عرفت علاقة الدول المغاربية بنظيرتها الأوروبية أطوارا مختلفة، علاقات حرب وعلاقات سلم. تميزت فترة العصر الحديث بنوع من التوازن السياسي، العسكري والاقتصادي داخل الحوض الغربي للمتوسط، لكن مع بداية القرن التاسع عشر حدث انقلاب واختلال في توازن القوى لصالح الدول الأوروبية.

مع بداية القرن19 بدأ التكتل الأوروبي ضد الدولة العثمانية وولاياتها، وعادت أوروبا لاستعمال المدفعية التي تخلت عنها لقرون، كما أن القرن 19 هو نهاية الحروب النابليونية التي شغلت أوروبا لفترة من الزمن، وهو قرن المؤتمرات التي قررت فيها الدول الاوربية المحافظة على توازن القوى العالمي دون وجود الامبراطورية العثمانية.

علاقات العداء

بعد أنتهاء أزمة القرن 16، دخلت العلاقات الأوربية المغاربية في مرحلة طويلة من التوازن السياسي والعسكري، فقد تحولت الجزائر منذ 1518 وطرابلس الغرب منذ 1551 وتونس منذ 1574 الى ايالات عثمانية، وتمكنت السلطة الجديدة بهذه الولايات من تأمين المواجهة العسكرية مع أوروبا بعد أن قام الباب العالي بدرء الخطر الإسباني والحد منه في الحوض الغربي للمتوسط.

أما المغرب الأقصى فقد تمكن بعد معركة المخازن التي انتصر فيها الجيش السعدي على البرتغال عام 1578 من تأمين حدوده والدخول في علاقات متكافئة مع الدول الأوروبية واستمر ذلك مع العلويين حتى مطلع القرن 19.

ويمكن اعتبار أن النشاط البحري أو ما سمي بالقرصنة إحدى المؤشؤات الأساسية في المتوسط،  

 عزز ذلك التوازن بين الضفتين للمتوسط، ذلك أن القرصنة المغاربية كانت تقابلها من الضفة الأخرى قرصنة أوروبية.

وكان هذا النشاط  معناه الاحتكاك بين الحضارات يتضمن أسرى وافتداء أسرى ومعاملات ونشاط قوي بين الطرفين، وهو يختلف عن لصوصية البحر، فالأول كان قطاعا منظما ومراقبا بصفة مباشرة من الدولة والطبقة الحاكمة في المغرب العربي وفي أوروبا.

ولتجنب البحارة المغاربة حاولت الدول الأوروبية إرساء علاقات سلمية وتجارية مع الدول المغاربية على مر العصر الحديث، فقد بادرت فرنسا سنة 1535 بعقد معاهدة سلم مع الباب العالي مكنتها من الحصول على امتيازات من بينها عدم التعرض إلى سفنها من طرف الولايات العثمانية، وتحصلت انجلترا سنة 1612 على نفس الامتيازات تقريبا، ولكن هذا لم يمنع البحارة المغاربة  من مواصلة نشاطهم ضد سفن البلدان الأوروبية، وأمام تعدد التعرض لهذه السفن سعت الدول الأوربية إلى إبرام العديد من المعاهدات تفصل بين المعاهدة والأخرى حالة من التوتر، وكانت الدول الأوروبية في الغالب  هي التي تخرق المعاهدة باستعمالها للقوة.

اضطرت فرنسا إلى ابرام العديد من المعاهدات مع السلطة التونسية مباشرة لعدم احترامها المعاهدات المبرمة مع الباب العالي وذلك طيلة القرن السابع عشر: 1602، 1665،1672 ، 1685،1698،1699.

عقدت فرنسا أيضا مع الجزائر عدة معاهدات : مارس 1619، سبتمبر 1628، فيفري 1661، سبتمبر 1989، والمعروفة بصلح المائة عام، وسارت الدول الأوروبية الأخرى على نفس المنوال، تعدد هذه المعاهدات يدل على المكانة التي كانت للدول المغاربية خاصة الجزائر.

ولأنها كانت في مركز قوة لم تكن تلك المعاهدات لترضيها، فكانت تضطر الدول الأوروبية في كثير من المرات لدفع ضرائب واتاوات كهدايا وعرابين صداقة كلما تم ابرام معاهدة أو عند افتداء اسرى أو تعين قنصل  أوروبي جديدا بدول المغارب.

وقد تميزت الجزائر بالقرصنة والنشاط البحري في القرن السابع عشر والثامن عشر وأشهر الحملات تلك التي كان يقوم بها الرايس حميدو أما تونس فقد نشطت في المجال البحري في القرن الثامن عشر ودعم البايات الحسينيون وخاصة حمودة باشا للحملات البحرية فنشطت ونذكر حملات القبطان محمد رايس.

