مسألة المنهج عند جون ستيوارت مل

1- تمهيد:

        يحسن بنا، من الناحية المنهجية لفت الإنتباه، إلى أن الفلسفة التجريبية في بريطانيا العظمى مثلت ثورة راديكالية، وهي حركة فلسفية اكتست أهمية كبيرة قادها فلاسفة نفعيون إبان العقود الأولى من القرن التاسع عشر. وكانوا أبناء عصر التنوير، تجريبيين من حيث المنهج، متحمسين إلى فكرة مفادها ن إمكانية تحقيق تحرير الشعوب والتقدم الاجتماعي هو أمل ترشده معرفة علمية عملية تجريبية.

      هذا، وقد كانوا يؤمنون بضرورة توجيه روح العصر الحديث، التي تعمل لخير البشرية، بتوجيهات صحيحة علميا ونافعة من الناحية العملية، فكانوا شكاكا ووضعيين إزاء المشكلات الميتافيزيقية المفارقة للواقع المعيش كما رفضوا الفلسفة اللاهوتية.

ولا ريب، في أننا نجد من بينهم: حيريمي بنتان، دافيد هيوم، وجون ستيوارت مل. فمن يكون هذا الأخير؟ وكيف جائت أفكاره الرافضة للميتافيزيقا والفلسفة المثالية وفلسفة الدين ومسألة القضاء والقدر؟

2- نبذة عن حياة جون ستيوارت مل: 

كان أعظم الفلاسفة النفعيين، تعلم اللغة اليونانية في سن الثالثة من عمره. كما تعلم اللغة اللاتينية في سن الثامنة من عمره، وبعدها تعلم الحساب وقواعد اللغة الإنجليزية.

اطلع على قدر كبير من الأدب اليوناني والروماني في طفولته. وعكف على دراسة المنطق والإقتصاد في مرحلة طفولته. بحيث كان جيمس مل الأب هو من يختار له أعمال التاريخ والروايات والشعر، وكلها كانت تُختار له بدقة.

قضى عاما في جنوب فرنسا، وهو في سن الرابعة عشر من عمره، مع شقيق جريمي بنتام، اكتسب العادات الفرنسية وقرأ الأدب الفرنسي وتعلم اللغة الفرنسية.

وفي سن السادسة عشر عاد إلى لندن حيث درس القانون الروماني، وقرأ أعمال جريمي بنتام المتعلقة بالفلسفة النفعية، فأصبحت هذه الأخيرة أساس تفكيره.

وبعدها قرأ جون لوك ودافيد هيوم فتأثر بمسألة العلية والإنطباعات الحسية التي، على أساسها، سيغير نظرته أو موقفه إزاء مصدر الرياضيات.

ودرس باللغة اليونانية كثيرا من كتب أفلاطون الذي أعجب به باستمرار.

من هنا، فإنه قد تأسس جيدا في الفلسفة البريطانية والفلسفة الفرنسية والفلسفة اليونانية.

ولما بلغ سن السابع عشر حصل له والده جيمس مل على وظيفة في شركة الهند الشرقية، لكنه ما فتئ أن استقال منها بعد عامين عندما حكمت بريطانيا العظمى الهند، وبعد وفاة زوجته، أكمل كتابه العمدة الموسوم ب: "الحرية"، وبعضا من مقالاته المهمة ومنها: "الحكومة النيابية"، و"المذهب النفعي"، و"المقالات الثلاث في الدين".

3- موقف جون ستيوارت مل المناهض من الفلسفات المثالية العقلية:

مل فيلسوف تجريبي، تابع تراث فرانسيس بيكون وجون لوك ثم دافيد هيوم. فكان يرى أن كل معرفة، تأتي من التجربة، والتجربة تنحل في النهاية إلى احساسات، وهي انطباعات حسية، تتسكل على اثرها معارفنا بالعالم الخارجي في عقولنا.

اعتقاد مل، من حيث أنه فيلسوف تجريبي، ينصب على موضوع مناهض لموقف المثاليون والعقلانيون إزاء أصل المعرفة ومسألة الجوهر.

بحكم أننا لا نعرف الجوهر أو الحامل بكيفية وراثية أو فكرية ما يعتقد روني ديكارت، أو بطريقة قبلية كما كان يعتقد إمانويل كانط. فالجوهر حسب اعتقاده لا يلازم خصائص معينة. إن البرهان العقلي، لا بد أن ينتقل بالضرورة، من ظاهرة طبيعية معينة أو من حدث معين إلى طبيعة أخرى أو حدث آخر لتتشكل معرفتنا بهذه الظاهرة أو الحدث. وهذا هو معنى السببية عند دافيد هيوم.

