الحضارة العاترية

       بسبب تعاقب العديد من الحضارات في منطقة بئر العاتر في فترة ما قبل التاريخ من بداية العصر الحجري القديم إلى نهاية العصر الحجري الحديث، فعلى مدار عهود طويلة من الزمن مثلت بئر العاتر مسرحا لعدة أحداث نشأة مند نشأة الإنسان البدائي وتواصلت إلى يومنا هدا وهكذا تتأكد سمة التواصل في هذه المنطقة مند أحقاب زمنية موغلة في القدم، إذا ظهرت في أواخر العصر الحجري القديم حضارة عرفت انتشارا واسعا وتضم كامل البلدان المغاربية ألا وهي الحضارة العاترية.

1.تعريف الحضارة العاترية

       يمكن تعريف الحضارة العاترية بأنها الصناعة الحجرية التي ظهرت في بلاد المغرب القديم خلال العصر القديم الأوسط، وقد أخدت تسميتها من موقعها النموذجي ببئر عاتر جنوب تبسة بالشرق الجزائري. فقد عرفها ليونال بالو في تلك الصناعة الخاصة بالعصر الحجري القديم " الأوسط" والتي تشكلت من الشظايا.

ويمكن القول إنها تنطبق إلى حد ما على الحضارة الموستيرية التي عثر على بقاياها في الدوردون ( dardogne ) لولا احتواء هذه الأخيرة على أدوات مجهولة في شمال البحر المتوسط، وقد اتفق الباحثون استعمال مصطلح العاترية سنة 1922م انطلاقا من مؤتمر مونوبولي   ( Montpellier ) لنفس السنة، وكان الباحث الفرنسي موريس ريغاس قد استعمل نفس المصطلح مند سنة 1918م تاريخ بداية اهتمامه و تنقيباته الأثرية وكذا دراسته ومسحه الأثري لكامل المنطقة الموجودة في الجنوب الشرقي الجزائري في تبسة.

وعن سبب تسميتها ظهرت الكثير من الروايات والرواية الأكثر رواجاً تحكي قصة أخرى تدور أيضاً حول وجود بئر في تلك المنطقة، وقد كانت " أعتراً " أي بمعنى قصيرة باللهجة المحلية، فنسبت تلك المنطقة وأصبحت تسمى بئر العاتر.

تم اكتشافها في البئر العاتر على الحدود التونسية الجزائرية " النمامشة وأولاد عبيد بالقطر الجزائري "صناعة مغريبية" تبرز مظهراً موستيرياً، امتدت ثقافة العاترية إلى موريتانيا ومنعطف النيجر، ورغم قرب شمال إفريقيا من أوروبا، فقد تميز عصر ما قبل التاريخ بصفات إفريقية خالصة.

حقيقة كانت هناك تأثيرات متبادلة بين منطقة بلاد المغرب قديماً وأوروباً ما يسمى حالياً جبل طارق ومنطقة تونس حالياً، ولكن الإنسان ظهر في إفريقيا مبكراً، فقد تطورت العاترية عن طريق الموستيرية ثم القفصية الإيبرومغربية التي تطورت. لقد أكدت البحوث العلمية أن الحضارة العاترية قد استمدت أصولها من الحضارة الموستيرية لتثبت أن الأدوات العاترية هي في حقيقة الأمر أدوات موستيرية. ولذلك تعتبر الحضارة الموستيرية امتدادا للحضارة الموستيرية.

 2.الامتداد الجغرافي للعاترية

وجدت الحضارة العاترية بصفة خاصة في المغرب، الجزائر، تونس وحتى ليبيا ويلاحظ بأن تقنيتها قد وصلت قمة تطورها في الجزائر والمغرب الأقصى وحتى نتتبع مواقع العاترية في الموستيريون قد هاجروا إليه من أوروبا عبر مضيق جبل طارق الحالي، لاسيما بعد الزحف الجليدي الأخير فورم الذي كان قد عد القارة الأوروبية أثناء العصر الحجري القديم الأوسط.

العاترية في الجزائر و الصحراء

 أ- العاترية في الجزائر :

تتوزع المحطات الأثرية العاترية في الجزائر في كامل المنطقة الساحلية و الداخلية و الصحراوية، وكثيراً ما تكون أدواتها مصاحبة للصناعة الموستيرية التي سبقتها و لعل أقدم المحطات العاترية في الجزائر هي تلك التي وجدت على الساحل ولا سيما موقع أرزيوا * الواقع في الغرب، أما محطة وادي الجبانة ببئر عائر التي تنتمي إلى المرحلة العاترية الوسطى النموذجية فقد اعتبرها ريغاس من المواقع التي اكتملت فيها شروط الطريقة اللوفلوازية للشظايا الصوانية، ولذلك اعتمدت تسميتها وعممها على كامل المواقع التي وجدت فيها أدوات مزودة بساق في قاعدتها في شمال إفريقيا، وكان ذلك سنة 1981م وهي السنة التي قام فيها بنشر دراسة حول العاترية في الشرق الجزائري وبعدها شرع في التنقيب في موقع بئر العاتر.

