Section outline

    • - مدخل إلى علم النفس البيئي:

      تزايد الاهتمام بعلم النفس البيئي من جراء التدهور البيئي والعنف الحضري واستنزاف الموارد الطبيعية والتلوث البيئي ولم تتوفر لعلماء السلوك نظريات منهجية متطورة كافية لدراسة كيف تؤثر بيئتنا فينا؟ الأداء السيكولوجي والآثار الصحية لمشكلات البيئية المعقدة وبسبب هذا الوعي المتنامي بأزمات المجتمع (البيئة) اتسع ميدان علم النفس البيئي وتمحور هذا العلم في دراسة العلاقات المختلفة بين سلوك الإنسان وبيئته الفيزيقية وآثار المعالجات البيئية على الإنسان. وعلم النفس البيئي علم حديث النشأة وثيق الصلة بالحياة اليومية على اختلاف مواقعها. وعلماء نفس البيئة يدرسون مظاهر هذه العلاقة لزيادة النتائج الإيجابية البناءة وإنقاص عوامل الهدم.

      1- نشأة علم النفس البيئي:

      إن الدراسة العلمية لتأثيرات البيئة على السلوك يمكن أن نجد أثرها في الدراسات العلمية لعلم النفس في القرن التاسع عشر عندما اختبر علماء النفس الفيسيولوجيون الإدراك الإنساني لمنبهات بيئية كالضوء والضغط والصوت وغيرها.

      سابقا كان علم النفس البيئي يسمى علم النفس المعماري Psychology Architectural حيث كان هذا العلم هو الباعث على ظهور علم النفس البيئي الذي يؤكد دور الموقف الفيزيائي (المادي) في استثارة السلوك الانساني. كما كان للنظرية الجشطالتية دور في ظهور علم البيئي حيث اعتقدوا أن البشر لديهم ميل فطري إلى تنظيم عالمهم الإدراكي في ابسط صورة ممكنة فالبشر مفطورون على جمع الأشياء وتصنيفها على أساس التشابه. من هنا فهم علماء نفس البيئة أن البشر يقومون بدور ايجابي في بناء وصياغة ادراكاتهم البيئية،. أن نظرية المجال (لكيرت ليفين) في الاربعينات من القرن العشرين 1947 وعمله على الجماعات البشرية وحراكها وهو اول من استخدم البيئة في بحوثه النفسية وان كان قد استخدم البيئة الاجتماعية حيث اعتقد ان السلوك (س) تحدده الشخصية(ش) والبيئة (ب) وعلى ذلك تصبح المعادلة:

      س= ف (ش × ب) أي السلوك = وظيفة (الشخصية × البيئة)

      كما اعتمد علم نفس البيئة في نشأته على علم النفس الاجتماعي الذي يرى علاقة وثيقة بين السلوك البشري والبيئة الفيزيقية المحيطة به.

       وشكلت فترة خمسينات وستينات القرن الماضي بداياته، و الذي كان تركيزه آنذاك على الخصائص الفيزيقية (المادية) للبيئة التي يحدث فيها السلوك الإنساني، بهدف الحصول على فهم أفضل للعلاقة بين السلوك والبيئة المادية. و بحسب كل من  Bonnes & Secchiaroli (1995) فإن ظهوره كان في الـ و م أ ، تحديدا سنة 8195 عندما شكل كل من Ittelson & Proshansky فريق بحث تابع لجامعة مدينة نيويورك الغرض منه بحث كيف يمكن للبيئة (التصميمات) المكانية أو العمرانية لمستشفى الأمراض العقلية أن يؤثر في سلوك المرضى.

      ويعتبر Ittelson أول من استعمل مصطلح علم النفس البيئي. وتعد 1970 في نظر باحثين في هذا الحقل البداية الحقيقية لظهور هذا الفرع من خلال صدور كتاب لكل منProshansky, Rivlin & Ittelson بعنوان Environmental Psychology: Man and his physical setting علم النفس البيئي: الإنسان وبيئته الفيزيقية. أين تعرضوا فيه للعلاقة بين البيئات الفيزيقية لمستشفيات الأمراض العقلية وسلوك المرضى داخله، وإلى دراسات متنوعة للعلاقة بين السلوك الإنساني والخصائص الفيزيقية للبيئة.

