شهد العقد الأخير من القرن العشرين تحولات جذرية على صعيد العلاقات الدولية تجسدت بتغيرات عديدة منها انهيار نظام الثنائية القطبية المرتكز على توازن القوى والردع النووي المتبادل . ومنها انهيار ازدواجية خيار التطور الاجتماعي رأسمالي / اشتراكي وما نتج عنه من انحسار التنمية الوطنية المتمحورة على الذات . ومنها اختلال دور الدولة ومواقعها في السياسية الخارجية .

ان تبدلات العلاقات الدولية أفضت الى تغيرات في طبيعة ومحتوى السياسة الدولية التي يمكن رصدها من خلال الموضوعات التالية : ـ
ــ تراجع النزاعات الأيدلوجية بين الليبرالية والاشتراكية التي وسمت العلاقات الدولية في الحقبة المنصرمة الامر الذي مهد الطريق لسيادة شعارات الليبرالية الجديدة والسياسية التدخلية سواء في الدعوة الى إعادة بناء الأنظمة السياسية عبر حق التدخل وحقوق الإنسان أو على صعيد إزالة العوائق السيادية أمام حرية حركة رؤؤس الأموال الدولية فضلا عن إعتماد الأسواق المفتوحة.
ـــ إعتماد مبدأ استخدام القوة بشرعية دولية يضمنها مجلس الأمن الدولي أو بصورة انفرادية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية الامر الذي دفع الأخيرة لخوض حروب عديدة متوخية بذلك تطوير نظامها الإمبراطوري المرتكز على حرية التدخل في الشئون الدولية .
ـــ اختلال مبدأ السيادة الوطنية الذي جرى تحجيمه بكثرة من الشعارات الأيديولوجية والاقتصادية والسياسية .
ـــ استبدال المواجهة الأيديولوجية بين خياري التطور الاجتماعي رأسمالي / اشتراكي بمواجهة جديدة مضمونها المنافسة بين التكتلات الاقتصادية ومراكزها الدولية .

ان التبدلات المشار إليها في توجهات السياسة الدولية والتي احتلت الولايات المتحدة مركزاً مقررا فيها لم تستمر لفترة طويلة وذلك لكثرة من الأسباب الأساسية أهمها تحول الدول الاشتراكية السابقة ــ روسيا ــ الصين الى دول رأسمالية وذلك بعد تحول بيروقراطيتها الحزبية الى قوى طبقية حاكمة متسلحة بروح قومية . بمعنى آخر ان القوى الاجتماعية الجديدة تسعى الى بناء علاقاتها الدولية على قاعدة توازن المصالح المرتكز على المنافع الاقتصادية المشتركة والتعاون العسكري بينها وبين مراكز الهيمنة الدولية.

ان وحدة العالم وترابط مستويات أسواقه الوطنية / الإقليمية / الدولية على قاعدة رأسمالية فضلاً عن تحول مراكز الهيمنة الدولية من الصيغة الوطنية الى التكتلات الاقتصادية أحدث تغييرا جوهريا في سياسة الدول الكبرى استناداً الى كثرة من المحددات التي أجدها في : ـ
1 : ـ فرض بناء التكتلات الاقتصادية واقعاً قانونيا / سياسياً / اقتصادياً يتمثل بظهور الشركات الدولية على مسرح السياسية الدولية ما نتج عن ذلك من وضع تلك المصالح على جدول أعمال السياسية الخارجية للدول الكبرى. وبهذا المسار نشير الى أن ترابط مصالح الشركات الاحتكارية مع الدولة ليس بالشئ الجديد إلا ان الجديد في الطور المعولم أن دفاع المراكز الكبرى عن مصالح الشركات الاحتكارية انتقل من شكل الدفاع الوطني عنها الى صيغة التنسيق المشترك بين مراكز الهيمنة الدولية بهدف بناء سياسة خارجية ودفاعية ( موحدة ) . بكلام آخر ان السياسية الخارجية لم تعد تبنى على مستوى دولة كبرى واحدة بل يجري بناء توجهاتها الأساسية من عدة دول متحالفة على أسس استراتيجية .
2 : ـ تحول التنافس بين الدول الكبرى لاقتسام النفوذ والهيمنة الذي اتسم به الطوران الأول والثاني من التوسع الرأسمالي الى منافسة بين التكتلات الاقتصادية في الطور المعولم وما يعنيه ذلك من إمكانية تحول المنافسة بين التكتلات الاقتصادية الى منافسة بين القارات الثلاث الكبرى امريكا ودول النافتا والاتحاد الأوربي وتكتلات أسيا الاقتصادية .

ان المنافسة القارية بين التكتلات الاقتصادية تستند الى وفرة الامكانات الاقتصادية / البشرية / والثروات الوطنية فضلا عن المدخرات المالية التي تمتلكها الدول الآسيوية الناهضة الامر الذي دفع بعض المحللين الى وصف هذا العصر ( بربيع أسيا ) .
3 : ـ يفضي تنوع وتعدد التكتلات الاقتصادية الى ظهور مراكز دولية جديدة تسعى الى تفعيل مساهمتها في السياسية الدولية الأمر الذي يشترط انتقال العلاقات الدولية من هيمنة طرف دولي واحد الى علاقات متعددة الأقطاب وما ينتجه ذلك من بناء شرعية دولية جديدة مضمونها توازن المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى .

ان انتقال العلاقات الدولية الى التعددية القطبية سيدفع السياسة الخارجية للدول الكبرى اعتماد سياسة التشاور والتعاون وعدم الانفراد باتخاذ القرارات الدولية المرتكزة على مصلحة الطرف الأقوى .


