نظام الرقابة على دستورية القوانين في الدول المقارنة
انقسمت الدول المقارنة بشأن النظام الذي اتبعته في ممارستها للرقابة على دستورية القوانين إلى نظامين، هما: الرقابة القضائية والرقابة السياسية.
الرقابة القضائية على دستورية القوانين
يعد هذا النظام أقدم نظام متبع في الرقابة على دستورية القوانين. وسمي بالرقابة القضائية لأن الذي يتولى القيام بها وممارستها هو القضاء، سواء في مجموعه أو ممثلا في هيئة واحدة عادة ما تكون المحكمة العليا أو تكون المحكمة الدستورية.
وتأسيسا على ذلك يميز الفقه الدستوري بين الرقابة القضائية عن طريق الدفع التي يخول بممارستها كافة محاكم الدولة على اختلاف مستوياتها، وبين الرقابة القضائية عن طريق الدعوى التي عادة ما يتكفل الدستور بتحديد الجهة القضائية الوحيدة التي يؤول إليها اختصاص ممارستها.
الرقابة القضائية عن طريق الدفع (رقابة الامتناع)
هذا النوع من الرقابة هو أقدم أنواع الرقابة على دستورية القوانين على الاطلاق. وقد ظهر في الو.م.أ[1] بشكل تلقائي، وهذا بمناسبة فصل رئيس المحكمة الاتحادية العليا القاضي جون مارشال سنة 1803 في القضية الشهيرة والمعروفة في تاريخ القضاء الدستوري بقضية ماربوري ضد ماديسون. ليتم تبني هذا النوع وتطبيقه أيضا في دول أخرى مثل كندا وأستراليا والمكسيك... الخ
وتفترض هذه الرقابة وجود نزاع مطروح أمام إحدى الجهات القضائية في الدولة، وكان حل هذا النزاع يقتضي تطبيق قانون معين باعتباره القانون الواجب التطبيق في هذه الحالة، فإن نظام الرقابة هنا يجيز للطرف الذي قد يطبق عليه القانون أن يدفع بعدم دستوريته، وهذا لاستبعاده في قضية الحال من خلال امتناع القاضي عن تطبيقه إذا ثبت له أن القانون فعلا مخالف للدستور. وعليه، فهذه الرقابة تتميز بما يلي:
أن الدعوى التي تمارس بمناسبتها لا تتعلق بها هي، وتعبير آخر هذه الدعوى التي تمارس فيها الرقابة ليست موجهة في الأساس ضد القانون المطعون فيه بعدم الدستورية.
أن القاضي لا يثير هذا الدفع الذي يمارس من خلاله هذه الرقابة من تلقاء نفسه، بل لابد وأن يثيره الخصم الذي له مصلحة في ذلك فقط.
أن سلطة القاضي فيها ضيقة جدا، وذلك لأنه إذا ثبت له فعلا عدم دستورية القانون المطعون فيه، فإنه يمتنع عن تطبيقه فقط في قضية الحال ولا يجوز له إلغائه (الحجية النسبية للحكم). ومن ثم فللقاضي ذاته ولغيره من القضاة أن يطبق ذلك القانون في حالات أخرى ما لم يعدل أو يلغى أو يدفع بعدم دستوريته من جديد. وبذلك فتطبيق القانون في هذه الحالة يعرف نوعا من التذبذب لأنه سيطبق أحيانا ولا يطبق أحيانا أخرى، وهو ما يطرح بإلحاح مسألة احترام مبدأ المساواة أمام القانون الذي يفترض أن يطبق القانون على جميع من تتوافر فيهم شروط تطبيقه بدون تمييز أيا كان مرده.
أنها لا تجد أساسها في الدستور، وإنما في مبدأ قانوني عام وهو مبدأ تدرج القوانين. ولذلك فالاستمرار في ممارستها لا يتأثر مبدئيا بسقوط الدستور وإنهاء العمل به.
أنها غير مقيدة بأجل محدد، وذلك لأن الطاعن لا يعلم مسبقا متى سيتم تطبيق القانون المطعون فيه عليه.
