يعد مفهوم القوة من المفاهيم المركزية والمراوغة في الوقت نفسه، فهو من ناحية أولى – مفهوم مركزي لأنه يلعب دور حيويا في سلوك السياسة الخارجية، ولكنه-من ناحية أخرى – مفهوم مراوغ ذلك أنه من الصعب التميز ين القدرة على التصرف، وبين الممارسة الفعلية، لأنهما غير متلازمين، فامتلاك القوِة لا يؤدي إلى ممارسِة النفوذ؛ لأن العوامل الإدراكية قد تؤدي الى سوء فهم صانع القرار لمقدرات ونوايا الآخرين، زد على ذلك أن الميل الى العدوانية مرادفة للقوة، قد يؤدي الى المزيد من الخلط بين القوة والنفوذ، ومن ثم يصعب قياس القوة في الواقع. من ناحية ثانية؛ القوة مفهوم نسبي، لأن أثر القوة يختلف من قضية لأخرى، وذلك بحكم مجموعة من العوامل الأخرى .

ولقد تجاوز مفهوم القوة في مضمونه الفكري المعنى العسكري الشائع إلى مضمون حضاري أوسع ليشمل القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية...إلخ. ولكن أيا من مصادر القوة مهما تعددت لا تكتسب وزنا ولا

تأثيرا بمجرد وجودها، وإنما يرتبط هذا الوزن بالتأثير في التدخل الواعي لتحويل مصادر القوة المتاحة إلى طاقة مؤثرة وسلاح فعال، فالقوة (Power) هي مجرد امتلاك مصادر القوة كالموارد والقدرات الاقتصادية والعسكرية والسكان وغيرها، أما القدرة  (Strength)  فتنصرف إلى إمكانية تحويل هذه المصادر إلى عنصر ضغط وتأثير في قدرات الآخرين. وبهذا المعنى عرف روبرت Robert Alan Dah القوة بأنها "القدرة على جعل الآخرين يقومون بأشياء ما كانوا ليقوموا بها لولا ذلك".

وقد اختلف الباحثون والمفكرون في علم العلاقات الدولية حول تحديد عوامل قوة الدولة في المجال الدولي، لكن أبرز من نظّر في هذا المجال هو المفكر الألماني هانس مورغنثاو (Hans Morgenthau)، فقد حدد عوامل قوة الدولة في عدة عوامل، هي: العامل الجغرافي، الموارد الطبيعية، السكان، التقدم الصناعي، درجة الاستعداد العسكري، الخصائص القومية، الروح المعنوية، نوعية الدبلوماسية.

 

أولا: العامل الجغرافي: المجال الجغرافي يمثل أحد أبرز ركائز قوة الدولة، ذلك بأن الدول هي في الأساس وحدات إقليمية، يمثل الإقليم أحد أركان وجودها ذاته، فلا دولة بدون إقليم، وهناك معطيات جغرافية عديدة تؤثر في قيمة الإقليم كعامل من عوامل قوة الدولة، وتتمثل هذه المعطيات في: المناخ، التضاريس، والموقع.

المناخ: يلعب المناخ المعتدل دورا هاما في تنشيط فعالية الإنسان، وبالتالي فإنه يساعد في زيادة قوة الدول، بينما تقيد المناطق الباردة والحارة الرطبة والحارة الجافة فعالية الإنسان وتشكل نقاط ضعف للدول، وللمناخ تأثير هام وقت الحروب وأثناء القتال، ففي المناطق ذات المناخ الفصلي من النادر أن تقدم دولتان على خوض معركة بينهما، ويجب أن تأخذ الجهات الحكومية الظروف المناخية في عين الاعتبار أثناء الحروب لتقدم نوع الطعام واللباس المناسب للمقاتلين حتى يقاتلوا في ظروف مريحة ليقدّموا أفضل ما لديهم.

