المحاضرة الأولى: النشأة والتطور

1- مدخل عن التوجيه والإرشـاد المدرسي:

     يعد التوجيه والإرشاد من المجالات التطبيقية التي تدخل ضمن مهن المساعدة النفسية والتربوية، وقد زادت الحاجة لخدمات هذا التخصص في الوسط المدرسي نظرا لتزايد أعداد المتمدرسين وتفاقم عدد كبير ومتنوع من المشكلات الانفعالية والتعليمية والسلوكية، وهذا في ظل تعقد المجتمعات الحديثة وظهور إفرازات تعود لطبيعة التنظيمات الاجتماعية والتغيرات التي حدثت على مستوى الأسرة وكذا التغيرات التي أحدثتها التكنولوجيات الرقمية مما افرز ظواهر تستدعي التدخل وفق مناهج نمائية و وقائية وأخرى علاجية، وهو ما يعمل من اجله كل من التوجيه والإرشاد في الوسط المدرسي، وقد ساهمت العديد من العلوم والحقول المعرفية على شاكلة علم النفس وعلوم التربية وعلم الاجتماع وكذات قاطعاتها المختلفة من بلورة موضوع التوجيه والإرشاد وكذا تحديد طرقه ووسائله إضافة إلى مناهجه.

2- النشأة والتطور:

   إن فعل التوجيه والإرشاد بالمفهوم السطحي يعود لأزمنة غابرة حيث كان يقوم به رجال الدين ورجال العلم والفلاسفة والمصلحين على وجه الخصوص، حيث يتمثل دورهم في  تقديم النصح والإرشاد بغية توجيه الأفراد نحو الطرق السليمة في التربية والتعليم والسلوك العام والأخلاق الفاضلة، إلا أن التوجيه والإرشاد بالمفهوم الحديث فتعود بوادره إلى بداية القرن الماضي، حيث كان نتيجة لجهود العديد من العلماء في مجموعة من العلوم، والتي تعود إرهاصاتها الأولى إلى الحركة الطبيعية في التربية التي سادت عصر التنوير في أوروبا، وكذا بحوث العلماء في علم النفس التجريبي وعلم النفس الفارقي، وعموما فقد عرفت نشأة التوجيه والإرشاد مراحل عدة وكلا منها امتازت بخصائص معينة وكان لها الأثر البالغ في تحديد مفهوم وتطور كل من التوجيه والإرشاد وتحديد مجالاته ووسائله وتقنياته. 

1-2 مرحلة التركيز على التوجيه المهــني:

بدأت هذه المرحلة في أمريكا خلال فترة الكساد الاقتصادي التي سادت بدايات القرن الماضي تعتبر مهد حركة التوجيه والإرشاد، حيث قام فرانك بارسونـز Frank Parsons بنشر كتاب بعنوان اختيار مهنة عام 1908 والذي حاول من خلاله إيجاد وسائل تمكن من وضع الشخص المناسب في المهنة المناسبة له، وخلال تلك الفترة كان الإرشاد يعتبر أسلوبا معاونا في جمع المعلومات عن الفرد وعن المهنة مما دفع بالمختصين إلى استخدام الوسائل والأساليب السيكولوجية من مقابلات واختبارات وما إلى ذلك لتحليل الفروق بين الأفراد وكان لذلك أثر إيجابي في نشأة الإرشاد النفسي فيما بعد ولكن نتج ذلك  أثـران سلبيان هما:

1- إن مهمة التوجيه أصبحت تعتبر مجرد عقد جلسة أو جلستين مع العميل قبل دخوله المهنة.

2- أنه ارتبط بالاختيار المهني(القاضي وآخرون،2002، ص27)

و يعود ذلك للتطور والتعقيد الحاصل في الآلات الصناعية مما أدى إلى بروز التخصص المهني وظهرت مشكلات أخرى تتعلق بالبطالة وأوقات الفراغ والتقاعد مما زاد في الاهتمام بشؤون الموظفين والعاملين وفي أسس اختيارهم وكذا توزيع الأعمال عليهم وكذا معرفة قدراتهم الإنتاجية.(الحلبوسي وآخرون،2002، ص20).

