- مسألة المنهج عند رونيه ديكارت:

- تمهيد:

تجدر الإشارة هنا، إلى موقف ديكارت من المنطق الأرسطي والمنهج الاستقرائي عند فرانسيس بيكون، بحكم أن:

نشأة العلم الحديث وتطور العلوم دليل على أن كل شيء موجود في العالم الخارجي يمثل مادة متحركة، من هنا أصبحت مهمة العلم، في العصر الحديث، حسب رونيه ديكارت، تعمل على كشف القوانين التي تحكم الطبيعة، انطلاقا من العلاقة الثنائية بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. بمعنى، الذات المفكرة في الشيء الذي لا يفكر، وهو الموضوع أو المكان أو الوجود، المادة، العالم الخارجي، الحركة، الإمتداد.

من خلال هذا المنطلق، وعلى أساسه، رفض التعاليم الدينية الكنسية التي لا علاقة لها بالتصورات العلمية الجديدة عن الكون. وثم نبذ الفهم اللاهوتي الكنسي للكون، محاولا إعادة صياغة الكون على أنه (آلة)، يتشكل من الموجودات التي ظهرت بتأثير الحركة، فهو في صورته الحقيقية ميكانيكي حركي على حد تعبير ديكارت.

هذا، ويمكن الحكم أن الفلسفة الديكارتية أعطت دفعا قويا لبروز المادية في العصر الحديث. من منطلق أن ديكارت يؤسس للفلسفة العملية في مقابل الفلسفة النظرية التي كانت تخدم اللاهوت. والفلسفة العملية هي الوسيلة التي تضمن لنا فهم العالم وأسرار الطبيعة بحيث نستكنه حقيقتها من ماهيتها.     

- موقف ديكارت من المنطق الأرسطي:

منطق القياس الأرسطي عقيم. لأن النتيجة فيه لا تحتوي على ما هو جديد أكثر من ما هو موجود في المقدمات السابقة. وعليه، فإنه وسيلة لعرض الحقائق المعروفة من قبل، أي الواردة في المقدمات، مما يدل على أنه ليس بوسيلة لاكتشاف حقائق جديدة، والحقيقة العلمية – حسب ديكارت – تحضر في المعرفة الناتجة عن العلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. وعلى هذا الأساس أراد ديكارت تأسيس منهج جديد يوصل ذواتنا إلى ما هو جديد.   

- موقف ديكارت من المنهج الاستقرائي عند فرانسيس بيكون:

ثار ديكارت على المنهج الاستقرائي منذ نشأته الأولى مع الإنجليزي فرانسيس بيكون، لأن بيكون يقيم المعرفة على الحواس، في حين أن ديكارت يقيم المعرفة على فعالية العقل والمنهج الرياضي الذي يتأسس على الحدس والاستنباط، ويشك في المعرفة الحسية وحتى في حواسنا ويرى بأنها خداعة ومضللة بحيث يتسرب من خلالها الخطأ إلى نتائج البحوث العلمية. ويرى أن المعرفة الصحيحة اليقينية تعتمد على منهج دقيق وليس هناك منهج أدق من الرياضيات. يقول رينيه ديكارت في هذا السياق ما يلي:

"كان مثلي كمثل رجل يسير وحده في الظلمات، فصممت على أن أسير وفق ما يمليه عليا عقلي، وأن أستعين بكثير من الاحتياط في كل الأمور، قصد أن أسلم من الزلل، بنبذ جملة الآراء التي تسربت إلى اعتقادي، دون أن يقودها إليه العقل. لهذا عمدت لوضع مشروع للعمل الذي أتولاه، وأن أتحرى المنهج الحق للوصول إلى معرفة كل الأمور التي يكون عقلي في مستوى تقبلها. ولما كنت أحدث سنا، اشتغلت قليلا بالمنطق: من بين أقسام الفلسفة. وهو فن كما يبدو لي أنه لا بد أن يمد مشروعي بشيء، ولكنني عند امتحاني له، تبينت، أنه عقيم، وأكثر تعليماته الأخرى هي أدنى أن تنفع في أن نشرح للغير ما نعرف من الأمور. وهذا ما كان سببا في أنني فكرب في وجوب البحث عن منهج يكون، مع احتوائه مزايا المنطق والتحليل الهندسي والجبر، خاليا من عيوب: المنطق التقليدي والحواس الخداعة والخيال المضلل."