طرحت قضية القرصنة المغاربية في المتوسط على طاولة المفاوضات في مؤتمر فيينا 1814ـ1815، فأفضت الى تكليف اللورد ايكسموث بالاتجاه الى الجزائر وباقي دول المغاربية ليبلغها قرار المؤتمر بالغاء القرصنة واطلاق سراح الاسرى الاوروبيين، لم يجد اللورد الانجليزي لتحقيق ذلك صعوبة مع بايات تونس، في  حين اضطر الى استعمال القوة أمام تعنت داي الجزائر الحاج عمر فقام الاسطول الانجليزي بمساعدة الاسطول الهولندي بقذف مدينة الجزائر في أواخر شهر أوت سنة 1816، وأسفرت الحملة عن اطلاق سراح  حوالي  1200 أسيرا أوروبيا والتعهد بالغاء القرصنة.

رغم بعض المحاولات البائسة للبحارة المغاربة لإعادة أمجاد نشاطهم البحري إلا ان انقلاب  الظرفية في المتوسط لم يعد يسمح للدول الواقعة في الضفة الجنوبية بالوقوف امام القوى الرأسمالية الصاعدة عموما سيما فرنسا وانجلترا رغم انهزامهما أوروبيا.

فبعد الانتصارات التي احرزتها تونس في حروبها ضد فرنسا بين 1740 و1742 و بين 1760 و1770 وبعد انتصاراتها على البندقية مابين 1784 و1792، أصبحت مع بداية القرن 19 سوقا تجاريا لفرنسا.

ونفس الأمر بالنسبة للجزائر، فبعد انتصاراتها على اسبانيا في اكثر من مناسبة في 1775 ضد الكونت أوريلي وسنة 1783 ضد دون انطونيو، أبرمت اسبانيا عدة معاهدات ثم انتهى بها الامر إلى التخلي عن وهران والمرسى في 1792.

نلاحظ أن علاقات العداء  بين الدول المغاربية والدول الاوروبية سادها التوتر والحذر، وكانت الدول الاوربية تعقد معاهدات الصلح والسلم لتجنب التعرض لسفنها، أما مسألة القرصنة فقد تم تهويلها من طرف الاوروبيين لتبرير تدخلهم.

علاقات السلم

العلاقات التجارية بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية قديمة ولم تتوقف ولم تنقطع حتى بين الدول الأعداء، ولكن في العصر الحديث عرفت العلاقات التجارية مميزات ارتبطت بالظرفية التاريخية وبالتغيرات التي عرفها العالم في هذه الفترة.

استغل الأوروبيون تفوقهم في مجال صناعة السفن فاقبلوا على بلاد المغرب العربي ليستأثروا بالحركة التجارية فيها وكانوا ينقلون البضائع من والى المغارب، وقد اعتمد التجار الاوروبيون على قناصلهم وعلى الحقوق التي تخولها لهم المعاهدات التي ذكرناها سابقا، بدءا بمعاهدة 1535.

فلقد كان للجزائر تمثيل قنصلي منذ 1534، وبتونس منذ 1577، كما كان للبندقية قنصل بتونس منذ 1580، ثم تبعتهما انكلترا منذ 1599 وهولندا منذ 1616. وتحول هؤلاء القناصل الى ممثلين لمصالح بلادهم وحماية الاقتصاد الرأسمالي، فانتعشت المبادلات التجارية بين بلدان المغرب العربي وميناءين أوروبيين هما مرسيليا وليفورنا.

احتكر ميناء مرسيليا التجارة مع تونس و الجزائر وظهرت الشركة الافريقية في 1560 وتطورت لتصبح منذ 1741  شركة اقتصادية عسكرية. وكان لها امتيازات على السواحل التونسية والجزائرية –صيد المرجان، تجارة الحبوب-من أهم المراكز التجارية : القالة، عنابة...

وقد تطور احتكار تجارة حبوب تونس والجزائر التي كانت تمثل 15 الى 30 بالمائة من مجمل الحبوب التي تستوردها فرنسا من ميناء مرسيليا مابين 1780و 1790_والى هذا التاريخ يعود مشكل ديون فرنسا لايالة الجزائر والتي ترتب عنه الاحتلال فيما بعد. أما الواردات المغاربية فكانت الصوف الاسبانية والسكر والقهوة والمواد المصنعة من انجلترا،

بالنسبة لليفورنا فقد تميزت بسيطرة اليهود عليها، وظهرت عدة عائلات مثل اللومبروزو وكوستا وغيرها وقد استقرت بعض العائلات في تونس لمراقبة التجارة مع ليفورنة. وقد لعب اليهود دورا كبيرا في العلاقات التجارية والدبلوماسية المغاربية الاوروبية والتي انتهت بالاحتلال في القرن 19.

الاحتكاك بين الضفتين سواء بفعل الصراعات أو بسبب التجارة نتج عنه تعرف الاوروبيين أكثر على خصائص العالم الاسلامي عموما والمغاربي بشكل خاص، وكشفت للدول المغاربية جوانب من الحضارة الأوروبية، ووجدت في المدن المغاربية أقليات أوروبية من أسرى وتجار ورحالة وأطباء وحرفييين.

كما أن النخبة المغاربية خاصة السياسية منها سعت إلى الاطلاع على أوروبا والانفتاح على ما حققته من تقدم في شتى الميادين العسكرية، التجارية والسياسية...

آخر تعديل: Saturday، 30 December 2023، 10:57 PM