      2- تعريف علم النفس البيئي:

      العديد من الباحثين في هذا الحقل قدموا الكثير من التعريفات وإن اختلفوا فيما بينهم حولها، إلا أنهم اتفقوا على أن التعريفات التي لا تتضمن العلاقة بين السلوك الإنساني والبيئة تعريفات ناقصة.

       لهذا نجد تعريف (1987 (Gifford الذي يشير فيه أن:" علم النفس البيئي يهتم بدراسة المعاملات التي تجري بين الأفراد والبيئات المادية".

      بالإضافة إلى تركيز التعريفات أعلاه على البيئات المادية المبنية، في الإشارة إلى تأثير التصميم العمراني على السلوك، يظهر بوضوح أنّ وحدة التحليل فيه هي العلاقة فرد- بيئة، مع تركيزه على التأثيرات المتبادلة بينهما. وأنّ البيئة ليست وحدها من تؤثر في الأفراد، فكذلك الأفراد يؤثرون بدورهم في البيئة.

      من هنا نجد أن تأثير البيئة المشيدة في السلوك وثيق لا يكاد ينفصم، ويشير كاسيدي (2013) Cassidy, إلى أن التأثير الأساسي للبيئات المشيدة يكون عبر المعنى الذي اكتسبته هذه المباني والعمارات في أذهان الناس من خلال التفاعلات الاجتماعية. أي من خلال المعاني التي يضفيها الناس على الهياكل المختلفة التي يبنونها، وإعطائها رموزا، ومن ثمّ مكانة اجتماعية معينة، وبهذا الأساس يتم التعامل معها بصورة مغايرة؛ فالمسجد في المجتمعات المسلمة ليس مجرد بناء، والتصرف والسلوك داخلها ليس كما هو خارجها، بحيث يكون من منطلق الوظيفة التي تؤديها، والتي تعارف المجتمع عليها، ومن ثم فإن أطر وحدود السلوك فيها محددة ومعروفة، ويربي المجتمع أفراده عليها.

      إضافة إلى هذا فقد بدأ علماء النفس البيئي مع بداية تسعينات القرن الماضي في التأكيد على العلاقة التلازمية بين البيئة المادية والاجتماعية، وحيث نجد كلا من  Bonnes & Secchiaroliقد أشارا إلى" أنه هناك حاليا اتفاقا عاما بأن علم النفس البيئي لم يعد يهتم فقط بالبيئة المادية وإنما أيضا بالبيئة الاجتماعية المادية أيضا.

      أما سترن (2000) Stern  فقد كان أكثر دقة بتوصيف التخصص بالتركيز على العمليات السيكولوجية التي تتفاعل مع البيئة في قوله:" فرع من علم النفس يعالج العمليات السيكولوجية التي يستخدمها الأفراد في تفاعلهم مع البيئة المبنية والطبيعية". وهي هنا جميع الجوانب السلوكية والحياة العقلية في علاقتها مع المحيط الاجتماعي- المادي، كالإدراك الحسي، المعرفة، التوتر والإنهاك الذهني، صنع القرار، التفاعلات الاجتماعية..الخ

      ويبقى تعريف بروشنسكي (1970) Proshansky الأكثر قبولا في أوساط الباحثين ومرجعا للكثيرين منهم بالقول: "أنه لا يمكن فهم علم النفس البيئي  وتحديده إلا في سياق العلوم البيئية الأخرى، حيث يهتم الجزء الأكبر من هذا الحقل بعواقب استهتار الإنسان ببيئته، هذه البيئة التي يديرها ويحددها بنفسه، وأن هذه العلوم بما فيها علم النفس البيئي قد انبثقت بسبب المشاكل الاجتماعية الملحة، فهي بطبيعتها متعددة التخصصات وتتضمن دراسة الفرد بوصفه جزءا لا يتجزأ عن أي مشكلة كانت. باختصار تهتم العلوم البيئية بالمشكلات الإنسانية فيما يتصل بالبيئة أين يكون فيها الإنسان الجلاد والضحية".

      أما تعريف جيفورد (1997) Gifford في نظر الكثير من الباحثين الأكثر جدوى بالمقارنة مع كثير من التعريفات، بسبب توظيفه لمفاهيم رئيسة مثل الخبرة، التفاعلات، المعاملات بين الأفراد وبيئاتهم المختلفة. "علم النفس البيئي هو دراسة تعاملات الأفراد مع بيئاتهم المادية، في هذه التعاملات يغير الأفراد في البيئة، كما تغير البيئة ذاتها سلوكياتهم وتجاربهم، ويتضمن علم النفس البيئي الأبحاث والممارسات التي تهدف إلى جعل المباني أكثر إنسانية، وتحسين علاقتنا مع البيئة الطبيعية".