- مسألة الشك عند رونيه ديكارت:

شك ديكارت في كل المعارف منذ صغره، بدأ بآراء الفلاسفة المدرسيين التي اطلع عليها في مدرسة لافليش سنة 1604، ثم انتقل إلى الشك في المعارف الحسية، وبالفعل، هذا ما نعثر عليه في كتابه المعنون "تأملات في الفلسفة الأولى"، حيث يقول في التأمل السادس ما يلي نصه:

أن كثيرا ما نلاحظ أن الأبراج تبدو من بعيد مستديرة، في حين أنها مربعة أو مسدسة الشكل. وأن التماثيل الضخمة فوق قمم الأبراج تبدو صغيرة وبعد الإقتراب منها تظهر حقيقتها. وكثيرا من الأمثلة الحية أمامنا مثل خطي السكة الحديدية يبدوان أنهما يلتقيان في أعيننا إلا وأنهما متوازيان. وكذلك خط الأفق، نرى انطباق السماء والبحر عند نهاية مرمى بصرنا إذا نظرنا إلى البحر، في حين أن العكس صحيح.

من هنا، راح ديكارت يقسم الأفكار إلى ثلاثة أنواع في التأمل الثالث كما يلي:

* الأفكار الخارجية: ويقصد بها الأفكار الحسية، أو ما ينطبع في عقولنا بتأثير الأشياء المادية الخارجية على حواسنا الخمس، ومن أمثلتها اللون والطعم والرائحة واللمس، وهي التي يطلق عليها جون لوك تسمية الصفات الثانوية. واعتقد ديكارت أن هذا النوع من الأفكار لا قيمة له في بناء صرح معرفي دقيق وموضوعي لأن مصدرها الخبرة الحسية، والحواس – كما رأينا – خادعة ومضللة، وبالتالي، لا تصلح وسيلة للمعرفة اليقينية.

* الأفكار الخيالية أو المصطنعة: ويقصد بها ديكارت تلك الأفكار التي نصل إليها بفعل المخيلة ويكونها الخيال بحيث يجمعها مع العالم الحسي، لتظهر في صيغة أفكار لا وجود لها في الواقع، رغم أن بعض عناصرها موجودة في الواقع، ومن أمثلتها كما يقول ديكارت:

فكرتي عن حصان مجنح يطير بدلا من أن يعدو. أو فكرتي عن حيوان له وجه إنسان وجسم أسد كأبي الهول بجوار أهرام الجيزة. أو فكرتي عن كائنات تسكن الكواكب الأخرى لها شكل الإنسان والحيوان معا. وفكرتي عن الرجل الضخم ذو اللون الأخضر.

ولا يقيم ديكارت وزنا لهذا النوع من الأفكار الذي يعتمد على المخيلة ومن ثم على الحواس أو على كليهما خيال وحواس، وكلاهما لا قيمة له في مجال المعرفة الحقة، لأنها تعمل لتأسيس عالم خيالي مرتبط بما هو حسي في آن واحد، وهو عالم من المستحيل تبريره، أو البرهان عليه تجريبيا أو رياضيا.

* الأفكار الفطرية: وتتمثل حسب ديكارت في مجموعة من البديهيات التي نسلم بها دون البرهان عليها، والتي نتعرف عليها بمجرد النظر في طبيعتها مثل أفكارنا عن الذات المفكرة والوجود، وعن وجود الله أولا وأخيرا.

وهذا النوع من الأفكار حدسية تدرك بطريقة مباشرة. يقول ديكارت في بعض المواضع من كتبه أن الفكرة الفطرية هي التي يُزود بها الطفل عند ولادته، ومصدرها الموزع الإله.. الخالق.. المصور.. المنظم..، وقولنا أنها بديهية، حدسية، مباشرة، يعني أنها لا يتطرق إليها الشك، وليست موضوعا للتحليل الرياضي والبرهان التجريبي.

ويذكر ديكارت في مواضع أخرى من كتبه أن الفكرة الفطرية لا توجد في عقل الطفل المولود، وإنما هي مجرد ميل أو استعداد عقلي، فطري، طبيعي للحصول على الأفكار لكي يكبر وتنمو قواه الإدراكية وملكته العقلية.

وأن الفكرة كما يرى مستقلة عن التجربة الحسية، بحكم أنها تمثل استعداد في الإنسان يساعده على اكتساب المعرفة والوصول إلى اليقين.

ثم يتساءل ديكارت حول مسألة تسرب الخطأ إلى المعرفة قائلا: لماذا يخطئ الإنسان في مجال المعرفة إذا كان مزود بكل هذه الأفكار المتنوعة؟

يرى ديكارت أن الخطأ قد يتسرب إلى مجال المعرفة في حالة ما إذا اتبع الإنسان حياته العاطفية وشهواته، وفي حالة ما إذا جوبه بأفكار تعصبية. كما يؤكد بأن العجلة والإندفاع في اكتساب المعارف هو سبب رئيسي يؤدي إلى السقوط في الخطأ، لهذا راح يؤكد أهمية توجيه خبراتنا وممارساتنا وكل نشاطاتنا وإراداتنا بنور العقل.

