الحضارة الإيبرومغربية

أقترح منذ أكثر من قرن من قبل الباحث بالاري 1909 مصطلح إبيرومغربية لتعين ثقافة ما قبل التاريخ الحصرية لشمال غرب أفريقيا، وهي تلك الثقافة المتعلقة بالإنسان العاقل من نوع مشتى أفالو Mechta-Afalou. وهذا الأخير الذي كان صانعا لهذه الحضارة.

1.تعريف الحضارة الإيبرومغربية

تمثل الإيبرومغربية الحضارة الأولي للعصر الحجري القديم الأعلى، فقد ظهر هذا الوجه الثقافي في شمال افريقيا في حوالي 2000 سنة، تميز بارتفاع نسبة الأدوات النصيلة ذات الظهر. انتشرت هذه الحضارة في شمال افريقيا، فقد عرفت انتشارا واسعا في بلدان المغرب خاصة الجزائر-تونس-المغرب، عرفت هذه الحضارة تواجدا في المناطق الساحلية بالخصوص، وهذا بالنظر إلى الكم الهائل من المواقع التي تتمركز في السواحل.

لطالما اعتبرت الثقافة الإيبرومغربية بمثابة الوجه الجانبي للحضارة القفصية، وهي ثقافة العصر الحجري المتأخر في المغرب العربي، وكان ذلك قبل التأريخ الإشعاعي المبني على أسس طبقية لتؤكد أسبقية الثقافة الإيبرومغربية ووضعها في إطار زمني متزامن بالعصر الحجري القديم الأعلى قرب بداية الحد الأقصى الجليدي الأخير (20,000-18,000 سنة مضت). وقد استمرت هذه الثقافة حتى بداية عصر الهولوسين.

        الإبيرومغربي هو مصطلح اقترحه الباحث بالاري (1909) والذي اعتقد في بادئ الأمر أنه ذو

علاقة وثيقة بين الصناعة الإيبرومغربية في المغرب وتلك الصناعات التي عثر عليها في الجزء العلوي من جنوب شرق إسبانيا، وفي وقت لاحق، ظهرت مصطلحات أخرى وقد تم اقتراحها، بدلا من الإبيرومغربي، مثل "المولحي" في إشارة إلى الموقع الأصلي المويلح، وهو الذي يتواجد على بعد 5 كلم شمال مغنية في الجزائر، بالإضافة إلى تسميته بالوهراني وهو الذي حصر تواجد هذا الوجه الثقافي في هذا الإقليم، وفي الأخير تم الاعتماد على التسمية التي اقترحها الباحث بالاري.

        تم تخصيص عدد كبير من الأعمال والمقالات للصناعات الحجرية للثقافة الإبيرومغربية ومن بينها أعمال (Arambourg et al.، 1934؛ Brahimi، 1970، 1972؛ Hachi، 1987؛ Moser، 2003(

 وأحدث المنشورات توفر بيانات جديدة وهي تلك المتعلقة بالسياقات الأساسية للنظام الزمني والاستراتيجي البيئي القديم  (Barton et al., 2005 :2008) وعلم البقايا الحيوانية (Merzoug, 2005 ; 2008)

أو حتى السلوكية، أبرزها حول ممارسات الدفن(Hachi 2006 ; Audia 2012) ، مما أدى إلى إثراء المعرفة بشكل كبير في معرفة هذه الفئة من السكان.

 

2.الامتداد الجغرافي للحضارة الإيبرومغربية

        تمتد الحضارة الإيبرومغربية من المغرب الأقصى إلى غاية السواحل التونسية وليبيا في منطقة الجبل لخضر، ومن الناحية الجنوبية فلم تتجاوز سلسلة الأطلس الصحراوي، ومن الجهة الغربية فقد عرفت الحضارة الإيبرومغربية تواجدا وامتداد الى حدود مضيق جبل طارق وفي الشريط الساحلي للواجهة الأطلنطية وبالخصوص في منطقة الرباط والدار البيضاء. من الناحية الشرقية وبالرغم من تسجيل عدد قليل من المواقع إلا أن هذه المنطقة أسفرت على بحوث مهمة في كل من تونس وليبيا.

3.إنسان الحضارة الإبيرومغربية – مشتى العربي ومشتى أفالو

اعتمد الإنسان الإبيرومغربي في حياته على الصيد والقطف، بحيث قام يجمع النباتات وصيد الأسماك وجمع الرخويات، وعلى الرغم من وجود العديد من بقايا الحيوانات، إلا أن عددًا قليلًا جدًا من المواقع ممن نال حصته من الدراسات المتعمقة حول سبل العيش، ولقد تم العثور عليه في العديد من المواقع في الساحل الشرقي الجزائري، وأول تشخيص دقيق لهذا النموذج قام به الباحثان بول بالاري وبالوا وأطلق حينها تسميته على نمط موقعان عثر على نماذج منه فيها هما قرية مشتى العربي بشلغوم العيد بميلة ومغارة أفالو بسوق الإثنين ببجاية. يحظى إنسان مشتى أفالو على مميزات خاصة بحيث يظهر جمجمة ذات سعة دماغية كبيرة وحاجبين قويان ومتباعدين مع وجه متدفق نحو الأمام وعريض، الأنف بارز وفك سفلي ضخم، تتراوح قامته بين 1,62م إلى 1,80م مع معدل 1,72م، الأطراف طويلة نوعا ما.  ومن خلال معاينة الهياكل العظمية لهذا الإنسان في عدد كبير من المواقع تبينت هذه الخصائص الأساسية لهذا النوع البشري، وهو ما يظهر في الصفات المورفولوجية الخشنة عامة، وفي أواخر المرحلة الإيبرومغربية برزت خصائص مورفولوجية جديدة ونسب ذلك لإنسان الحضارة القفصية التي أتت بعد الحضارة الإيبرومغربية.  