العاترية في الصحراء

       لقد درست البقايا من قبل كثير من المهتمين الغربيين والعرب ويأتي على رأسهم الباحث  أرامبورغ G.Arambourg   الذي اكتشف موقع أحنات Ahnat بالهقار، وكذا  الباحث هوجو Hugot الذي درس موقع تيديكالت Tidikalet الواقعة بمنطقة عين صالح وبعض المناطق الأخرى المجاورة لها.

ودرست بقايا العاترية في منطقة وادي الساورة من قبل الباحث شفايون (Chavaillon) والذي لاحظ بأن منطقة الصحراء ذات مناخ رطب وأستشهد على ذلك بتوافر الوديان الجافة الموجودة في المنطقة في وقتنا الحالي. ولاحظ بأن الصناعة العاترية في الصحراء كانت تتخذ من الكوارتز المتواجد في المنطقة، وتقل فيها نسبة حجر الصوان وغالبا ما كانت توجد مواقعها في الحمادات بالقرب من منابع المياه، وقد انفردت أدواتها بالأزاميل والأدوات المثلثة والسهام المجنحة ويمكن أن يكون أشهر سهم ظهر بالصحراء في تلك الفترة هو سهم تبلبالة المشظى على الوجهين.

ب.العاترية في تونس:

أهم المحطات العاترية في تونس تتمثل في موقع القطار الواقع على بعد 15 كم جنوب شرقي قفصة، وذلك بالقرب من نبع تقليدي ويتكون هذا الموقع في حقيقته من عدة طبقات موستيرية متطورة تظهر عليها اللمسات اللوفلوازية وكثيراً من أدواتها غير المذنبة، شبيهة بتلك التي عثر عليها في فلسطين 1.

وكما يلاحظ بأن الأدوات العاترية ذات الساق تظهر في هذا الموقع القطار السابعة وأغلبها يتمثل في المكاشط ورؤوس السهام المزودة بساق في قاعدتها وكذا النصال يضاف إلى ذلك محطة " عين ماترشم" الواقعة شمال غربي جبل الشعينبي بالقرب من الحدود التونسية أعلاه وجدت الأدوات المذنبة وذات السيمات العاترية و البدائية، وكذلك هناك محطة سيدي منصور الواقعة شرقي مدينة قفصة، وربما وجدت بها أدوات عاترية تعود إلى المرحلة الأولى.

ج.العاترية في المغرب الأقصى

أهم محطات العائرية في المغرب الأقصى نشير إلى محطة جبل أرحود التي اكتشفت فيها جمجمتان بشريتان أخدت أحدهما كنموذج للإنسان النياندرتالي في بلاد المغرب القديم. يضاف إلى ذلك محطة تيت مليل الواقعة في جنوب غربي الدار البيضاء، ويلاحظ بأن الأدوات المجنحة هي المرحلة الأكثر تطورا في الصناعة العاترية وشبيهة برؤوس السهام الصحراوية،

       أما محطة تافورالت الواقعة غربي مدينة وجدة بشرقي المغرب الأقصى، فقد تم التنقيب فيها سنة 1952م وأعطت أدوات عاترية متطورة ، وهناك محطة دار السلطان التي نقب فيها الباحث الأثري رولمان (Ruhlmann ).

ويعتبر موقع الخنزيرة في المغرب الأقصى من أقدم مراحل العاترية في شمال إفريقيا ويحتمل أن تكون أدوات هذا الموقع قد استمرت لمدة طويلة في فالاستعمال، ولذلك ظهرت أكثر تطورا من تلك التي عثر عليها في موقع لوبيرة بالحدود الجزائرية التونسية.

3. مراحل الحضارة العاترية

حاول الباحثون الأثريون أن يقسموا الصناعة العاترية إلى عدة مراحل وذلك انطلاقاً من

أدواتها وقد جاء تقسيمهم إلى ثلاثة مراحل القديمة والوسطى والعليا.

أ- العاترية القديمة

أغلب المواقع التي تلحق إلى هذه المرحلة تتواجد على السواحل، تتميز هذه المرحلة بصناعة أقرب إلى الموستيرية - بمقياس عالي لتقصيب لفلوا، ويلاحظ في العانرية القديمة ندرة القطع

ذات العنق . وقد توافر هذا النوع من الأدوات في كل من موقع الحنك و دار السلطان م عين جمعة وكهف الخنزيرة بالمغرب الأقصى وكذا الخروبة و بيرار بالجزائر العاصمة والرأس الأبيض والمونستير بتونس.

