإذا أرادوا مثلا أن يكتبوا اسم شخص مثل "كوراكا" فإنهم يرسمون صورة مختصرة للجبل ولفظه بالسومرية "كور" ثم يرسمون بجنبها صورة مختصرة من خطين تمثل موجات الماء للتعبير عن صورة "أ" وهو الماء باللغة المسمارية، ثم صورة مختصرة للفم ولفظه بالسومرية "كا" فيحصلون بذلك على كلمة " كور-ا- كا".

فقد كانت الكتابة على ألواح من الطين بقلم من الخشب أو القصب ثم تطورت بعد ذلك إلى الكتابة على الأحجار والمعادن بالنقش أو النحت، ولما كان القلم مثلثا أصبحت العلامات تنتهي بما يشبه المسمار لذلك يطلق عليها الكتابة المسمارية، ولم تتطور الكتابة المسمارية قط فتصبح أحرفا هجائية، بل ظلت إلى النهاية مألفه من مقاطع واستمرت بعض علاماتها صور رمزية تدل على الشيء الذي تمثله في الأصل.

وعلى ذلك فبالإمكان القول بأن الخط المسماري بدأ تصويريا ورمزيا يغبر عن فكرة ثم تطور بمرور الوقت إلى الكتابة التصويرية .

وبفضل الكتابة المسمارية ظهرت الإنجازات الأدبية السومرية، نذكر منها  الأساطير التي تعود أصولها إلى عصر بداية الأسرات، ولعل أشهر تلك الأساطير "أسطورة الطوفان" والتي تعتبر من أهم الأساطير العالمية، وقد عثر على اللوحة تصف أحداث الفيضان في مدينة "نيبور" وتوضح هذه الأسطورة كدى تأثير الفيضانات في نهري الدجلة والفرات على مشاعر الإنسان العراقي القديم، وقد ورد في النص شخصية ملك حكيم يسمى "زيوسدرا" وقد اصطفاه الإله "أنكي" إله الأرض لينتقده هو وقومه من خطر الفيضان، ومن الأساطير الهامة كذلك "أسطورة الملك ايتانا" الذي لم يكن له أولاد وعلم بوجود نبات في السماء خاص بالولادة وكان عليه أن يصعد إلى السماء بنفسه ليحضر ذلك النبات فتضرع للإله "شمش" ليساعده فدله الإله على مكان نسر جريح في حفرة وأرشده أن يعمل على انقاذ ذلك النسر ليجلب له النبات بعد يحمله إلى السماء وتمضي الأسطورة لتصف كيفية الصعود إلى السماء وكيف أصاب الدوار "ايتانا" مما أدى إلى سقوطه هو والنسر.

ومن الأساطير المشهورة في بلاد الرافدين " أسطورة جلجامش" وأسطورة دلمون" أو كما تسمى أحيانا "أسطورة الفردوس".

لوح طيني مكتوب بالكتابة المسمارية