يأتي الاهتمام الأمريكي بمنطقة المغرب العربي ضمن إطار الاهتمام بالمتوسط عبر الحلف الأطلسي، لتأمين مصالحه الحيوية التي يتعين عليه الدفاع عنها، فحسب الرؤية الأمريكية فإنّ أوروبا لا تستطيع أن تضطلع بمهمة تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة المتوسط بمفردها، ممّا يخوّلها كقوةٍ عالمية لتحمّل المسؤولية السياسية والقيام بالدور الأعظم في استتباب الأمن والاستقرار في المنطقة، التي تعدّ بالنسبة لها مجالاً استراتيجيًا لعدة اعتبارات.
كان وراء إطلاق المبادرة المتوسطية للحلف دول أوروبا الجنوبية وبالتحديد إيطاليا وإسبانيا، وذلك باقتراح الشروع في حوارٍ مع الضفة الجنوبية، ونجحتا في إقناع الحلف بإطلاق الحوار الأطلسي المتوسطي. وكان الاقتراح البرتغالي بإقامة برنامجٍ مشابه "للشراكة من أجل السلام للحلف يخصص للمغرب العربي، إلا أنه وبعد نقاشاتٍ أطلسية داخلية، تمّ خفض الخطة الأولية للحد الأدنى، حيث أُقصي التعاون العسكري الحقيقي من البرنامج، واستُبعدت الجزائر من الحوار رغم سعي إسبانيا وإيطاليا لإشراكها، كما تمّ إبعاد المقترح الإسباني بدوره.
وهكذا، أُطلقت مبادرة الحلف المتوسطية رسميا في ديسمبر 1994 "كحوارٍ متوسطي" يعكس اعتراف الحلف بالتحديات الأمنية الإقليمية الفريدة للمتوسط، وهو الذي يشدّد في كلّ اجتماعاته منذ نهاية الحرب الباردة على أنّ أمن أوروبا مرتبطٌ بشكلٍ وثيقٍ بالأمن والاستقرار في البحر المتوسط، ويؤكد على ضرورة الحوار مع دول الضفة الجنوبية، فكانت مشاورات مع الدول المتوسطية لإرساء قواعد حوارٍ أمني على غرار حوار اتحاد أوروبا الغربية.
على العموم، فإنّ الإضافة التي يقدّمها الحوار المتوسّطي للحلف الأطلسي إلى الأمن والاستقرار في المتوسّط تبقى ضئيلةً رغم اعتماده مقاربةً أمنيّةً تختلف عن مقاربة مسار برشلونة، فقد بدأ متواضعا للغاية، وانطلق مع أحد معوقاته الأساسية في الجانب المادي وقاعدة "التمويل الذاتي" للنشاطات، مما يَحدُّ من مشاركة بعض الدول المنخرطة فيه، ضف إلى ذلك، أنّ إحدى معضلات الحوار هي في قضية العمل بمبدأ "التمايز الذاتي" الذي لا يسمح بإنشاء بنية إقليمية واحدة شاملة ونظام إقليمي شامل، بل نُظم فرعية ولا يشجع مسارات ثنائية (26+1). ثمّ أنّ افتقاره لوثيقة مُؤسّسة تحدّد محتواه بدقة هو ما يُفسّر جو الشك المتبادل بين الحلف وشركائه المتوسطيين، فإذا كان في سياقه أساسًا للتعبير عن حسن النية ولبناء إجراءات الثقة بين ضفتي المتوسط، فعليه تغيير نظرته إلى دول الجنوب التي يعتبرها مصدر تهديد أمن أوروبا، وعدم تعامله بازدواجية في مسألة منع الانتشار، فالجليّ أنّ الدول العربية هي المعنيّة بهذا الحظر، في وقت لا يناقش أبدًا مسألة تسلّح إسرائيل النووية، لأنّه ببساطة لا يعتبر هذه الأسلحة تهديدًا لأمن دوله، في حين مازالت الريبة والشكّ يحكمان علاقته بالدول العربية. صحيحٌ أنّ هناك مجموعةً من التهديدات العابرة للحدود التي تهدّد أمن جميع الدول في الضفّتين والتي تقتضي تعاوناً ومواجهةً مشتركةً للحدّ منها كالإرهاب والتهديدات الجديدة، لكن هناك أيضًا مشكلات أمنيّة أكبر لا يمكن تصوّر أمن واستقرار المتوسّط دون تسويتها، باعتبارها نزاعاتٍ تمزّق الفضاء المتوسّطي، ويأتي في مقدمتها الصراع العربي-الاسرائيلي، إذ كيف يتم الدخول في ترتيباتٍ أمنية إقليمية قبل تحقيق السلام الشامل في المنطقة؟