      3- أهمية دراسة علم النفس البيئي:

      • إن البيئة تؤثر في السلوك وان السلوك يؤثر في البيئة كحقيقة مهمة.
      • تفاقم المشكلات البيئة من إهمال وتدمير وتخريب جراء اعتداء الإنسان لها فضلا عن خطورة التلوث البيئي وتأثيره المباشر على صحة الإنسان النفسية والعقلية والجسمية وعلى سلامة جميع الكائنات الحية.
      • قضية البيئة قضية تربوية سلوكية نفسية مجتمعية في المحل الأول يتعين أن يساهم الجميع في المحافظة عليها.
      • التقدم التكنولوجي السريع والزيادة السكانية والنمو الاقتصادي واتساع ظاهرة التحضر وما يجري من تغييرات في الشكل وتوزيع عناصر المصادر الطبيعية جراء هذه الأنشطة دعت الإنسان إلى أن يولي اهتماما متزايدا لعلاقته بالبيئة.
      • فشل الرؤى الأحادية في معالجة مشكلات البيئة – السلوك وظهور بعض الدراسات التي حاولت الربط بين البيئة الفيزيقية (المادية) وبين المتغيرات النفسية على سبيل المثال )الأحياء الفقيرة والمتخلفة هي صرح للجريمة.

      4- مواضيع علم النفس البيئي:

      فيما يلي نتعرف على أنواع الموضوعات التي يدرسها علماء النفس البيئي :

      • تصور وتقييم المباني والمناظر الطبيعية
      • رسم الخرائط المعرفية والإدراك المكاني وإيجاد الطريق
      • العواقب البيئية للأفعال البشرية
      • التصميم والتجارب المتعلقة بالجوانب المادية لأماكن العمل والمدارس والمساكن والمباني العامة والأماكن العامة
      • السلوك الترفيهي والسياحي
      • الجوانب النفسية لإدارة الموارد والأزمات
      • المخاطر والأخطار البيئية: الإدراك والسلوك والإدارة
      • الإجهاد المرتبط بالإعدادات المادية
      • الاستخدام الاجتماعي للمساحة: الازدحام ، الخصوصية، المساحة الشخصية– الضوضاء – تلوث الهواء – تلوث الماء – درجات الحرارة المرتفعة أو المنخفضة – السلوك المكاني – العمارة والسلوك – المعرفة البيئية – التربية البيئية – الضغوط البيئية – البيئة التكنولوجية – الأسرة ودورها – والجماعات المرجعية للفرد.

       

    • 5- مجالات علم النفس البيئي:

       يقسـم علم النفس البيئي إلى ثلاث مجالات أساسية:

      مجالات ذات طابع تنموي:

      تهدف إلى تصميم بيئة ذات خصائص نفسية جيدة للأفراد مثل (تصميم فصول دراسية جيدة) و(تصميم الغرف في المستشفيات) وتأخذ بعين الاعتبار الأسس النفسية للتصميم البيئي أو المعماري وفق اعتبارات عامة وخاصة. فالاعتبارات العامة مثل (الحيز الشخصي المناسب للفرد، الألوان، الضوء وأشكال النوافذ...الخ. والاعتبارات الخاصة كاختلاف البيئة مثلا الفصل الدراسي لا يصمم كالغرفة الخاصة بالمريض في المستشفى.

      مجالات تهتم بدراسة وتشخيص المشكلات البيئية: وتشمل:

      • دراسة تأثير الملوثات البيئية من عدة جوانب كدراسة التأثير النفسي للملوث، نسبة التركيز.. لتشخيص تأثير الملوث على المتغيرات النفسية، مدة التعرض للملوث وهو مهم جدا لتشخيص المشكلات.
      • دراسة الخصائص الاجتماعية للفرد على سبيل المثال تأثير المقاومة للملوثات يقل عند الأطفال أكثر من الكبار والمرضى أكثر من الأصحاء والفقراء أكثر من الأغنياء والنساء أكثر من الرجال.
      • دراسة الضوضاء والسلوك ومشكلة الضوضاء الأساسية هي درجة إدراك الفرد لها، والضوضاء هي مجموعة من الأصوات العشوائية المستمرة غير المرغوب فيها.
      • مشكلة الكثافة السكانية (الازدحام) وتأثيرها على السلوك.
      • الكوارث الطبيعية والصناعية وتأثيرها على الأفراد الناجين منها.

