الدول الكبرى تتأثر أكثر بالمتغيرات الداخلية. وبالمتغيرات المجتمعية (الرأي العام، البيئة الداخلية، الجماعات الضاغطة، المجتمع المدني) في النظام السياسي المفتوح.
أولا/ البيئة الداخلية:
من الناحية الرسمية والهيكلية الإدارية هناك عدة جهات تشترك في صناعة الاستراتيجية الأمريكية والسياسة الخارجية، هما وزارتا الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع، وهناك أيضا لجنة الخارجية والأمن وهي لجنة تابعة للكونغرس، لكن الأهم من بين كل هذه الهيئات هو مجلس الأمن القومي، وهو تابع مباشرة إلى الرئيس الأمريكي وعادة ما يشغل هذا المنصب أقرب المقربين من الرئيس مباشرة.
أما خارج الدوائر الرسمية فهناك العديد من الجمعيات والمعاهد التي تعنى بقضايا الدفاع والخارجية وتضع بصماتها على فكرة صانع القرار، ومن بين أهم المؤسسات الفاعلة غير الرسمية نذكر معهد أمريكان انتربرايز تأسس عام 1943، ومنتدى الشرق الأوسط، مؤسسة برادلي 1903 ومركز سياسات الأمن 1988، إضافة إلى مجلس سياسات الدفاع ومكتب المهمات الخاصة، هذا إلى جانب مصانع التمويل الحربي، المؤسسات الإعلامية وجماعات المصالح.
1- وكالة الاستخبارات الأمريكية:
تعتبر المحور الأساسي للاستخبارات الأمريكية والمصدر الأساسي للمعلومات للسلطة التنفيذية، وقد استعملت إدارة ترومان وايزنهاور هذا الجهاز لمعالجة قضايا السياسة الخارجية، كما ويعتبر حاليا من الأجهزة الهامة والفاعلة في السياسة الخارجية.
2- الكونغرس:
يعتبر الكونغرس جهازا تشريعيا مكون من غرفتين: مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وتهتم الكونغرس بالقضايا الخارجية والمرتبطة بالسياسة الخارجية فضلا عن الأمور الداخلية للولايات الفيدرالية.
3- مجلس الأمن القومي:
تأسس مجلس الأمن القومي بموجب قانون صادر عام 1947 (لكن منصب مستشار الأمن القومي لم يحدد إلا في عام 1953). القانون يخوّل هذا المجلس معالجة شؤون الأمن الخارجي بالمعنى الواسع للعبارة إضافة إلى النظر في شؤون الأمن الداخلي. وهو لا يضم سوى أربعة أعضاء بقوة القانون هم: الرئيس ونائبه ووزير الخارجية ووزير الدفاع إضافة إلى اثنين من المستشارين الدائمين هما رئيس لجنة رؤساء الأركان ومدير وكالة المخابرات المركزية. لكن المؤسسة توسعت عبر السنين حيث تضم اليوم ما يقرب من 150 شخصاً. وتصدر التوجيهات الرئاسية المتعلقة بالأمن القومي برعاية مجلس توجيهات الأمن القومي الرئاسية، وهي توجيهات يتم تصنيفها بشكل عام إضافة إلى تقرير استراتيجية الأمن القومي الذي يعد أهم وثيقة عامة المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن الخارجي.
4- اللوبي الصهيوني:
تلعب جماعات المصالح في الولايات المتحدة دورا مهما وكبيرا في صنع السياسة الخارجية وبالرغم من التأثير السياسي لجماعات الضغط فان صناع السياسة الخارجية يدركون فاعلية هذه الجماعات ومن ثم فهم يتبعون السياسات التي تحظى برضاها أو على الأقل بسكوتها ويعد اللوبي الصهيوني أبرز مثال على ذلك ويكمن التفسير في قوة اللوبي “الإسرائيلي” الذي ليس له مثيل، فلولا مقدرة هذا اللوبي على معالجة النظام السياسي الأمريكي، لكانت العلاقة بين “إسرائيل” والولايات المتحدة أقل حميمية مما هي عليه اليوم.