ولأن مل، بصفته تجريبيا، ينطلق من فكرة مفادها أن الصفات أو الأنواع الحقيقية كما يسميها، توجد في العالم المعيش، في الطبيعة الخارجية، فهي محايثة للطبيعة. إن قولنا أن الغراب أسود اللون، يدل على أن فكرة اللون طبيعية، نوع حقيقي أصله الطبيعة الخارجية أو المادة. وهي ليست فكرة مجردت غرست في ذهن الإنسان كما يعتقد الميتافيزقيون.

ومثل هذه الظواهي هي أنواع حقيقية، واقعية، ليست عرضية، وليست تصنيفات تعسفية وضعناها من أنفسنا أو عقولنا، بل فضلا عن ذلك طبيعية من حيث أصلها ومصدرها، إنها موضوع عملية التفكير أو سميها مادة التفكير.

وهذا ما يدل – حسب مل – ععلى مسألة حضور أسباب حقيقية في الطبيعة تحدد معارفنا. وهو نفسه تصور مل للعلة الذي يشبه ما يطلق عليه دافيد هيوم تسمية مبدأ العلية الذي مفاده أن:

الحدث الذي يسبق حدثا على الدوام يكون علته.

والجدث الذي يتبع حدثا آخر على الدوام يكون معلوله.

وعليه، تقرر العلية ملاحظاتنا لتتابع الأحداث (العلة والمعلول). وتثبت بذلك وجود حتمية طبيعية.  وتنفي حضور كائنات غيبية مختيئة قد تنقل علة المعلول، أو أنها تحدد الظاهرة الطبيعية أو العلو والمعلول. لأن الأنواع الحقيقية موجودة في العالةم الخارجي، أكثر من ذلك إنها هي الطبيعة في حد ذاتها.

مثال:

نحن ندرك باستمرار حدثا، وليكن (أ)= ظاهرة طبيعية معينة كالنار.

يتبعه حدث آخر، وليكن (ب)= ظاهرة طبيعية تفسر السابقة عنها وهي الحرارة أو الإحتراق أو الخطورة.

ينتقل كل هذا إلى أذهاننا ويتشكل في صورة انطباع حسي يمثل أفكارنا وإدراكنا للعالم الخارجي.

فنستنتج مباشرة أن (أ) هي علة (ب)، وأن:

(أ‌)   الظاهرة الطبيعية، الأنواع الحقيقية، هي علة (ب) التي هي أفكارنا حول الطبيعة والأنواع الحقيقية الواقعية.

وعليه، فجون ستيوارت مل الذي يقبل مسألة الأنواع الحقيقية ومبدأ العلية كمصدر لمعارفنا، إنه يؤكد أن تحويل الطبيعة عبر انطباعات حسية إلى ذهننا يشكل معارفنا الصحيحة.

وهو لا يرد تحويل الطبيعة، وصحة قوانين فكرنا، كما فعل كانط إلى تراكيب قبلية يتألف منها ذهننا. بل يرى أن معارفنا هي نتيجة التجربة، تحصلنا عليها بصورة استقرائية. من هنا راح ينكر القول بالحقائق التي تعرفها بصورة قبلية كما زعم المثاليون. فكل معرفة تتكون أساسا من التجربة الحسية. ولا يستثني الرياضيات من ذلك.

لأن قوانين العدد مستمدة من ملاحظتنا أو مشاهدتنا أشياء مادية، طبيعية، في جوانبها الكمية فقط. إننا نتعرف على العدد من خلال الظواهر، وليس بضرب من ضروب المطلق؛ إنه موجود في العالم الخارجي كنوع حقيقي.

كما كان ضد كل من يقول بغياب مبدأ العلية في الإرادات البشرية.

ويقول بحضور حتمية اجتماعية تحدد ارادات وحريات الأفراد.

وأن الطبيعة البشرية تخضع حتما لقوانين العلية الاجتماعية.

لأن كل إرادة بشرية لها عللها في طباع البشر ودوافعه.

ولا بد أن توجد تلك العلل، بصفة أساسية، في تربية الشخص وبيئته الطبيعية والاجتماعية.

فالإنسان ليس على استعداد فطري أو وراثي – حسب مل – من حيث أنه فيلسوف تجريبي. أو أن الإنسان تقدر له كائنات خارجية ما يفعله. بل إن مل يؤمن بأن إراداتنا ينبغي أن تكون عللا فعالة في العالم. فرفض بذلك مذهب القضاء والقدر.          

آخر تعديل: Thursday، 19 October 2023، 6:04 PM