التضاريس: تعتبر من أكثر عناصر المظهر الطبيعي ذات صلة بقوة الدولة سواء كانت سهلا منبسطا أو أرضا جبلية وعرة أو هضابا، وتأثر التضاريس على نمط تصريف المياه وخطوط المواصلات والنقل، وتعتبر المناطق السهلية من أفضل المناطق لممارسة النشاط الاقتصادي والتقني والحضاري، لذا نجد معظم سكان العالم يقطنون الجهات السهلة والجزء الأعظم من النشاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

الموقع: یعدّ الموقع من أكثر الخصائص الجغرافیة تأثيرا في تكوین شخصیة الدولة وتحدید وزنها السیاسي، تأتي دراسة الموقع الجغرافي وما يحتويه من موارد في مقدمة المقومات الجغرافیة التي تتدخل في تبربر وجود الدولة الجغرافي على صفحة الخریطة السیاسیة، ويعد فريدريك راتزل الألماني  (Friedrich Ratzel)مؤسس مدرسة الچيوبوليتيك أول من نبه إلى دور الموقع الجغرافي كمؤثر في سياسات الدول .

الموارد الطبيعية: وهي عامل ثابت نسبيا يفرض تأثيراته على قوة الدولة، مقارنة بالدول الأخرى. وتشمل الموارد المختلفة كمصادر الطاقة مثل الفحم، النفط، الغاز، المواد النووية، أو ثروات معدنية (كالحديد والقصدير والنحاس والفضة والذهب(، إضافة إلى ما يوجد على سطح الأرض من تربة ومصادر مياه، تتيح إنتاج الموارد الغذائية أو الموارد الزراعية، فالبلاد ذات الإكتفاء الذاتى تكون متفوقة.

ثانيا: القدرة الاقتصادية: هي وسيلة كبيرة الأهمية في الوقت المعاصر لما للاقتصاد من عوامل مؤثرة في السياسات الدولية. وترتبط هذه القدرة بعدد هائل من الوسائل والأنشطة الخاصة كالتصدير والاستيراد والسلع والخدمات، ومنح المساعدات الاقتصادية، وتبادل الثروة والمعاملات المالية وأدوات الحماية التجارية، والعقوبات والمقاطعات الاقتصادية، ومنح الأفضليات التجارية كوضع الدولة الأكثر رعاية، وأدوات تحديد سعر صرف العملة الوطنية، والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة في الخارج، وأشكال المفاوضات كافة الخاصة بتنظيم التعاملات الاقتصادية، والتعاون الإقليمي. فقد أصبح الاقتصاد محور عمليات تفاعل واسعة النطاق بين الدول لا تؤثر فحسب على رفاهية الشعوب وإنما على أمن الدول .

ثالثا: القوة العسكرية: إن طبيعة الدور الذي تضطلع به القوة العسكرية والمهام الموكلة إليها جعلتها أكبر وأضخم وسائل القوة بالنسبة إلى الدولة. ففشل القوة الاقتصادية لدولة ما قد يؤدي إلى الفقر، بينما قد يعني فشل القوة العسكرية لها الموت. وتشمل القوة العسكرية لأي دولة بصفة رئيسة، قواتها المسلحة بفروعها البرية والجوية والبحرية، وتسليحها التقليدي وغير التقليدي، وكفاءتها القتالية، ومواقع انتشارها، إضافة إلى العلاقات الدفاعية التي تربط الدولة بالدول الأخرى .

رابعا: الخصائص القومية: تبرز الشخصية القومية من بين العوامل الإنسانية الثلاثة ذات الطبيعة الكيفية التي تؤثر على السلطان القومي نتيجة إفراطها في الارتباط بوجهة النظر العقلانية وتأثيرها الدائم والحاسم على ما تستطيع الدولة أن تفرضه من ثقل في موازين السياسة الدولية، فالشخصية القومية أهمية كبيرة وأثر بالغ في انتصار الأمم وصمودها وتحقي أهدافها وبلوغ مقاصدها؛ لذلك تسعى الجيوش في الدول كلها إلى بناء الروح المعنوية لمقاتليها، وإشاعة روح الأمل في نفوسهم وتدعيم ثقتهم بطاقاتهم وقدراتهم، وتتصدى للحرب النفسية التي يشنها العدو وتكافح إشاعاته المضللة، وتخوض معه في الوقت ذاته حربا نفسية بهدف تحطيم قدراته المعنوية.