يتكون جوهر اللوبي من يهود أمريكيين يبذلون جهداً كبيراً في حياتهم اليومية من أجل ثني السياسة الخارجية الأمريكية بحيث تدعم مصالح “إسرائيل” وتتجاوز نشاطاتهم مجرد التصويت لمرشحين موالين ”لإسرائيل”، إلى كتابة الرسائل والإسهامات المالية، ودعم المنظمات الموالية ”لإسرائيل” ولكن ليس كل الأمريكيين اليهود جزءاً من اللوبي، لأن “إسرائيل” ليست قضية بارزة للعديد منهم. ففي مسح أجري سنة 2004 على سبيل المثال، قال نحو 36% من الأمريكيين اليهود إنهم إما غير مرتبطين جداً ”بإسرائيل” عاطفياً، أو “غير مرتبطين بها عاطفياً بالمرة”.
وسائل الإعلام:
تعتبر جزءا لا يتجزأ من العملية السياسية الأمريكية وشريكة مساهمة بطريقة غير مباشرة في صنع السياسة الخارجية، البعض يراها بمثابة الذراع الداعم للنخبة السياسية المسيطرة؛ ويلعب الإعلام دورا ذو حدين من حيث تقليل الآراء المعارضة أو التأثير على صناع السياسة الخارجية الشيء الذي يؤدي إلى تعقيد مهمتهم.
6- مراكز الأبحاث ودورها في صنع السياسة الخارجية:
إن دور مؤسسات الفكر والرأي، تعتبر من المؤثرات العديدة في صياغة سياسة الولايات المتحدة الخارجية، هو أحد أكثر تلك الأدوار أهمية وأقلها فهماً وتقديراً. فقد قامت هذه المؤسسات التي هي بمثابة مراكز أبحاث سياسية مستقلة، والتي تشكل ظاهرة أمريكية مميزة، بصياغة التعاطي الأمريكي مع العالم لفترة تقارب مئة عام. ولكن كون مؤسسات الفكر والرأي تقوم بمعظم مهامها بمعزل عن أضواء وسائل الإعلام يجعلها تحظى باهتمام يقل عما تحظى به المنابع الأخرى للسياسة الأمريكية- كالتنافس بين مجموعات المصالح، والمناورات بين الأحزاب السياسية، والتنافس بين فروع الحكومة المختلفة. وعلى الرغم من هذا الابتعاد النسبي عن الأضواء، فإن مؤسسات الفكر والرأي تؤثر على صانعي السياسة الخارجية الأمريكية بخمس طرق مختلفة هي: توليد أفكار وخيارات مبتكرة في السياسة، وتأمين مجموعة جاهزة من الاختصاصيين للعمل في الحكومة، وتوفير مكان للنقاش على مستوى رفيع، وتثقيف مواطني الولايات المتحدة عن العالم، وإضافة وسيلة مكملة للجهود الرسمية للتوسط وحل النزاعات، فهناك العديد من مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة التي لها أهمية في تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية و يطلق عليها Tank tanks و تقوم هذه المراكز البحثية بإمداد صانعي السياسة الأمريكية ووسائل الإعلام بتحليلات ودراسات تتعلق بكل القضايا الهامة مما يجعلها لاعبا هاما في تحديد أولويات السياسة الخارجية و مساراتها فقد أصبحت هناك أكثر من 1200 مؤسسة للفكر والرأي موزعة على كامل الساحة السياسية الأمريكية. وهي تشكل مجموعة غير متجانسة من حيث اتساع نطاق المواضيع والتمويل والتفويض والموقع. فبعض هذه المؤسسات، مثل معهد الاقتصاد الدولي، ومؤسسة الحوار بين الدول الأمركية، أو معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى يركزّ على مجالات وظيفية محددة أو مناطق معينة. في حين تغطي مؤسسات أخرى، مثل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، السياسة الخارجية بصورة عامة. ولدى القليل من مؤسسات الفكر والرأي، مثل بروكنغز، منح وقفية ضخمة فلا تقبل بالتالي إلا القليل من التمويل الرسمي. في حين تحصل مؤسسات أخرى مثل راند RANDعلى معظم إيراداتها من عقود للقيام بأعمال لزبائن في الحكومة وفي القطاع الخاص؛ بينما تعتمد قلة منها مثل معهد السلام الأمريكي بصورة شبه كاملة على التمويل الحكومي. وتقوم مؤسسات الفكر والرأي، في بعض الحالات، بدور إضافي كمنظمات غير حكومية ناشطة في قضية معينة. ومن هذه المراكز:
-مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية: والتي تعتبر من المراكز البحثية الكبرى والتي لا تقل أهمية عن مؤسسة راندRand التي لها العديد من الدراسات الهامة وتكونت مؤسسة راند كوربورايشن المشهورة في البداية من مصادر التبرعات ومن تمويل المشاريع الخاصة من قبل الجمعيات والعقود المنظمة من مؤسسات سياسية أو شركات خاصة.