ب- العاترية الوسطى (النموذجية)

تسيطر على هذا النوع من الأدوات العاترية التقنية اللوفلوازية الموستيرية، وتزود سهامها بساق في قاعدتها وتتوافر فيها الكثير من المكاشط ورؤوس السهام وتصنع من حجر الصوان و الكوارتز، والمواقع التي تحتوي على العاترية النموذجية هي: وادي الجبانة و وادي جوف و الشعاشعة ولوبيرة على الحدود الجزائر التونسية.

ج- العاترية العليا

تتميز أدواتها بتهذيب دقيق وتغلب عليها رؤوس السهام المزودة بساق في قاعدتها، وقد اكتشفت لأول مرة بالمغرب الأقصى مثل المغارة العالية وموقع الخنزيرة وكذا الصحراء الجزائرية واستمر وجودها إلى غاية العصر الحجري الحديث، وتصنف من أقدم موقع يعود إلى الحضارة العاترية بأكثر من 40 ألف سنة وتستمر في الإشعاع إلى حوالي 25 ألف سنة.

 

4.الصناعة الحجرية

لقد حلت صناعة الشظايا المميزة للعصر الحجري القديم الأوسط تدريجيا محل صناعة الحصى المشذبة التي سادت خلال العصر الحجري القديم الأسفل وكان ذلك ناتجا عن التجارب التي اكتسبها الإنسان خلال المراحل الطويلة السابقة من حياته، فقد رأى الإنسان انه من الضروري أن يطور أدواته الحجرية وفقا للظروف الجديدة التي أصبح يمر بها، والتي تمثلت في الصناعة العاترية والموستيرية. وقد وجدت في كل من موقعها النموذجي بوادي الجبانة ببئر الشعاشعة ولوبيرة على الحدود التونسية، وقد تم جمع من الآلات والفحم والقواقع والملاحظ أن مجموع كل تلك الأشياء درس في المخابر متحف بارود بالجزائر العاصمة ولكن لافتقار المناطق الساحلية إلى الصوان هو الذي دفع الإنسان ما قبل التاريخ لاستعمال آلات صغيرة مصنوعة من الكوارتز

الذي يتكون من الصخور الرسوبي بكل أنواعه اللون البني و الرمادي و البني الذي يتخلله الأسود، و بعض الصخور البركانية الأخرى.

ومن خلال دراسة الباحث "موريس ريغاس" ووصفه التقني لموقع واد الجبانة اكتشف صناعة جديدة اعتقد أول الأمر أنها موستيرية للتشابه الكبير الموجود بين الأدوات في كلتا الصناعتين، غير أنه سرعان ما التبس عليه الأمر عندما اكتشف من بين الأدوات الجديدة أذاة مميزة لم تكن معروفة في الصناعات السابقة، وانتهى إلى القول بإمكانه وجود تطور موستيري في تلك المنطقة.

كما تتطلب إعداد النواة من الصانع خلال العصر الحجري الأوسط أن يقوم بسلسلة حركات معقدة، عرفت بالطريقة اللوفلوازية حيث تتطلب هذه الطريقة القيام بتشذيبات دائرية لقطعة الصوان أو الكوارتز ، ثم يأخذ الصانع بعد ذلك في قطع الجزء العلوي من الحصاة انطلاقاً من التشذيبات السابق ذكرها حتى تأخذ النواة شكل ظهر السلحفاة المنبسط، وبهذا تكون النواة جاهزة ويمكن نزع الشظية رقيقة تحمل على سطحها العلوي آثار تشديبات دائرية وعلى عقبها آثار صفيحات مما يدل على الإعداد الدائري للحصاة، وقد استعملت هذه الشظايا المسماة اللوفلوازية من طرف الموستيريين والعاتريين لصناعة أدواتهم الحجرية.

وما يميز الصناعة العاترية وجود تلك الأداة الجديدة و التي أطلق عليها الأداة المذنبة أو بذات الساق"Outis pédoncules" و ذلك لوجود نهاية على شكل ذنب أو ساق في إحدى الجهات يشبه لحد كبير ساق الزهرة، بينما في الجهة الأخرى تأخذ الأداة عدة أشكال منها الحاد بدرجات مختلفة و المسطح وحتى الدائري المسنن، ويعتقد أن الإنسان العاتري طور هذه التقنية الجديدة لتسهل عليه العمل بعدما لاحظ نقصاً في الأدوات القديمة، ويظهر ذلك جلياً من خلال ذلك الذنب المصنوع بدقة كمقبض يساعد اليد على التحكم في تلك الأداة أو كنهاية لتركيب أجزاء أخرى كعصي طويلة لاستعمالها في الصيد وغير ذلك.

نماذج للصناعة الحجرية العاترية لموقع بئر العاتر

            نماذج للصناعة الحجرية العاترية لموقع بئر العاتر

Modifié le: Wednesday 8 May 2024, 12:12