      مجالات تهتم بتعديل السلوك إزاء حماية البيئة: وتشمل:

      • التربية البيئية أو التعلم البيئي هي الأساس في تعديل السلوك البيئي.
      • توجيه رسائل عن طريق الإعلانات المختلفة لمواجهة ومعالجة المشكلات البيئية
      • برامج التعزيز للسلوك الإيجابي وتدعيمه بالمكافآت.
      • اهتمام مجالات علم النفس الأخرى من تفسير تأثيرات التلوث الضارة بصحة الإنسان وتقترح بعض الخطوات الضرورية لتغيير السلوك من اجل التقليل أو التخلص من آثار التلوث.

       

      6- خصائص علم النفس البيئي:

      أولا: هناك تأكيد على دراسة علاقات البيئة – السلوك كوحدة واحدة وليس فصلها إلى عناصر مميزة: تفترض التوجهات التقليدية في دراسة الإحساس والإدراك أن المثيرات البيئية متميزة واحدة عن الأخرى وأن الاستجابة للمثير منفصلة ومتميزة عن المثير نفسه ويمكن دراستها بصورة مستقلة نوعاً ما.

      وينظر علم النفس البيئي إلى المثير وإدراكه كوحدة تضم أكثر من مجرد مثير واستجابة.. فالعلاقة الإدراكية بين المثير والاستجابة لدى سكان المدينة، هذه العلاقة لا تعتمد فقط على المثيرات الفردية الموجودة وإنما تعتمد أيضا على النمذجة والتعقيد والحداثة وحركة مكونات أو محتويات المكان وعلى الخبرة الماضية للمدرك وعلى خصائص شخصيته.

      في علم النفس البيئي كل هذه الأشياء تكون وحدة سلوك بيئيّ– إدراكي فالمحيط البيئي يحد ويحدد ويؤثر في السلوك الذي يحدث فيه، وإن السلوك إذا درس بمعزل عن الظروف البيئية المعينة فإن الاستنتاجات المشتقة من عملية الدراسة ستكون محدودة بصورة حتمية. فالبيئة النفسية لا يمكن دراستها بصورة منفصلة عن السلوك والسلوك لا يمكن دراسته بمعزل عن البيئة بدون فقدان معلومات قيمة.

       ويفترض علماء النفس البيئية أن تحليل علاقة البيئة – السلوك في المختبر سيعطي صورة غير كاملة جدا لوحدة البيئة/ السلوك.

      ثانيا/ يفترض علماء علم النفس البيئي أن علاقات البيئة – السلوك هي علاقات متبادلة متداخلة فعلا، وان البيئة تؤثر فعلا وتغير في السلوك وأن السلوك أيضا يؤدي إلى حدوث تغيرات في البيئة.

       مثلا: إذا كان تصميم بناية معينة يؤدي إلى اتخاذ الأفراد طريق معين لدخولها فعند اتخاذ هذا الطريق يمرون بخبرة بيئية آنية مختلفة عن التي يواجهونها في بيئة أخرى وتبدأ هذه البيئة الجديدة بالتأثير على السلوك.

      ثالثا/ يمتلك علم النفس البيئي منظور متفرد في عدم التمييز بين البحث التطبيقي والبحث النظري اي لا يضع حد فاصل ويأخذ بكلا البحثين في الدراسة:

      - حيث تهتم مجالات اخرى من علم النفس بالبحث النظري او الاساسي كوسيلة اولية لفهم السلوك والهدف الرئيسي لمثل هذا البحث هو الحصول على المعرفة حول الموضوع من خلال اكتشاف علاقات سبب – نتيجة بسيطة وبناء نظريات بصرف النظر عن امكانية التطبيق العملي للنتائج. وإذا أدت مثل هذه البحوث ايضاً الى حل مشكلة عملية نظرياً فان التطبيق العملي هو ليس هدفها.

      - من ناحية اخرى يهدف البحث التطبيقي منذ البداية الى حل مشكلة عملية بمعنى ان لهُ نفعاً خاصاً ويجري بصورة نموذجية في ميدان ما.