   2-2 مرحلة التركيز على التوجيه التربــوي:

في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أيد ثورندايك Thorndike آراء جون ديوي John Dywi من حيث تحول الاهتمام إلى نمو الطفل بدلا من المادة التي يتعلمها.(عبد العزيز وعطيوي، 2004، ص12).

فاتجه التفكير إلى توجيه الأولاد في المدارس وكذلك إلى الطبيعة التربوية لعملية الإرشاد، فقد اتضح لدى كثير من العاملين في المجالات التطبيقية التربوية أن هناك هوة واسعة تفصل بين ما يتلقاه التلميذ في المدرسة وما يواجهه في الحياة العملية، وأن هناك ضرورة لسد هذه الثغرة، من هنا أصبح ينظر إلى التربية على أنها نوع من التوجيه، فالتوجيه التربوي هو توجيه من أجل الحياة.(القاضي وآخرون،2002، ص18) ومن اجل العمل وهو ما تدعو إليه التربية التقدمية.

وتعتبر الرسالة التي نشرها تـرومان كيـلي Truman. L. Kelly لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة كولومبيا عام 1914 أول محاولة جدية في مجال التوجيه التربوي Educational Guidance، وكان هدف التوجيه محدودا في مساعدة الطالب على اختيار نوع الدراسة الملائم له وفقا لاحتمال نجاحه، وكان يرى في هذه المرحلة خطوة سابقة تأتي قبل التوجيه المهني.(محمود هنا، 1959، ص16).

3-2 مرحلة الصحة النفسـية والإرشاد العـلاجي:

في الثلاثينات من القرن الماضي بدأ الإرشاد العلاجي يتمايز عن كل من الإرشاد المهني والتربوي حيث أخذ يركز على المشكلات الشخصية وكان يعرف ذلك الوقت باسم الإرشاد الشخصي Personal Counseling وكانت البداية الجادة على يد سيموندز Symonds سنة1931في كتابه "تشخيص الشخصية والسلوك" Diagnosing Personality and Conduct، وكذا كتاب ويليامسون Williamson بعنوان "كيف نرشد الطلبة How to counsel students" عام 1939.

 كما أثرت مفاهيم التحليل النفسي على يد سيجموند فرويد Freud في زيادة الاهتمام بالصحة النفسية ونمو الإرشاد العلاجي الذي اهتم بالمشكلات الشخصية والانفعالية، وفي العقد الخامس ظهر الإرشاد غير المباشر الممركز حول العميل على يد كارل روجـرز Rogers بظهور كتابه "الإرشاد والعلاج النفسي"عام 1941 وأصبح التركيز على الأفراد والعملاء بدل من التركيز على المشكلة. وما يميز هذه المرحلة بداية بروز المدرسة الإنسانية في الإرشاد النفسي.

 هذا دون أن ننسى حركة علم النفس المدرسي والتي بدأت على يد الدكتور آرنولد جيزل عام 1915 الذي عين للإشراف على برنامج الاختبار في مدارس كينتاكي، وتلاه فيما بعد كثير من البرامج التي تهتم بدراسة تحسين نمو الأطفال ونضجهم، إضافة إلى هذا ما قدمته حركة الصحة العقلية والتي تأثرت بالتقرير الذي قدمه أحد النزلاء بمستشفى الأمراض العقلية عام 1908 وهو كليفورد بيـرز والذي اختار لمذكراته عنوانا هو( العقل الذي اهتدى إلى نفسه) وذكر فيها أن الإصلاحات الخاصة برعاية الأمراض العقلية وعلاجها قد تأخرت أكثر مما ينبغي، حيث نادى بضرورة نشر المنطقية وإلى التفكير السليم حتى تتهيأ للناس حياة سليمة، وقد أدى ذلك إلى تأسيس الجمعية القومية للصحة العقيلة عام1951، وقد قامت هذه الجمعية بالدور الريادي في الإشراف على الخدمات التعليمية والتنظيمية التي تستهدف النهوض بالصحة العقلية، وكان لمثل هذه المساعدة دور كبير في معاونة المدرسة بمعالجة الحالات المتطرفة لسوء التكيف.( مورتنسن، شمولر، ترجمة حافظ و خليل، بدون سنة ص ص 42، 43).