جمجمة لإنسان مشتى أفالو

جمجمة لإنسان مشتى أفالو الإيبرومغريبي

4.المظاهر الثقافية للحضارة الإيبرومغربية

أ الصناعة الحجرية والعظمية

منذ ستينيات القرن العشرين، ظهرت الصناعات الحجرية الإيبرومغربية تمت دراستها بشكل أساسي من خلال التحليل النموذجي الذي تم تطويره بواسطة الباحث جاك تيكسيي Tixier (1963)، ويشير تعريف الباحث بالاري إلى أن الصناعة الإيبرومغربية غنية بالشفرات ذات الحواف المكسورة وفقيرة بالميكروليتات الهندسية، غالبًا ما يتم الحصول على المكاشط على شظايا سميكة أو نووية وفي كثير من الأحيان يتم تحضير الأزاميل عند الكسر. يمكن أن يكون هناك العديد من الأجزاء التالفة كما هو الحال في موقع راسيل، في حين أن القزميات الهندسية نادرة دائمًا، وتحتوي العديد من المواقع الإيبرومغربية على بقايا أدوات الطحن وشظايا حجر الرحى التي تطحن فيها الأصباغ، وكذلك العظام في حالات نادرة.

في هذه المرحلة تم تسجيل تواجد الصناعات العظمية وعادة ما كانت مرفوقة بالأدوات الحجرية وهذا ما يبين اعتماد الإنسان الإبيرومغربي على المادة العظمية في صناعته، ومن بين هذه الصناعات المثاقب أدوات التقطيع، والأدوات المصقولة. بالإضافة إلى مناجل في حلات نادرة، وقد تم تسجيل تواجد بعض من عناصر أدوات الزينة والتي تتمثل في القواقع وبعض من حلقات مصنوعة من قشور بيض النعام.

نماذج للصناعة الحجرية والعظمية للحضارة الإبيرومغربية

نماذج للصناعة الحجرية والعظمية للحضارة الإبيرومغربية

ب- المظاهر الفنية المختلفة

عرفت هذه المرحلة أيضا بروز بعض من الصناعات التي تثبت القدرات الذهنية المتطورة لهذا الإنسان، وتجلى ذلك في الحصى المثقوبة والتي زينت بنقوش، وفي بعض الأحيان تم تجسيد بعض الحيوانات كالفيل والأروية، ولقد تم العثور على تماثيل صغيرة حيوانية وبشرية من الطين المشوية اكتشفت لأول مرة من طرف الباحث ساكسون في موقع تامرحات، كما تم اكتشاف نماذج أخرى في موقع أفالو بورمل بالقرب من بجاية من طرف الباحث سليمان.

وفي نفس السياق عرف الإنسان الإبيرومغربي التلوين على جدران المغارات التي سكنها، بحيث كان يستعمل المغرة وهي مدة ملونة، بحيث لحظت هذه الظاهرة في موقع افري نعمار. 

نماذج للمظاهر الفنية المختلفة للحضارة الإيبرومغربية

نماذج للمظاهر الفنية المختلفة للحضارة الإيبرومغربية

ج- الطقوس الجنائزية

شهدت الحضارة الإيبرومغربية عادات جنائزية عدة، وهي على شكل مدافن جماعية مثل تلك التي سجلت في العديد من المواقع أفالو بورمال، كلمناطة..، وهي مقابر ضمت العديد من الأفراد، كما تم تسجيل المدافن الفردية، وكان ذلك في حلات نادرة (موقع إفري نعمار). ولقد تميز الدفن في هذه المواقع بتنوع الوضعيات التي دفنت فيه الأموات، ومن أبرزها الوضعية المنكمشة بحيث سجلت بنسب عالية مقارنة بالوضعية المدودة، وهي الوضعية التي سجلت في موقع أفالو بورمال.

أظهرت النماذج المدروسة في عدة مواقع أن الإنسان الإبيرومغربي أعطى عناية كبيرة بهذه الظاهرة بحث اهتم بشكل القبر الذي يحتوي على التراكمات الصخرية والبلاطات. كما تمت ملاحظة طقوس أخرى وهي تتمثل في المرفقات الجنائزية، فقد كانت الأفراد المدفونة مرفقة عادة بأدوات حجرية وعظمية.

نموذج للدفن في الحضارة الإيبرومغربية-فرد مدفون مرفوق بسكين عظمي في يده. موقع أفالو بورمال

نموذج للدفن في الحضارة الإيبرومغربية-فرد مدفون مرفوق بسكين عظمي في يده. موقع أفالو بورمال

Modifié le: Wednesday 8 May 2024, 12:13