      - علم النفس البيئي يتولى جزء معين من البحث من اجل اغراض تطبيقية ونظرية في الوقت ذاته بمعنى ان كل البحوث في علم النفس البيئي تحتضن او تتبنى البحث النظري والبحث التطبيقي معاً لتكوين النظريات وحل المشكلات.

      - وتنشأ من هذا التركيز علاقات السبب- النتيجة مثل (تأثير التلوث على السلوك) (وتغيير الاتجاهات نحو البيئة) وتصميم البيئات للاستخدام الانساني الفعّال تكون ذات علاقة بالجوانب النظرية والتطبيقية وهذا النوع من البحوث استمدت منه الكثير من اساسيات علم النفس البيئي.

      رابعا: إن علم النفس البيئي يأخذ بتكامل الأنظمة المعرفية:

      الإدراك البيئي بتأكيده على إدراك المنظر الكلي يكون ذو علاقة بعمل ذوي الاختصاص كالمهندسين المعماريين والبنائين وآخرين في مجالات ذات صلة، وكذلك دراسة تأثيرات البيئة المادية على السلوك، هي أيضا من اهتمامات المهندسين المعماريين والصناعيين وموظفي المستشفيات والمدارس وغيرهم، فهو يعتمد على علوم أخرى على فهم السلوك الإنساني في علاقته مع متغيرات البيئة، حيث أن تصميم البيئات هو ليس من اهتمام المهندسين المعماريين والمصممين فقط، وإنما علماء الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتخطيط وموظفي المتاحف وغيرهم، وربما الحاجة لهذا النوع من نظم المعرفة المتكاملة  تنعكس في نمو مجالات ذات صلة مثل علم الاجتماع المدني، الجغرافيا السلوكية، علم النفس المدني، التخطيط لأوقات الفراغ.

      خامسا: إن لعلم النفس البيئي ارتباط قوي جدا بعلم النفس الاجتماعي:

      يرجع عزو هذا الارتباط القوي بين علم النفس البيئي وعلم النفس الاجتماعي إلى الاهتمامات المشتركة في العديد من السلوكيات المدروسة والى التداخلات الكبيرة في تقنيات البحث في كلا المجالين كدراسة تأثير الكثافة السكانية (الازدحام) وأثرها على السلوكيات الاجتماعية، والمجال الشخصي وغيرها.

       ان دراسة تكوين الاتجاه البيئي وتغييره متأصلة في الدراسة النفسية الاجتماعية للاتجاهات فضلا على أن العوامل البيئية المادية تؤثر على مثل هذه السلوكيات الاجتماعية وكثيرا ما تتشابه فيما بينها وأن علم النفس البيئي يميل لأخذ أسلوب انتقائي أكثر.

      7- مفهوم البيئة:

      البيئة لفظة شائعة في الأوساط العلمية يرتبط مدلولها بنوع العلاقات بين البيئة ومستعمليها، وتعني كذلك كل ما هو خارج عن كيان الإنسان وكل ما يحيط به من موجودات التي يمارس فيها حياته وأنشطته المختلفة. كما يقصد بالبيئة:" كل العوامل والمؤثرات والمتغيرات التي يتفاعل معها الفرد مهما كان نوعها، أو المواقف أو المثيرات التي يستجيب لها".

      كما عرفت البيئة على أنها:" ذلك المحيط الذي يعيش فيه الإنسان ويمارس فيه نشاطه في الحياة، وهي المستودع لموارد الإنسان وعناصر الثروة المتجددة وغير المتجددة، والتي تتفاعل مع بعضها البعض وتؤثر على الإنسان وتتأثر به."

      ويعتبر رحم الأم بيئة الإنسان الأولى، والبيت بيئة، والحي الذي يعيش فيه الإنسان بيئة، والقطر والكرة الأرضية والكون كله. وما يحيط الإنسان من مكونات حية مثل النباتات والحيوانات، وغير حية مثل الصخور والمعادن، وتشمل أيضا الطقس والمناخ ممثلا في فصول السنة واختلاف درجات الحرارة والرطوبة وسرعة الرياح، ويذهب العلماء أيضا ما يسود بيئة الإنسان أيضا من تغيرات نفسية واجتماعية.

      وجاء في مؤتمر "ستوكهولم 1972 أن البيئة هي:" رصيد الموارد المادية والاجتماعية المتاحة في وقت ما ومكان ما لإشباع حاجات الإنسان وتطلعاته".