- أسس المنهج الرياضي عند رونيه ديكارت:

نصت القاعدة الرابعة من كتاب "قواعد لتوجيه العقل" على أن المنهج هو عبارة عن القواعد الواضحة واليقينية البسيطة التي تضمن لمن يراعيها بدقة أن يحقق هدفه المتمثل في الوصول إلى علم صحيح. ونص ديكارت أيضا في الخطاب في المنهج أن المنهج هو عبارة عن القواعد التي تُعين الإنسان على "زيادة علمه تدريجيا، والارتقاء شيئا فشيئا إلى أسمى نقطة يستطيع بلوغها، رغم ضعفه وقصر حياته." وباختصار، فالمنهج عبارة عن القواعد التي تكفل لمن يراعيها بلوغ الحقيقة في العلوم. ويقوم المنهج – حسب ديكارت – على ركيزتين هما: الحدس والاستنباط.

* الحدس: يقول ديكارت في الحدس، في القاعدة الثالثة من قواعد لتوجيه العقل، ما يلي:

"لا أعني بالحدس الشهادة المتقلبة للحواس، والحكم الخادع للخيال ينشئ موضوعه انشاء سيئا. بل أقصد بالحدس تصور يُصدره ذهن خالص، منتبه، مستعد، وهو تصور يمثل حقيقة، نتيجة، تُفهم مباشرة، دون الشك في صحتها، بعد تعقلنا لها وفهمنا لها. أو أنه بتعبير آخر التصور اليقيني لذهن خالص، منتبه مصدره نور العقل وحده. وما دام الحدس بسيط، كل هذه البساطة، فهو بعينه اليقين. وهذا يمكن، مثلا، لكل منا، أن يتبين بفضل الحدس، أنه موجود، وأن المثلث يتعين بثلاثة أضلاع فحسب، وأن الكرة مثلا مستديرة الشكل."

وهذا ما يقصده ديكارت بالمعرفة المباشرة، أو الإستعداد العقلي الذي يدرك الحقائق البديهية التي يسلم بها الإنسان ولا يتطرق إليها الشك. ثم إن الحدس أيضا لا يمكن البرهان عليه لبداهته. وإن أردنا أن نبرهن على فكرة حدسية فإن ذلك يعتبر عبثا لا طائل تحته، لأن الفكرة الحدسية واضحة بذاتها بلا برهان. ومن ثم يرى ديكارت أنه لو بدأنا في الفلسفة بمجموعة من الأفكار الحدسية لكان ذلك أساسا متينا لإقامة المعرفة اليقينية. ويبرهن على صدق قوله هذا بثلاثة بديهيات متتالية في خطاب في المنهج كما يلي:

البداهة 1: وجود الذات المفكرة

يتساءل ديكارت في موضع من كتابه "خطاب في المنهج" قائلا: ما طبيعة الذات؟ من أكون أنا؟ ما هو الحيز الذي تنتمي إليه هذه الأنا؟

ويجيب قائلاأن كل شيء موجود ضمن أو داخل حيز وجوده، الفضاء موجود في حيز الفضاء...، نفس الأمر بالنسبة للذات المفكرة، فمن منطلق شكي في كل شيء، إلا في أنني أشك، أي في عملية التفكير، فإن هذا يدل على أن الأنا موجودة في حيز التفكير، وعليه، فإن جوهرها الفكرة، وأنها تفرض وجود الفاعل الذي يمارس فعل التفكير.

(Je suis donc une chose vraie, une chose existante. Mais qu’elle est la nature de cette chose ? je suis précisément une chose qui pense, le sujet pensant.) René Descartes

ولكن، إذا كانت الأنا في جوهرها تفكر، ففي ماذا تفكر؟

أفكر في حيز الوجود، في الطبيعة، في المكان، في المادة التي جوهرها الإمتداد الذي لا يفكر. أفكر في الشيء الذي لا يفكر ويمتد. من هنا ينتقل إلى البداهة الثانية.

البداهة 2: وجود موضوع التفكير

ما دامت ذاتي تشك فهي تفكر في الوجود، وعليه، فإنها تفرض الفاعل الذي يتصرف في المادة الخارجية بفعل التفكير. Parce que  y a pas d’actions sans acteurs، وما دمت موجود، فهناك حيز يضمن وجودي.

