- البنيوية الماركسية لوي ألتوسير نموذجا: (تابع)

- قرءة الرأس مال:

في إطار مشروعه لإعادة قراءة ماركس، وجد ألتوسير نفسه مضطرا إلى إعادة النظر في مفهوم القراءة ذاتها متسائلا: ما القراءة؟ وماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ وهذا ما أدى به إلى أن يميز بين نوعين من القراءة.

*القراءة الأولى: يصفها ألتوسير تارة بالقراءة الحرفية وتارة بالقراءة البريئة، فينعت بها ألتوسير مؤلفات الشباب عند ماركس، حيث يرى قراء ماركس أن ماركس هو امتداد للهغيلية. وهي في جوهرها القراءة التي يتؤكد بأن ماركس هيغلي النزعة، وذو نزعة إنسانية. ويرى ألتوسير أن هذه القراءة دشنتها الأطروحة الهيدغرية وواصلتها  أعمال البنيوية الفرنسية حول أزمة النزعة الإنسانية. وتمخض عن ذلك انقسام الماركسيين إلى اتجاهين:

- الإتجاه الأول: يعد (روجي غارودي) أبرز ممثليه في محاولته لإبراز البعد الإنساني في الماركسية، بالاستناد إلى الأعمال الفلسفية لمرحلة ماركس الشاب. معتبرا (مخطوطات 1844) نقطة انطلاق فكر ماركس، ومرحلة حاسمة في تكوين النظرية الماركسية. فنقطة البدء عند ألتوسير في نقده تفسير الماركسية من خلال القراءات السابقة، وخاصة تلك التي ترى فيها امتداد للهيغلية هي أن الجدل بين هيغل وماركس مختلف في جوهره، فهم من منظور هيغل ينشد الكلية والشمول، ووحدة متكاملة، بينما عند ماركس يتضمن الصراع الاجتماعي اللامتناهي بين الطبقات الاجتماعية، وبالتالي فجوهره هو النفي والسلب والثورة. من هنا، حرص ألتوسير طرد ما يسميه في قراءته الموضوعية، شبح هيغل من فلسفة ماركس الناضج، بغية تحرير المادية الجدلية والمادية التاريخية، هذا العلم الماركسي، من كل آثار الإيديولوجية الألمانية في صورتها الهيغلية المثالية، ليؤكد في الأخير أن ماركس لم يكون هيغليا في نضجه.      

يواصل ألتوسير نقده للنزعة الإنسانية، من خلال توجهه العلمي الموضوعي، إذ لا يخفى علينا أنه موضوعي ووضعي النزعة. لهذا كان معاديا لهذه النزعة التي ستجعل الماركسية ترتد إلى مسلك عقائدي يتعارض وروح النقد الاجتماعي الماركسي ونزعته التحررية.

- الاتجاه الثاني: وهي محاولة ألتوسير قراءة الماركسية في التوازي مع الفلسفة البنيوية الفرنسية. حيث انتهى إلى أن الفلسفة الماركسية هي علم موضوعي يعارض مع كل نزعة انسانية. وبالفعل هذا ما نعثر عليه في كلام ما نصه في مقاله المعنون: "ماركس والنزعة الإنسانية" : "إذا ما فحصنا النصوص التي يمكن اعتبارها حاسمة في الفلسفة الماركسية، فإننا نرى أنه لا توجد فيها أية مقولة للإنسان، (...) بل هي، على العكس من ذلك، قد أقيمت لكي ترفض مثل هذه التأويلات، من حيث هي ضرب من ضروب المثالية، ولتدعو إلى التفكير بشكل آخر مختلف كل الاختلاف."

وهذا يعني - حسب ألتوسير- أن الماركسية علم ضد النزعة الانسانية، فهي لم تقم على أساس البحث والتنقيب عن جوهر الإنسان، ولم تسهم في تشييد مملكة الذات. وبالتالي، فإن ماركس أحدث نقلة نوعية جذرية في تحليله لمفهوم الإنسان؛ من مسألة الماهية الإنسانية إلى العلاقات الاجتماعية. أي من الذات إلى الموضوع. ومن ثم فإن اكتشاف ماركس الحاسم يتمثل في القول أن الإنسان لا يوجد، إنما العلاقات الإنسانية وعلاقات الإنتاج هي التي توجد. وعليه، ليست ثمة ذات، بل ثمة بنيات اجتماعية.