4-2 مرحلة قياس الفروق الفردية والاختبارات النفـسية:

كانت بداية القياس النفسي في مجال علم النفس التجريبي على يد ويلهلم فوندت الذي حاول أن يخضع الظواهر النفسية والعقلية إلى قياسات المنهج التجريبي شانها شان الظواهر الفيزيقية عام 1879، إلا أن ميدان القياس النفسي لم يعرف تطورا مثل ذلك الذي أحدثته دراسات علم النفس الفارقي أو ما يعرف بالفروق الفردية، هذا الميدان الذي لم يكن من اهتمامات علم النفس الذي كان يبحث عن القوانين المفسرة للسلوك الإنساني أي قضية التعميم والتشابه، وليس عملية الاختلاف والفروق، فمن المفارقات أن هذه القضية لم يثيرها في البداية علماء النفس بل علماء الفلك فيما اشتهر بقضية مرصد جريتيتش، حيث حدث فى عام 1796م أن طرد مدير مرصد (رويال) بجرينتش مساعده(كينبروك) من وظيفته بسبب الفرق الثابت فى 18 ثانية بين ملاحظاته لمسار النجوم وملاحظات رويال لها، حيث أرجع مدير المرصد هذه الفروق إلى عجز (كينبروك) واتهمه بالتقصير الذي أدى إلى طرده فيما بعد، وفى عام 1816م ونتيجة لتفحص الباحث الفلكي (بيزل) سجلات المرصد أثارت انتباهه هذه الحادثة فأهتم بدراستها فلاحظ أمرا مهما وهو وجود اختلافات جوهرية بين الملاحظين الذين تعاقبوا على المرصد، واستنتج بان التأخر الذي يسجله الملاحظون لا يعود إلى تقصير منهم بل إلى ما يعرف بزمن الرجع لديهم وسماها (المعادلة الشخصية للملاحظين المختلفين)،(الامارة، 2014، ص18). 

وفى هذا اعتراف بأن الذي كان يعتبر خطأ في حادثة جرينتش إنما هو مظهر من مظاهر الفروق الفردية، وقد أدى هذا الحادث التاريخي إلى اهتمام الباحثين فى النصف الأول من القرن الـ 19 بقياس الفروق الفردية.

ويعتبر فرانسيس جالتون Galtonمن بين الأوائل الذين عملوا على دراسة ظاهرة الفروق الفردية حيث ركز اهتمامه في البحث في الوراثة والعوامل الوراثية أي المميزات التي يتشابه ويختلف فيها الأقارب، وكان له الأثر البالغ في إعداد عدد كبير من الاختبارات النفسية، حيث قام في البداية بإجراء العديد من القياسات في مجال الفروق في الحواس لدى الأفراد.

ففي سنة 1889م أنشأ (جالتون) معمل لقياس الحواس والمتغيرات الإنسانية وفيه عمل على قياس حدة البصر والسمع والقوة العضلية وزمن الرجع ووظائف حسية حركية بسيطة أخرى، ثم جمع أول وأضخم مجموعة من البيانات عن الفروق الفردية في العمليات النفسية البسيطة.

كما يعتبر جالتون أول من استخدم أداة الاستبيان والسلم المتدرج في جمع البيانات وكذلك في استخدام منهج التداعى الحر.

 وبعد ذلك جاء (جيمس ماكين كاتل) في دراسة الفروق الفردية وواصل دراساته في زمن الرجع ويعتبر أول من استعمل مصطلح الاختبار النفسي.

و في عام 1895م نشر (بينيه) و(هنرى) مقالة بعنوان (علم النفس الفردي) قدما فيها أول تحليل منظم لأغراض ومجال ومناهج علم النفس الفارق.