أنها سهلة المنال وغير مكلفة، وذلك لأنها لا تتطلب إلا تقديم الدفع أمام الجهة القضائية.
أنها لا تمس بمبدأ الفصل بين السلطات.
الرقابة القضائية عن طريق الدعوى (رقابة الإلغاء)
تفترض هذه الرقابة أن الدستور يخول لذوي المصلحة أن يرفعوا ضمن شروط وإجراءات محددة دعاوى ضد القوانين قبل أو بعد دخولها حيز النفاذ ليطعنوا بموجبها في عدم دستورية تلك القوانين أمام الجهة القضائية التي أنشأها الدستور خصيصا لهذا الغرض أو التي نص على أنها وحدها صاحبة الاختصاص بنظر هكذا دعاوى.
ولهذه هذه الجهة القضائية بعد أن تتأكد من أن قبول الدعوى شكلا، التصدي لبحث مدى دستورية القانون المطعون فيه أمامها؛ فإذا تبين لها بأن القانون مخالف فعلا للدستور، فإنها تحكم بإلغائه بحسب الحالة كليا أو جزئيا، وذلك ابتداء من تاريخ نفاذه، أما إذا تبين لها عدم تأسيس الدعوى، فإنها تقضي برفضها والإبقاء على القانون ساري النفاذ.
هذا وتعد أحكام هذه الجهة القضائية أحكاما باتة لأنها لا تقبل الطعن فيها بأي من طرق الطعن. كما تعد كذلك أحكاما ذات حجية مطلقة، أي أن آثارها تسري على كل من في الدولة من مواطنين وسلطات.
وقد طبق في الواقع هذا النوع من الرقابة القضائية على دستورية القوانين في العديد من البلدان كسويسرا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، مصر، الكويت، السودان... الخ
إضافة :
يوجد إلى جانب هذين النوعين من الرقابة القضائية، نوعين آخرين لكنهما لم يعرفا انتشارا في التطبيق، وهما:
الرقابة القضائية عن طريق الأمر القضائي: ظهرت في انجلترا ثم في الولايات المتحدة الأمريكية، وتتم هذه الرقابة من خلال تقديم أحد الأفراد طلبا إلى المحكمة يلتمس فيه منها أن تصدر أمرا بوقف تنفيذ قانون ما ضده لعدم دستوريته.
الرقابة القضائية عن طريق الحكم التقريري: فيها يلجأ الشخص إلى المحكمة ليطلب منها إصدار حكم تقرر بموجبه دستورية أو عدم دستورية القانون الذي يريد الموظف تنفيذه عليه، وإلى أن تصدر المحكمة حكمها يتم إيقاف تنفيذ القانون بحقه، فإذا صدر الحكم وكان في صالحه فإنه يمنع على الموظف تطبيقه ضده، والعكس صحيح.
الرقابة السياسية على دستورية القوانين
سميت الرقابة على دستورية القوانين في هذا النظام بالرقابة السياسية لأن الهيئة التي تتولى القيام بها ليست بجهة قضائية و/أو لأن تشكيلتها يغلب عليها العنصر السياسي.
وتعد التجربة الفرنسية في مجال تطبيق الرقابة السياسية على دستورية القوانين من أهم وأقدم التجارب في العالم. بحيث ظهر هذا النوع من الرقابة الدستورية فيها بموجب دستور السنة الثامنة للجمهورية لسنة 1799 الذي أوكل أمر القيام بها إلى مجلس الشيوخ المحافظ (أو مجلس الشيوخ حامي الدستور)، ولكنه فشل في الواقع في أدائها نتيجة سيطرت نابليون بونابرت عليه، ولكن مع ذلك فقد أعاد دستور 1852 النص عليه فيه ليتكرر الفشل هذه المرة أيضا ولكن مع نابليون الثالث، لتغيب بعدها فكرة الرقابة الدستورية إلى غاية وضع دستور 1946 أين ظهرت من جديد، ولكن هذه المرة تم إسنادها إلى لجنة استشارية تسمى باللجنة الدستورية التي كانت في الواقع محاطة بجملة من الضوابط التي جعلت من وجودها شكليا فقط، غير أن ذلك لم يثني واضعي دستور 1958 من الاستمرار في اعتماد الرقابة السياسية، وإن كان هذه المرة عن أسندت اختصاص ممارستها إلى هيئة جديدة تسمى بالمجلس الدستوري الذي يتكون من نوعين من الأعضاء: أعضاء يتمتعون بالعضوية الدائمة وهم رؤساء الجمهورية السابقين الذين لا يزالون على قيد الحياة، وأعضاء يتمتعون بالعضوية لمدة 09 سنوات غير قابلة للتجديد، ويتم تجديد ثلثهم (3/1) كل ثلاث سنوات، وعدد هؤلاء الأعضاء (09) أعضاء: (03) يعينهم رئيس الجمهورية من بينهم رئيس المجلس، و(03) يعينهم رئيس الجمعية الوطنية، و(03) الباقين يعينهم رئيس مجلس الشيوخ.