من هنا، يقيم ديكارت ثنائية العقل والوجود، أو العقل والمكان، التفكير والامتداد، الذات والمادة، النفس والجسد.

والإمتداد هو العنصر الذي يمكن معالجته رياضياتيا بغية تحديد حقيقته، لتأسيس معرفة علمية حول مادة معينة. لأن العلم لن يصبح علما إلا بعد استخدام التقدير الرياضي في تحديد طبيعة الأشياء. بمعنى أنه كي ندقق في المعرفة ينبغي تكميمها كما أن القانون المتحكم في العلم يتمثل في اخضاع الظواهر الطبيعية، الأشياء، الإمتداد أثناء دراستها من أجل استكناه حقيقتها من ماهيتها إلى صيغ المعادلات الرياضية. فالمادة في جوانبها الكمية هو الشيء القابل للحساب أو الجوهر القابل للقياس والتحليل والتقدير الرياضي. فحقيقة الماء مثلا ليست السائل أو العنصر الذي تقوم عليه الحياة، بالتعبير الأدبي،  – حسب ديكارت – بل فضلا عن ذلك هو H2O ذرة هيدروجين وذرتين أوكسيجين، ولمعرفة ماهية الماء هذه يتعين علينا تحليل طبيعة الماء تحليلا رياضياتيا بتحويلها إلى معادلة رياضية.

 يقول ديكارت في هذا الصدد ما يلي:

Connaitre l’étendu c’est de faire quantifier son essence, par la transformation de la nature en formules mathématiques, c’est a travers la mathématisation de la nature.

البداهة 3: مسألة وجود الإله

وجود الإله فكرة حدسية ومعرفة مباشرة. نسلم بها ومن المستحيل تطبيق المنهج الرياضي أو البرهان التجريبي عليها، لأن وجود الإله لا يمثل كمية معينة يمكن تكميمها أو حسابها رياضياتيا مثل ما هو الشأن بالنسبة لمادة الماء أو شمع العسل. ومن هنا يستنتج ديكارت أنه لا يمكن قياس الإله أو تقديره تقديرا رياضيا، فهو خالق وموزع الملكة، وواضع الوجود، بل فضلا عن ذلك، إن الامتداد يفرض فكرة وجود الخالق الإله مثلما تفرض الأنا الفاعل الذي يتصرف في موضوع المعرفة.

* الإستنباط: ويعني الإستنباط؛ انتقال الذهن من قضية أو عدة قضايا هي المقدمات إلى قضية أخرى هي النتيجة. وليس من اللازم أن يكون هذا الانتقال من الكلي إلى الجزئي. يقابله المنهج الاستقرائي، الذي ينتقل فيه العقل من الظواهر إلى القوانين. وأوضح صورة للاستنباط البرهنة الرياضية التي يتم فيها الانتقال من الشيء إلى ما يساويه، كقولنا: 1+1= 2.

والإستنباط عند ديكارت هو الانتقال من فكرة حدسية إلى نتيجة تصدر عنها صدورا مباشرا، أي دون تصور أي نقيض أو نتاقض أو تعارض، مثلما هو عليه الحال في المنهج الجدلي، ومن ثم تكون النتائج المستنبطة حدسية.

من هنا يثور ديكارت على أنصار المنهج الجدلي بصريح عبارته التالية:

"أعترف أنني ولدت وفي نفسي نزعة عقلية، تجعلني أجد اللذة القصوى في اكتشاف الحجج بنفسي. لا للإصغاء للغير. وقد كان هذا دافعي الوحيد لدراسة العلوم منذ حداثة سني. بالتركيز، لا على المنهج التجريبي ولا على المنهج الجدلي، بل على علم الرياضيات. في مقابل الجدليين الذين ليس بقدرتهم تكوين حقيقة صحيحة تعكس نتيجة صادقة يقينية. من هنا فإن الجدليين ليس بامكانهم تعلم شيئا جديدا بالانتقال من قضية إلى قضية ثم المركب، لأن الجدل حسبي، لا فائدة فيه أصلا لمن يريد البحث عن الحقيقة، وأنه قد يفيد في بعض الأحيان، وإنما لأجل عرض بسيط لحجج كانت معروفة من قبل. وعلى ذلك، وجب نقل الجدل من الفلسفة إلى البلاغة. إن غرضنا من العمل على تأسيس منهج رياضياتي، لا يقتصر فقط على عرض الحجج أو الأفكار، بل فضلا عن ذلك، نقصد اكتشاف حقيقة الأشياء. غرضنا من مراعات المنهج الرياضي الوصول إلى الحقيقة الباطنة للظواهر الطبيعية."