أما في سنة 1900م ظهر كتاب (علم النفس الفارق) للعالم الألماني شترنShtern أين حدد معالم علم النفس الفارقي في محاولة الإجابة على الأسئلة الآتية:

1- ما مدى و ما طبيعة الفروق الفردية في الحياة النفسية للأفراد والجماعات؟

2- ما العوامل التي تحدد وتؤثر في هذه الفروق؟ وقد ذكر ( الوراثة،والمستوى الثقافي والاجتماعي والتدريب والتكيف..).

3-كيف تظهر هذه الفروق؟

حيث ناقش شترن مفهومات النمط النفسي والفردية السوية والشذوذ، (سناء سليمان، 2005، ص25).

    ويعد ظهور مقياس الذكاء لبنيه Binet و سيمون الذي ظهر عام 1905 طفرة حقيقية في الاختبارات النفسية، لأنه قدم محكا آخر لقياس المستوى العقلي للأفراد، حيث كان له تأثيرا واضحا في حركة القياس النفسي وإنشاء الاختبارات والمقاييس والتي كانت ذات أثر كبير في تطور التوجيه والإرشاد النفسي، وقد عرفت رواجا في فترة العشرينات والثلاثينات بظهور اختبار ألفا Alpha Test  كأول اختبار جماعي للذكاء في الجيش الأمريكي وتلاه اختبار بيطا bita، ثم قام سترونج Strong عام 1943 بإنشاء اختبار الميول المهنية Strong Vocational Interest Blank. وكثرت معامل علم النفس وبرزت أسماء جودارد Goddard، ثورندايك Thorndike، سبيرمان Spearman، ثرستون Therstone.

   وتطور الاهتمام بالاختبارات والمقاييس النفسية حيث ظهر عام 1956 كتاب بعنوان Mental Measurements Year Book والذي يضم قائمة الاختبارات الجديدة لقياس الذكاء والشخصية وبالتالي ساهمت هذه الحركة في المساعدة على جمع المعلومات عن الأفراد بكل موضوعية ودقة. (حامد زهران، 1980،ص44

وهذا ما أعطى دفعا قويا للمجالات التطبيقية لحركة التوجيه التربوي والمهني على حد السواء.

5-2 بدايات التوجيه والإرشاد في المدارس:

  بدأ التوجيه التربوي في العشرينيات من القرن الماضي  يأخذ اتجاهين:

 الاتجاه الأول: كان يعمل على توزيع التلاميذ على المناهج والمقررات كما كان يساعدهم على التوافق، وكان المعلمون هم الذين يقومون بهذه المهام.

 أما الاتجاه الثاني: فقد بدأ يظهر في ما يسمى بالتوجيه النمائي الذي لا يقتصر على مظهر واحد من مظاهر  شخصية التلميذ، وأول من عبر عن هذا الاتجاه هو بروور 1942 Brweer، الذي وصف التوجيه في المدرسة باعتباره مساعدة التلميذ على فهم وتنظيم وتحسين وتطوير أنشطته الفردية والتعاونية، وبهذا يعتبر طرح بروور خروجا عن التصورات السابقة للتوجيه التي كانت تقتصر على مجرد التوجيه المهني للطلاب، فعمل بذلك على الربط بين كل من التربية والتوجيه. (نفس المرجع، ص50 ).

   و يرى جلبرت رن  عام 1962 Wren,G إن التوجيه في المدارس ظاهرة أمريكية، فليس هناك بلد آخر في العالم يعطي هذا الاهتمام الكبير للطفل كفرد، ولمساعدة الأطفال في سعيهم نحو اتخاذ القرارات التي يجب أن يتخذوها، أثناء فترات نموهم المختلفة، وعليه فالمدارس في الولايات المتحدة الأمريكية تركز على حاجات الطفل ورغباته بقدر تركيزها على تنشئته وتلقينه التراث الثقافي.(سليمان،2015، ص37)

 

 

آخر تعديل: Saturday، 27 May 2023، 9:35 PM