يتسم الطور الجديد من التوسع الراسمالي المعولم بوفرة الأساليب والآليات الاقتصادية / العسكرية / القانونية / الثقافية الضاغطة على البلدان الضعيفة والهادفة الى ربط تطورها الاقتصادي بما يتناسب والمصالح الاستراتيجية للدول الكبرى .

قبل الخوض في تأشير بعض سمات السياسة الخارجية لمراكز الهيمنة الدولية علينا ملامسة الأطر الناظمة للعلاقات الدولية المعاصرة في موضوعات فكرية / سياسية عامة .

الموضوعة الأولى : ـ تتلخص مضامين السياسية الخارجية للدول الكبرى في إعادة توزيع مراكز النفوذ واقتسام دول العالم الضعيفة عبر إلحاقها بالتكتلات الاقتصادية الناهضة .

الموضوعة الثانية : ـ ارتكازاً على نزوع العالم نحو بناء التكتلات الاقتصادية الدولية تسعى المراكز الدولية الكبرى الى ربط بلدان العالم الثالث بهذا التكتل الاقتصادي أو ذلك وبهذا السياق نلاحظ عدة أشكال من التكتلات الاقتصادية يتمثل الأول منها بحركة الاندماج الكبرى بين الشركات الدولية في مراكز الهيمنة الدولية . بينما يتجسد الشكل الثاني بمسعى الدول الكبرى في إلحاق الدول الوطنية بالتكتلات الاقتصادية الدولية انطلاقا من تبعيتها الكولونيالية السابقة ، وبهذا المسعى نشير الى ان الدول الوطنية ذات التبعية الكولونيالية السابقة تتجاوب بهذا الشكل أو ذلك مع التوجهات الأساسية لسياسة الدول الكبرى في حل مشاكلها الداخلية .أما الشكل الاخير نراه في مسعى المراكز الإقليمية الناهضة الى بناء تكتلات إقليمية لتشكل سياجاً اقتصاديا بوجه مطامع الدول الكبرى وشركاتها الدولية . وبهذا السياق يمكن التأكيد على أن السياسية الخارجية الصينية الهادفة الى ربط كثرة من البلدان الأفريقية والآسيوية بعلاقات اقتصادية ترتكز في أحد جوانبها على مبادئ التكافؤ وتوازن المصالح بعيدا عن التدخل في الشئون الداخلية لتلك الدول .

الموضوعة الثالثة : ـ تسعى السياسة الخارجية لمراكز الهيمنة الدولية الى منع الدول الإقليمية الناهضة ــ البرازيل ، الهند ، تركيا ، إيران ــ فضلا عن الصين وروسيا من التحول الى مراكز إقليمية مؤثرة بهدف إبقاء تطور العلاقات الدولية ضمن مجال سيطرة المراكز الدولية لكبرى .

الموضوعة الرابعة : ـ تشكل منطقة الشرق الأوسط بسبب ثرواتها النفطية وأسواقها الواعدة ( مجالا حيوياً ) لأمن الدول الكبرى وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية لذلك نرى أن آليات السياسية الخارجية الأمريكية إزاء المنطقة تتركز في كثرة من الثوابت منها : ـ
1 : ـ اعتبار منطقة الشرق الأوسط جزءاً أساسيا من استراتيجية الولايات المتحدة الكونية ولهذا فقد شكلت النزاعات الاجتماعية والسياسية في دول المنطقة أحد المضامين الأساسية للسياسية الخارجية الأمريكية وبهذا يمكن تفسير ربط النزاع العربي الإسرائيلي بمشروع الشرق الأوسط المرتكز على السيادة الإسرائيلية والهيمنة الأمريكية .
2 : ـ رغم الشعارات الديمقراطية التي رفعتها الليبرالية الجديدة بشأن تحديث النظم السياسية لدول المنطقة إلا ان السياسية الخارجية للولايات المتحدة حافظت على تقاليدها التاريخية المتمثلة بالدعم المتواصل للدول الحليفة ، وما يعنيه ذلك من انفصال الشعارات الأيديولوجية الداعية الى الديمقراطية والمساواة عن سياسية مساندة النظم السياسية اللاديمقراطية للدول الحليفة . *
3: ـ بهدف منع القوى الإقليمية الناهضة تركيا، إيران، روسيا من بناء تكتلات إقليمية اقتصادية تسعى السياسية الأمريكية الى إلحاق أسواق الدول الحليفة بشركاتها الدولية فضلا عن تنمية التحالف الخليجي وسوقه الاقتصادية الذي يشكل أساسا إقليميا لبناء تكتل اقتصادي تابع للاحتكارات الأمريكية .
4 : ـ ان تغيرات التشكيلة الاجتماعية المعولمة وانتقال الطبقة البرجوازية الحاكمة من أطارها الوطني الى اطارها ألأممي يشترط التضامن بين فصائل الطبقة البرجوازية العالمية وبهذا فان تدخلات السياسة الخارجية الأمريكية في النزاعات الاجتماعية لبلدان الشرق الأوسط تهدف الى مساندة القوى الاجتماعية المؤيدة للتحالف مع التوجهات الأمريكية فضلا عن تحجيم القوى الاجتماعية المناهضة لسياسة التحالف مع الدول الكبرى .
5 : ـ شكلت الشعارات الديمقراطية رافعة أيديولوجية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية الامر الذي وضعها في تناقض بين تحقيق مصالحها الاستراتيجية وشعاراتها الديمقراطية ولهذا فقد ابتدعت الإدارة الأمريكية حلاً لهذا التناقض تمثل في اعتماد الشرعية الانتخابية

Modifié le: Wednesday 8 May 2024, 01:25