وطالما أن ديكارت كان معجبا بالرياضيات وقواعدها وأسسها فقد أراد أن تتم عملية الاستنباط الفلسفي بنفس طريقة الاستنباط الرياضي، بمعنى الكلمة، أراد أن يربط البرهان الفلسفي بالمنهج الرياضي الذي له أربعة قواعد نعرضها كما يلي:

- قواعد المنهج عند رينيه ديكارت:

* قاعدة البداهة أو الحدس: يقول ديكارت في هذا السياق ما يلي نصه:

"ألا أسلم بشيء على أنه صدق إلا إذا كنت أعلم أنه كذلك، ومعنى ذلك أن أحذر من كل تسرع أو ميل إلى الهوى، وألا أدخل في حكمي شيئا أكثر مما هو حاضرا أمام عقلي في وضوح وتميز. بحيث لا أجد مبررا للشك في صحته."

ويمكن أن نسمي هذه القاعدة البداهة أو الحدس أو اليقين؛ لأن ديكارت يريدنا أن لا نتقبل فكرة ما شائعة أو مقبولة بين جمهور المفكرين، وإنما يريد لنا الاستقلال الفكري بعيدا عن الموروث الثقافي التقليدي، لهذا يدفع بنا إلى تربية ملكة الحكم والقدرة على النقد. ومن آفات الفكر الإنساني الميل إلى الهوى والتسرع في الحكم دون تمحيص.

* قاعدة التحليل: يقول ديكارت عنها ما يلي:

"أن نقسم كل مشكلة نتناولها بالبحث إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء بمقدار ما تدعو الحاجة إلى حلها على أكمل وجه."

وأسمي هذه القاعدة بقاعدة التحليل وهي قاعدة أساسية في أي منهج يراد به الدقة سواء في مجال الفلسفة أو العلم أو حتى في مجال الفنون. كل بحث يتطلب تحليلا، والقدرة على التحليل تلازمها قدرة على النقد. ومن المفترض أن تكون القضية الخاضعة لعملية التحليل معقدة، لأن البسيط غير محتاج للتحليل، فالمشكلة المعقدة هي التي يلزم تحليلها إلى أبسط عناصرها حتى نزيل عنها الغموض وبالتالي، يسهل التعامل معها. 

* قاعدة التركيب: يقول ديكارت ما يلي نصه:

"أن أرتب أفكاري بادئا بأبسط الأشياء وأسهلها معرفة ثم أصعد خطوة خطوة صعودا متدرجا حتى أصل إلى معرفة ما هو أعقد وإذا اقتضى الحال فرضت ترتيبا معينا بين الأفكار وهو ما ليس من طبيعتها أن يتبع بعضها بعضا."

وأسمي هذه القاعدة بقاعدة التركيب والتأليف. والمقصود بها أننا بعد عملية تحليل المشكلة التي أمامنا إلى عناصرها الأولى نعود فنؤلف تلك العناصر من جديد. فهناك من المشكلات ما يبدو عسيرة الحل، صعبة الحل في مجموعها، فإذا حللناها إلى عناصرها تبينا إمكان حلها، لكن بشرط أن يكون التركيب أو التأليف منطقيا، فليس من الضروري أن يتبع نفس الترتيب الأول، بل قد يكون الترتيب الجديد مقصودا لذاته.   

* قاعدة الإحصاء: ويظيف ديكارت بخصوص هذه القاعدة ما يلي:

"ينبغي في كل حال أن أقوم بالإحصاءات التامة والمرجعيات الكاملة بحيث أوقن أنني لم أغفل من جوانب المشكلة شيئا."

وتسمى هذه القاعدة بقاعدة الإحصاء أو التحقيق، ويقصد بها الثقة في أننا لم نغفل أي جزء من المشكلة، ويشير هنا ديكارت إلى الأسباب التي تدفعنا إلى إعادة تحقيق عملية رياضية معينة، من بينها: أمراض الذاكرة، أن الإنسان بطبيعته مصاب بأمراض السهو والخطأ والنسيان.

ويقصد بها أيضا ألا نستبقي شيئا في الذاكرة غير الأفكار الحدسية، بحيث يستند كل عنصر بسيط إلى فكرة حدسية.

من كل ما سبق ذكره، نستنتج، أن المنهج عند ديكارت عبارة عن جملة قواعد مؤكدة، تعصم مراعاتها ذهن الإنسان من الوقوع في الخطأ، وتمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته، دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة.  

 

 

 

  

  

 

 

 

آخر تعديل: Thursday، 9 November 2023، 7:24 PM