-مجلس العلاقات الخارجية: وهو مؤسسة محترمة تأسست عام 1921، وتعد معقلاً "للواقعية" والاعتدال، ويديرها اليوم رتشارد هاس رئيس الخلية المستقبلية رئيس مجموعة التخطيط في وزارة الخارجية حتى عام 2002 ويصدر المجلة الشهيرة Foreign Affairs.
-هناك مؤسستان لهما توجه ديمقراطي هما: مؤسسة بروكينز التي أحدثت في عام 1927 وتضم اليوم قدامى المسؤولين في إدارة كلينتون مثل جيمس ستاينبرغ، مسؤول الدراسات الدولية ومساعد المستشار السابق لشؤون الأمن القومي؛ ومؤسسة كارنيجي للسلام الدولي التي تصدر مجلة "السياسة الدولية" وتعد دراساتها حول انتشار أسلحة الدمار الشامل حجة في هذا المجال.
-وهناك أيضاً مؤسستان ليست لهما صفة سياسية كبيرة هما: مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) الذي يصدر مجلة واشنطن كوارتلي، ومؤسسة راند كوربوريشن المشهورة. في البداية تكونت المصادر المالية لهذه المؤسسات من عائدات التبرع السخية (غالباً ما تكون على شكل هبات موصى بها)، ومن تمويل المشاريع الخاصة من قبل الجمعيات والعقود المنظمة مع مؤسسات سياسية أو شركات خاصة.
5- دور الدين:
يعتبر الدين من الأطر الضرورية والهامة في البيئة الداخلية إذ أصبح من الواضح أن صانعي القرار في السياسة الخارجية الأمريكية يتمحورون في عصبتين أساسيتين هما:
ü العصبة الأولى: تتمثل في مجموعة من المبشرين من اليمين الديني المحافظ المعروفين بالإنجيليين الجدد، وهؤلاء يقومون بأدلجة العداء والحرب ضد العالم، وبالترويج والتسويق لصدام الحضارات وتحديداً ضد العالم الإسلامي الذي أصبح يمثل في منطقهم "محور الشر", حيث يتم وفق طروحاتهم تعميم الصور النمطية عن العربي الإرهابي الكاره والحاقد على نمط الحياة الغربية. يستخدم هؤلاء منطق بن لادن بصورة مقلوبة، فيعيدون إنتاج العلاقة بالإنجيل والتوراة.. إذ يعمدون إلى إسقاط هذه النصوص والمفاهيم على الواقع المعاصر
ü العصبة الثانية: يتمثل في تيار المحافظين الجدد الذي نجح في استيعاب الإدارة الحالية، والذي يقوم بمهمة البرمجة ووضع السياسات والاستراتيجيات العامة.
ثانيا: البيئة الخارجية:
تشمل البيئة الخارجية العناصر والمتغيرات الواقعة خارج الحدود القطرية للدولة وتتضمن سلوك الوحدات الدولية الأخرى منظمات دولية و شركات اقتصادية وتجارية عابرة للقارات .. بصفة عامة تلك التغيرات الواقعة خارج محيط الدولة والتي تؤثر على صنع السياسة الخارجية للدولة.