      8- مكونات البيئة:

      يمكن تقسيم البيئة إلى قسمين رئيسين:

      البيئة الطبيعة: هي كل ما يحيط بالإنسان من ظواهر حية وغير حية وليس للإنسان أثر في وجودها وتشمل: التضاريس، المناخ، التربة، النباتات والحيوانات..

       -البيئة البشرية : ويقصد بها الإنسان وانجازاته وكثافته وسلالته ودرجة تحضره وتقدمه العلمي، مما يؤدي إلى تباين البيئات البشرية والتي تنقسم إلى:

      -البيئة الاجتماعية : تتشكل من الأفراد والجماعات في تفاعلهم وأنماط التنظيم الاجتماعي وجميع مظاهر المجتمع وأنماط العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد.

       -البيئة الثقافية: الوسط الذي خلقه الإنسان لنفسه بما فيه من منتجات مادية وغير مادية في محاولاته الدائمة للسيطرة على الطبيعة.

      والبيئة الثقافية المناسبة للطفل تتحدد من خلال مجموعة من المتغيرات نذكر منها:

      • مدى توفر الكتب والمجلات والمذياع والتلفاز في المنزل في متناول الطفل..
      • مدى توفر المتاحف والمعارض والرحلات والمعارف والمعلومات للإنسان.
      • مدى توفر المؤسسات التربوية كالمدارس والجامعات.
      • مدى توفر برامج تعليم غير نظامي في البيئة التي يعيش فيها الفرد.
      • مستوى ثقافة الوالدين.

      ويضيف آخرون عدة أنماط بيئية مثل:

      -      بيئة ما قبل الولادة.

      -      بيئة ما بعد الولادة.

      -      البيئة الخلوية: والخاصة بخلايا جسم الإنسان.

      -      البيئة الاجتماعية والتي يصنفها برنارد إلى ما يلي:

      *فيزيقية/ مادية اجتماعية: تشمل الأدوات والأسلحة والحلي والآلات وأجهزة النقل والمواصلات ولوازم المعيشة.

      *بيئة بيو (أحيائية) اجتماعية: مثل النباتات المنزلية والحيوانات الأليفة..

      *بيئة نفس اجتماعية: مثل سلوك الأفراد الذين يحتك بهم والعادات والتقاليد والاعتقادات والأخلاقيات ورموز لغة مستخلصة.

      *بيئات ضبط أو رقابة نظامية مؤسسية، كالمؤسسات التربوية والاقتصادية والسياسية.. تشمل البيئة الحياة التي يستمد منها الإنسان قوته وأسباب نموه الفكري والمادي، والاجتماعي....، لكن المشكلات البيئية كالتلوث وضعف طبقة الأوزون.. وغيرها باتت تشكل عوائق بيئية ضخمة تنذر بكارثة للإنسان وهو المتسبب الرئيسي فيها.

      9- تأثير البيئة على السلوك:

      يقصد بـ السلوك: جميع الاستجابات التي تصدر عن الفرد نتيجة لاحتكاكه بغيره من الأفراد، أو نتيجة لاتصاله بالبيئة الخارجية. والسلوك بهذا المعنى يعني: كل ما يصدر عن الفرد من عمل حركي أو كلام أو تفكير أو انفعالات أو مشاعر.

      ويمكن التمييز بين نوعين من سلوك الأفراد: السلوك الفردي والسلوك الاجتماعي.

      وظهر الاهتمام بدراسة تأثير البيئة على سلوك الإنسان، في إطار علم النفس التجريبي في المجتمعات الأمريكية والغربية منذ وقت مبكر، يرجع إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وقد ظهر ذلك خلال نظرية المجال لكيرت ليفين في الأربعينيات من القرن العشرين (1890-1947) وعمله على الجماعات البشرية وحراكها.

      وقد أكد (Lewin) وهو من أوائل علماء النفس الذين أكدوا على أهمية الظروف البيئية المحيطة بالإنسان والمجتمع كشرط رئيسي لتفسير السلوك الفردي والجماعي للإنسان، وأن السلوك هو نتاج طبيعي للتفاعل بين البيئة والإنسان، إلا أنه من الخطأ الاقتصار على عناصر محددة من البيئة (كالمناخ والمحاصيل الزراعية وموارد المياه...الخ (كمحددات للسلوك الإنساني)، إذ أن الاهتمام يجب أن يوجه إلى الخصائص المادية والاجتماعية كمؤثرات على السلوك، فضلا عن التعامل مع البيئة باعتبارها مجموعة مركبات يتكون منها الحيز أو المكان الذي يتواجد فيه الإنسان ويتفاعل معه ويمارس فيه أنشطته، وهذه العلاقة تتداخل فيها العمليات الداخلية مثل الإدراك والنمو والتعليم. وتأثير البيئة الاجتماعية على سلوك الإنسان لا يقل أهمية عن تأثير البيئة المادية.