وقد أسندت صلاحية إخطار المجلس الدستوري في فرنسا إلى كل من: رئيس الجمهورية، ورئيس الجمعية الوطنية، ورئيس مجلس الشيوخ، والوزير الأول، و(60) نائبا أو شيخا في البرلمان.
وصلاحيات المجلس الدستوري الفرنسي في مجال الرقابة الدستورية تشمل الرقابة السابقة فقط، وهي نوعان: رقابة وجوبية عندما يتعلق الأمر بالقوانين العضوية والأنظمة الداخلية للبرلمان، ورقابة اختيارية عندما يتعلق الأمر بالقوانين العادية والمعاهدات الدولية.
وتعود أسباب تمسك فرنسا بالرقابة السياسية على حساب الرقابة القضائية إلى عدة أسباب، منها ما هو تاريخي يرجع إلى أن رجال الثورة الفرنسية كانوا ناقمين على جهاز القضاء (البرلمانات) لكونه كان جهازا محافظا وكان يحاول جاهدا عرقلة الإصلاحات التي كانوا يسعون إلى تجسيدها، كما عارضوا بشدة تكليف القضاء بالرقابة الدستورية نظرا للفساد الذي كان مستشريا فيه. ومنها ما هو سياسي يرجع لكون القانون تعبير عن الإرادة العامة التي يجسدها البرلمان باعتباره ممثلا لسيادة الأمة، ومن ثم لا يمكن للقضاء أن يكون رقيبا على القانون وإلا كان أعلى من الأمة. ومنها أيضا ما قانوني بحيث نادوا بالتطبيق الصارم لمبدأ الفصل بين السلطات ومن بينها السلطتين التشريعية والقضائية.
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبه ولا يزال يلعبه المجلس الدستوري الفرنسي في حماية الدستور، وبالأخص منه تلك المتعلقة بالحقوق والحريات، إلا أن الفقه الدستوري لا يزال يوجه الكثير من سهام النقد للرقابة السياسية على دستورية القوانين، وذلك من عدة أوجه:
تأثر أعضاء الهيئة المكلفة بالرقابة بالاتجاهات السياسية والحزبية التي ينتمون إليها.
عدم استقلالية الأعضاء سواء كانوا منتخبين أم معينين عن الجهات التي أتت بهم.
عدم تمتع الأعضاء في الغالب بالتكوين والتأهيل القانوني اللازم لممارسة هكذا رقابة.
هذه الرقابة عادة ما تكون وقائية فقط، ولأن عدد جهات الإخطار محدود جدا وليس متاحا للمواطنين، فإن ذلك قد يؤدي إلى إفلات قوانين من الرقابة رغم ما يشوبها من عدم دستورية.
عدم تمكين المواطنين من إخطار الهيئة المكلفة بالرقابة رغم أنهم قد يكونون هم المتضررين الأوائل من القانون المشكوك في عدم دستوريته.
قصر حق الإخطار على السلطتين التشريعية والتنفيذية في ظل الأنظمة السياسية المغلقة دائما ما يحمل في طياته شبهة التواطؤ السياسي بينهما بشأن تمرير بعض القوانين العادية دون عرضها على الرقابة للتأكد من عدم دستوريتها.