من منطلق أن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل المرتبة الثالثة من حيث عدد السكان و الرابعة من حيث المساحة ؛ أي ما يغطي نصف مساحة القارة الأمريكية , بمساحة تعادل 9809430 كم² وبتعداد سكاني يفوق 315 مليون نسمة كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر من الدول الجديدة التي تملك ثروات ومواد أولية هائلة كاحتياط ؛ و منذ الحرب العالمية الثانية خرجت الولايات المتحدة منها كمستفيد إذ تعدت حجم المكاسب الـ 11 مليار دولار كعائدات من تجارة الأسلحة لدول أروبا المتناحرة ومن ذاك الحين أصبحت على رأس الدول الاقتصادية و التي تمثل الاقتصاد الأول في العالم .. نجد أن هذه المقومات جعلتها من أقوى الدول في العالم.
إلى جانب ذلك فهي ذات قعد دائم في هيئة الأمم المتحدة وذات تأثير قوي على هذه الهيئة إلى جانب عضويتها البارزة في العديد من المنظمات والمؤسسات الدولية الأخرى كصندوق النقد لدولي والبنك العالمي ناهيك عن المنظمات الغير حكومية الأخرى والشركات المتعددة الجنسيات ... الخ
وبما أن المنظمات الدولية أصبحت تمثل أحد الفواعل في النظام الدولي الذي تلعب فيه دورا هاما؛ فان عملية صنع السياسة الخارجية تبقى تتأثر بهذه الأخيرة، فعلى سبيل المثال كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى قرار دولي بشأن التدخل في العراق لكن هيئة الأمم المتحدة أحجمت على ذلك ما جعل التدخل الأمريكي في العراق يفتقر إلى الشرعية الدولية وغير مبرر.
ثالثا: البيئة السيكولوجية:
على اعتبار أن الفهم الدقيق للبيئة السيكولوجية لصناع القرار يؤدي إلى فهم دقيق لعملية صنع السياسة الخارجية، إذ تمثل البيئة السيكولوجية المنفذ الأهم لمعرفة الخلفيات والدوافع الكامنة حول القرار المتخذ.
-من خلال ما سبق، يبدو أن هذه العوامل في الأغلب متشابهة في المضمون، ولكن الاختلاف يكون من حيث التضخيم أو الجانب الدعائي، فالسياسة المتبعة نحو إسرائيل ثابتة ولن تتغير، وطالما سعت كل الإدارات الأمريكية إلى تعزيز أمن إسرائيل في المنطقة وخدمة مصالحها، ويتم التضخيم في هذا الجانب في الفترات الانتخابية بهدف الحصول على دعم وتأييد اللوبي الصهيوني القوي والمؤثر في الداخل الأمريكي، كما أن السياسة نحو الحلفاء في المنطقة ربما كانت حذرة ولكنها لم تختلف في التنسيق على المستوى الكلي، أي أن التوجهات تكاد تكون متقاربة، ولكن الفارق في الآلية التي سيتم بها تنفيذ هذه الاستراتيجية، وهو اختلاف مستقر أيضاً بين الإدارات الجمهورية والإدارات الديمقراطية، لأنه مهما كانت الاختلافات، ومع أهمية الدور الذي يقوم به الرئيس في النظام السياسي الأمريكي، إلا أنه تأتي أهمية التأكيد على أن السياسة الخارجية الأمريكية تساهم في صناعتها وصياغتها مجموعة معقدة من المؤسسات، وتتنوع فيها الأدوار والتأثيرات، كما تتسم بالثبات الاستراتيجي في ظل توجهات واضحة وأهداف محددة، وتظهر الاختلافات أحياناً في الإجراءات والأدوات، وفي بعض الأحيان في ترتيب الأولويات، ومع ذلك فهناك هامش مؤثر لحركة الرئيس وسياساته، خصوصاً إذا أخذنا في الحسبان أنّ الحزب الجمهوري يتمتع بالغالبية في مجلسي النواب والشيوخ، وهو الحزب الذي جاء ترامب على بطاقته.