      ويمارس الناس بعض التأثيرات على أنماط سلوكهم من خلال أسلوب معالجتهم للبيئة، فهم ليسوا فقط مجرد ممارسين لردود الفعل إزاء المثيرات البيئية، ولكنهم قادرون على التفكير والابتكار وتوظيف عملياتهم المعرفية لمعالجة الأحداث والوقائع البيئية.

      وقد أكدت العديد من الدراسات على تأثير الضغوط الاجتماعية والاقتصادية على سكان المدن، وكذلك أثر التعرض للضوضاء على الإنسان، وكذلك تأثير الزحام على ردود الأفعال البشرية وعلى النواحي الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية للإنسان. كما يحدث في بعض القطارات وفي مجالات العمل التي يتعرض فيها العمال لكثير من الضغط.

      والجدير ذكره أن البيئة لا تؤثر فقط في سلوك الإنسان، وإنما تؤثر في نموه وتكوينه وبنائه وشخصيته وصحته الجسمية والعقلية والنفسية ومدى إصابته بالمرض أو تمتعه بالصحة والعافية، وتؤثر البيئة كذلك في اتجاهات الإنسان وميوله وأفكاره وآرائه ومعتقداته. وفي سمات شخصيته. وكذلك تأثير الألوان والموسيقى والأشكال وطرق الاتصال أو التفاعل بين عناصر البيئة التي تؤثر في بعضها بعضاً وتؤثر في الإنسان وتتأثر به.

      ونوع العمران والحالة الاقتصادية والمهنية ونوعية الغذاء ما هي إلا نتاج البيئة بمكوناتها المختلفة، فضلاً عن التأثيرات البيئية في ظهور الأمراض وتحديد أسباب الوفيات.

      وترتبط البيئة الاجتماعية بكل مكوناتها بالبيئة الطبيعية ارتباطاً وثيقاً، لأن البيئة الطبيعية تحدد طراز المعيشة والمهنة والحرف السائدة وأنماط السلوك والاستيطان وطرق البناء والنقل والصناعة والغذاء والعلاقات الاجتماعية. فالبيئة الصحراوية على سبيل المثال حددت المهنة إذ شجعت على امتهان حرفة الرعي والتجارة إلى حد ما، وكانت لها نظرتها الاجتماعية المتدنية للحرف المهنية، كما أنها حددت نمط البناء ونوعيته التي جاءت استجابة لخشونة العيش وندرة الموارد. كما أنها ساهمت في استحباب عادات وتقاليد معينة كإكرام الضيف والشجاعة والفروسية في الوقت الذي ظهرت نوعية الجريمة متلائمة مع تلك البيئة فانتشر قطاع الطرق وظهرت الغزوات وأصبحت الغنائم مورداً للعيش، كما أنها أصبحت بيئة إلهام شعري وفكري ومعرفي ومبعثاً للتأمل والفلسفة من خلال صفاء أجوائها واتساع مساحاتها وسكونها ووضوح الشروق وتلألؤ القمر في سمائها والتحاف الإنسان لسمائها صيفاً. كما أن حالات التطرف والصراعات القبلية في الوقت الحاضر تنتشر في المناطق الصحراوية القاحلة والجافة.

      ويختلف الأمر في البيئات القروية، حيث مياه الأنهار وغابات النخيل والأشجار والثمار وخصوبة الأراضي، ونوع المساكن التي جاءت نتيجة لنوع البيئة ومكوناتها المادية، وانبثقت من ذلك أنظمة وقوانين وعادات وتقاليد تختلف عما هو سائد في البيئة الصحراوية.

      أما البيئة الجبلية الوعرة التي تمتاز بقساوة الحياة، فقد ولدت نمط حياة يختلف عما هو موجود في البيئة الريفية أو الصحراوية. ويظهر ذلك من خلال عادات سكان الجبال ولباسهم وتعاملهم وعاداتهم وتقاليدهم وطرق تنقلهم، والنظم الاجتماعية السائدة لديهم، فضلاً عن التصميم المعماري للمساكن.