المقومات السياسية: التي تتمثل في طبيعة النظام السياس ي للدولة، فالنظام السياسي الديمقراطي يعكس سياسات خارجية سلمية؛ نظرا لما يتمتع به من تعددية وارتفاع في نسب المشاركة السياسية، أما النظام التسلطي فيعكس سياسات عدوانية، وترى الدراسة أنه وبالرغم من أن الأنظمة الديمقراطية في الواقع تسعى لتحقي القوة وتتنافس على المجالات الحيوية، وتعتمد الحروب لتحقي ذلك بحجة نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، إلا أنها تبقى أفضل من الأنظمة التسلطية.

حسب الواقعية الجديدة هناك مجموعة من المؤشرات التي يتم أخدها بعين الاعتبار لقياس قدرات الدولة. فقياس القوة الاقتصادية للدولة، يتم من خلال الناتج الإجمالي المحلي، وحجم الصادرات، بينما ينظر لكل من حجم الإنفاق العسكري، حجم القوات المسلحة، وامتلاك الأسلحة النووية كمؤشرات لقياس القوة العسكرية. أما عدد السكان، فإنه يُقاس بالنسبة للواقعيين الجدد بعدد السكان العاملين والذين يمكن تَعْبِئتهم كجنود في حالات الضرورة، ومساحة الدولة تُحَدِّدُ كذلك مدى إمكانية هزيمتها (الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية)، كل هذه العوامل تعد بالنسبة للواقعيين قوة كامنة تصب في خانة بناء قوة عسكرية. ويؤكد الواقعيون الجدد أن قياس الموقع النسبي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار قدرات الدولة بالمقارنة مع باقي الدول خاصة الدول المنافسة لها والتي تشكل بالنسبة لها مجموعة مرجعية لتحديد قوتها، حيث أنه من خلال قياس هذه الإمكانيات مجتمعة   يتم تصنيف الدول ضمن خانة القوة الكبرى أو قوة متوسطة أو قوة عظمى. موقع الدولة النسبي في النظام الدولي هو الذي يفسر سلوكها ولهذا نجد أن سلوك القوى الكبرى مثلا ينحو نفس المنحى وهو ما يفسر تشابه السياسات الخارجية للدول التي لديها نفس الموقع النسبي في النظام الدولي، على الرغم من الاختلاف على الصعيد الداخلي. وعليه، فإن تغير سلوك الدولة مرهون بتحسن موقعها النسبي بحيث أنه كلما تحسن موقعها كلما أدى ذلك إلى تغير سلوكها الخارجي وهذا يرجع إلى تزايد طموحاتها، وهذا ما دفع بالواقعيين الجدد إلى الجزم بأن السياسة الخارجية الألمانية بعد نهاية الحرب الباردة ستتغير إلى سياسة أقل تعاونا مع حلفائها التقليديين في أوروبا فهذه الدولة تحسن موقعها النسبي حيث زادت مساحتها بعد الوحدة وزاد عدد سكانها كما تحسن اقتصادها بشكل كبير بعد الوحدة.

وبغضِّ النظرِ عما إن كنا نتحدثُ عن القوةِ العسكرية أو القوة الاقتصادية، فإنه من الواضح أن القوى الكبرى تتصرَّفُ تصرُّفًا مختلفًا عن القوى الصغرى؛ فقد انتهت العديدُ من الدراسات إلى أن الدول التي تتمتع بقدر أكبرَ من مكونات القوة، تُعَد أكثرَ نشاطًا في مجال السياسة الخارجية من الدول التي تمتلكُ قدرًا أقلَّ من تلك المكونات، ولا شك أن هذا النشاطَ هو محصِّلة لتوافُر الموارد، واتساع نطاق المصالح على مستوى العالم بأَسْره.

Modifié le: Wednesday 8 May 2024, 00:30