*القراءة الثانية: هي القراءة التشخيصية التي يجب أن تقرأ الماركسية وفقا لها. فهي قراءة فلسفية، نقدية، متشككة، تتهم المباشر وترفض الماهيات. إنها قراءة تنحو إلى تتبع خطوات وأماكن يكمن فيها الفراغ، أماكن يظهر فيها خطاب ماركس وكأنه خطاب الصمت، على حد تعبير لوي ألتوسير. إنها قراءة تبحث في لاوعي الخطاب صمته وتناقضاته، لتنفي بذلك القراءة البريئة. لهذا جعل ألتوسير هذه القراءة الموضوعية وسيلة للحكم على نصوص ماركس، خصوصا نص (رأس المال)، وجعل منها جوابا عن سؤال: ماذا نقرأ؟

يرى ألتوسير أن (رأس المال) قرأه علماء الإقتصاد والمؤرخون والمناطقة، لكنه لم يقرأ من قبل فلاسفة ومنظرين الذين يكشفون عن اشكاليته النظرية الجوهرية. لهذا يقول أننا سنهتم بالقراءة العلمية متسائلين عن مكانة رأس المال في تاريخ المعرفة، ومن هنا نطرح الأسئلة الآتية:

هل رأس المال إنتاج إيديولوجي، من بين نتاجات ايديولوجيات أخرى؟ وهل هو إعادة تشكيل هيغلي للإقتصاد السياسي، أم تحقيق لطموحات مثالية واردة في مخطوطات 1844 الاقتصادية- الفلسفية؟ هل يعد مجرد تكملة للإقتصاد السياسي؟ وهل يتميز عن الإقتصاد السياسي بموضوعه ومنهجه الجدلي فقط، أم أنه يمثل نقلة إبستيمولوجية حقيقية في موضوعه ونظريته ومنهجه؟ وبشكل مختصر، هل بقي ماركس الناضج، ماركس الرأس المال سجين الإيديولوجية الألمانية والإقتصاد السياسي الإنجليزي، أم أنه أحدث قطيعة إبستيمولوجية في (الرأس المال) عن كل الموروث الكلاسيكي السابق عنه؟

إن نص رأس المال في نظر ألتوسير نص مكتف بذاته، وإن قراءته قراءة صحيحة لا تحتاج ولا تستدعي العودة إلى الاقتصاد السياسي أو المثالية الألمانية ولا إلى ماركس الشاب، بل فضلا عن ذلك، تكتفي بمتنه هو بالذات، وخارجه لا توجد حقيقة. إنه النص العلمي والامتياز الابستيمولوجي / العلمي لكارل ماركس. ومن هنا، نفهم أن ألتوسير قرأ ماركس من خلال ماركس نفسه، وهذه القراءة التشخيصية تشكل في مجموعها دائرة، حسب وصف لوي ألتوسير، وهي دائرة بين المبدأ الذي يقيم أسس قراءة علمية ما وموضوعها.

- مناقشة:

في الحقيقة، بالغ لوي ألتوسير في قراأته هذه العلمية لكارل ماركس، لما نفى الطابع الجدلي الهيغلي الذي ألبسه ماركس هو في حد ذاته على الديالكتيك المادي، إذ لا يمكن نفي حقيقة أن ماركس يعترف بأنه سيبقى متأثر بفريدريك هيغل إلى الأبد، وأن هيغل دائما يدور في رأسه. كما بالغ في إلغائه للنزعة الإنسانية من كتابات كارل ماركس، وهذا أمر لا يقبله التاريخ ولا العقل الإنساني، بحكم أن ماركس منذ مرحلته في الثانوية وهو يدافع عن القيم الإنسانية من أجل انعتاق الإنسان من الكل أشكال الاضطهاد والاستغلال. هذا، وإن كتاب رأس المال هو ضرب من ضروب النزعة الإنسانية التي تريد أن تكشف تناقضات المنظومة الرأسمالية منها: القيمة، القيمة الفائضة، القيمة الفائضة النسبية، القيمة الفائضة المطلقة، السلعة، صنمية السلعة، التشيؤ. إن لعبة هذه الكلمات تكشف عن اشكال جديدة من الاغتراب في إطار المنظومة الرأسمالية في شكلها الأفقي.           

 

 

 

آخر تعديل: Thursday، 2 May 2024، 7:59 PM